لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ -9- … بقلم: د. النور حمد

 


 

 

   elnourh@gmail.com

        حين استقر المسلمون الأوائل، الذين لجأوا إلى أرض الحبشة، هرباً من عسف قريش، لحق بهم وفدٌ مبعوثٌ من سادة قريش، طالباً من النجاشي إعادتهم إلى قبضة قريش لمعاقبتهم، لكونهم قد خرجوا على دين الآباء والأجداد، ولكونهم قد سفَّهوا الآلهة، حسب ما زعمته قريش. غير أن النجاشي رفض طلب الوفد، رغم أن الوفد جاء ممثلاً للسلطة المسيطرة في مكة. ولابد أن الوفد، ومن ورائه سادة قريش، قد فوجئوا برفض النجاشي لطلبهم. فقد وقف النجاشي مع القلة الضعيفة، ولم يقف مع الأقوياء من وجوه قريش الذين يمثلون السلطة القائمة، القابضة على أعنة الأمور. رفض النجاشي طلب الوفد، ولم يبالِ بالعواقب، أياً كانت! ولا غرابة!! فحين أرسل النبي صلى الله عليه وسلك، أصحابه إلى الحبشة، كان مطمئناً من أن النجاشي سوف يحميهم. فالنجاشي لم يكن ملكاً عادياً، وإنما كان ملكاً يسنده ميراثٌ روحيٌ تليد. فهو من سلالة داوود، وابنه سليمان، أنبياء الله الملوك. فالملك الذي يقف مع الضعفاء ليس ملكا عادياً، وإنما هو ملك يملك حاسة عدلٍ عالية. وحاسة العدل العالية هي أكثر ما يدل على الميراث الروحي المعتق.

بذلك الموقف غير المألوف في تلك الأزمنة، حفظت الحبشة دماء المسلمين الأوائل، وحفظت بذلك نواة الدين الجديد، من الإجهاض الذي كان يتهددها آنذاك. وفي تقديري، أن النبي الكريم رأى أن ينشر بذور دعوته إلى ما وراء البحر الأحمر غرباً، تحسباً لأسوأ الاحتمالات المتمثلة في القضاء كلياً على دعوته. فما لقيه أصحابه من عنتٍ، وعسفٍ، وتنكيلٍ، على أيدي القرشيين، ربما جعله يخشى هلاك تلك القلة، ومن ثم غروب شمس الدعوة الجديدة، الوليدة، في مهدها. ولربما استغرب البعضُ القولَ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان على خشيةٍ من أن يقضي القرشيون على دعوته. ولكن، ما على هؤلاء سوى أن يراجعوا كتب السيرة النبوية، ليروا كيف كان صلى الله عليه وسلم، يدعو ربه في بإلحاح بالغٍ في معركة بدر. فقد جاء في ما رواه عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرفع يديه إلى السماء، حتى يسقط رداءه وهو يردد مستغرقاً في الدعاء والضراعة: ((اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تُهلك هذه ‏ ‏العصابة ‏من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبد!!)). ولقد أشفق عليه أبو بكر حين رآه على تلك الحالة، من الضراعة الملحاحة، فطفق يقول له: ((يا نبي الله كفاك ‏ ‏مناشدتك ‏ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك!!)). ولقد سمعت الأستاذ محمود محمد طه مرةً، يتحدث عن هذا الموقف، حديثاً غاية في الإمتاع، وغاية في نفاذ المعرفة. قال الأستاذ محمود، إن مشهد أبو بكر، هو مشهد المؤمن الذي لا يخالجه شكٌ في وعد السماء، وهذا ما دفعه إلى مخاطبة النبي طالباً منه الكف عن الإلحاح في السؤال: ((يا نبي الله! كفاك ‏مناشدتك ‏ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك))!! قال الأستاذ محمود، إن أبا بكر قال هذا، وكأنه يُذَكِّر النبي بأمر نسيه، أو أنه يطمئنه على أمرٍ شكَّ في تحققه. هذا مع العلم، أن النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أكثر معرفةً من أبي بكر رضي الله عنه بوعد السماء، وأكثر يقيناً منه بأن السماء تنجز ما تعد. غير أن سعة معرفة النبي جعلته يحس شيئاً من الخوف، ومن الخشية. فهو، قد كان من سعة المعرفة بحيث لم يجد نفسه بمأمنٍ من المكر الإلهي كليةً. ولا غرابة!! فالقرآن يقول:((يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب))، (الرعد ـ 39). وعلى كل حالٍ فقد جاء القرآن في نهاية الأمر، ليؤكد استجابة السماء لضراعة النبي الكريم تلك، إذ قال جل من قائل: ((إذ تستغيثون ربكم، فاستجاب لكم، أني ممدكم بألفٍ من الملائكة ‏ ‏مردفين))، (الأنفال ـ 9).

      باختصار شديد، كان مشهد النبي الكريم، يوم بدر، مشهد العارف، المحقق، ذي الذهن المفتوح على مختلف الاحتمالات، وأن مشيئة الله ليست مقيدةًً بأحد من العالمين، مهما بلغ شأنه. ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم، متحسباً للأخطار، التي كانت تتهدد دعوته، كما كان يستبق تلك الأخطار بالتخطيط المحكم. وهذا ما حدا به إلى إرسال طلائع من آمنوا بدعوته، إلى بلاد الحبشة، غربي البحر الأحمر. وما من شك أن اختيار النبي لتلك البلاد، لم يكن اختياراً عشوائياً. فقد قال النبي لأصحابه حين حثهم على الهجرة إليها: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ... وهي أرض صدق))!!  ولذلك، فإنه ينبغي علينا، كمسلمين، أن نتدبر هذا القول النبوي بعناية شديدة، فهو قولٌ مليءٌ بالأسرار العظيمة.

      إشارات النبي للأراضي الواقعة خلف البحر الأحمر، وارتباط هذه الأراضي بالقيم الروحانية، ومن ثم بجانبٍ مهم من مستقبل الدين الإسلامي، كثيرةٌ، ومتواترة. وهي لم تجد، إلى اليوم، حظها من التأمل. ومن أسباب إهمال تلك الإشارات النبوية من جانب البيضان من المسلمين، ارتباط هذه الأراضي بسواد البشرة، ووجود كثيرٍ من الأرقاء الذين استجلبوا إلى الجزيرة العربية، من تلك الجهة. فالتراتبيات العرقية التي كانت سائدة وقتها كانت تضع "السودان" أي القوم ذوي البشرة السوداء، في منزلة أقل من "البيضان". وهذا ما جعل البيضان، لا يحتفلون كثيراً بتلك الإشارات النبوية الثرة ،التي أعلت من شأن هؤلاء "السودان" المجاورين لجزيرة العرب غربي البحر الأحمر. وعلى كل حالٍ فإن مهمة التنقيب عن تلك الإشارات وسبر مدلولاتها، لهي مهمتنا نحن. فالأمر يعنينا نحن، بأكثر مما يعنيهم هم، على الأقل في هذه اللحظة التاريخية القائمة الآن، إلى أن يفتح الله بيننا وبين إخواننا من البيضان، بالحق، وهو خير الفاتحين. ومن أمثلة الإشارات النبوية القوية، عن أرض السودان، ما ورد في شرح الآية 14 من سورة الواقعة، في تفسير ابن كثير، إذ جاء فيها: ((وقد روى من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر، من طريق هشام بن عمارة، حدثنا عبد ربه بن صالح، عن عروة بن رويم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت، ((إذا وقعت الواقعة))،  ذكر فيها: ((ثلةٌ من الأولين وقليلٌ من الآخرين))، قال عمر: يا رسول الله: ثلةٌ من الأولين وقليلٌ منا ؟! قال فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: ((ثلةٌ من الأولين، وثلةٌ من الآخرين))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله: ((ثلةٌ من الأولين، وثلةٌ من الآخرين))، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا، حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)). ولفظة السودان، فيما مضى من الزمان، تعنى أقاليم السكان من ذوي البشرة السوداء في القارة الأفريقية. وكان الجغرافيون العرب يشيرون إلى أن بلاد السودان تقع جغرافياً من جنوب بلاد الملثمين (الطوارق) شمالاً إلى خط الاستواء جنوباً، ومن البحر المحيط غرباً، إلى نهر النيل، والبحر الأحمر شرقاً، أي من الهضبة الحبشية شرقا حتى المحيط الأطلنطي غرباً.

أيضاً، أورد الطبراني، منسوبا إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن)). وهذا الحديث في حد ذاته لشديد الدلالة على أن الأحباش كان يُشار إليهم بـ "السودان". فكلمة "السودان" فيما مضى من الزمن، كلمة تقوم في مقابل كلمة "البيضان". ويدل على ذلك أيضاً، حديث عائشة الذي أورده النسائي: ((جاء السودان يلعبون بين يدي النبي، في يوم عيد، فدعاني فكنت أطلع إليهم من فوق عاتقه، فما زلت أنظر إليهم، حتى كنت أنا التي انصرفت)). وقد ورد حديث عائشة هذا بروايات أخرى، تم فيها استبدال كلمة "السودان"، بكلمة "الأحباش" و"الحبشة". وكل ذلك يدل على أن لفظة السودان كانت تُستخدم لتدل على ذوي البشرة السوداء، والسمراء، الوافدين إلى جزيرة العرب من غربي البحر الأحمر.

      ربما قام في خلد البعض أنني أسعى إلى تأسيس شوفينية إسلامية جديدة، يزهو بها "السودان" في مقابل شوفينية "البيضان" الإسلامية، القائمة حتى الآن. ولكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك. ما أرمي إليه هو الإشارة لوجود روحانيةً كوكبيةً ظلت مدفونة، ومدخرةً، في "الهضبة والسهل"، وما أحاط بهما. وأساس هذه الروحانية فيما أرى، هو توفر حاسة العدل. فالتراكم الروحاني لدى الأمم تعكسه قوة حاسة العدل لدى أفرادها حكاماً ومحكومين. ومشكلة العالم اليوم أساسها غياب العدل، بسبب ضعف الحصيلة منها لأسبابٍ تاريخية، وبسبب تنويمها نتيجة لمختلف العوامل. باختصارٍ شديد، هناك روحانية تجمع أهل الهضبة والسهل، غير أنها تحتاج الاستنطاق، وتحتاج التقعيد في الأطر العصرية. إنها الروحانية الخبيئة التي نتشاركها مع جوهر الدعوة المسيحية، ومع التصوف اليهودي، ومع التاوية، والبوذية، والهندوكية، ومع كريم المعتقدات الروحانية الإفريقية. فحين يحوِّل النابهون من أبناء هذا التراث الروحاني الكوكبي الثر، طاقات هذا التراث، إلى قوة أخلاقية كبرى، تقف في وجه النظرة المادية إلى العالم، وفي وجه الإلحاد الساذج، المتنطع، الناسف للمعنى في الوجود الإنساني، وفي وجه الرأسمالية المعولمة، ووجه التدمير والتخريب الممنهج لروح الإنسان، ولمعنى حياة البشر على ظهر هذا الكوكب، نكون قد انتقلنا بالحالة البشرية المعاصرة، إلى أفق جديد. في هذا الأفق الجديد ننفك من قبضة العقيدة، التي تفرق، ونلج فضاء المعرفة الذي يجمع. نحن، باختصارٍ شديد، بحاجة إلى لاهوتِ تحررٍ "قرن إفريقي" يقف فيه التمسح الإثيوبي، والأرواحية الإفريقية، والتصوف الإسلامي، حذوك النعل بالنعل، من أجل بناء حالةٍ إنسانية جديدة!

      حين نستحضر البشارات النبوية، والاحتفاء النبوي بأهل "الهضبة والسهل"، فإن أقل ما يمكن أن يقال عن الإيواء الحبشي للدعوة الإسلامية الوليدة المستضعفة، أنه ديْنٌ تاريخي، ينبغي على سائر المسلمين أن يحملوه لأهل الحبشة، على أعناقنهم يد الدهر. وأعني هنا "الحبشة بوصفها بيئةً مسيحيةً قديمة". وكما أشرت في الحلقة السابقة، فإن الروايات التاريخية المتواترة، تقول بأن النبي الكريم، استثنى الحبشة من حرب الفتوحات. غير أن المسلمين في ما لحق من القرون، دخلوا إلى الحبشة وأداروا فيها حروبا اتسمت بالفظاظة، والفظاعة، خاصةً تلك التي كانت على يد أحمد بن إبراهيم الغازي، الملقب بالأشول. وكما رأينا في ما أوردتُ في الحلقة السابقة من مقالة سيساي أسيفا، أن بعض النخب من الإثيوبيين يركزون في أمر الأخطار التاريخية التي ألمت بالحبشة، وهددت كيانها التاريخي، ومسيحيتها، على هجومين إسلاميين بعينهما: أحدهما جاء من جهة الشرق، وهو ما قام به أحمد بن إبراهيم الغازي، في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وآخر جاء من جهة الغرب، وهو ما قامت به الدولة المهدية السودانية، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. والغريب أن كلا هذين الهجومين وقفت وراءه دعوى المهدية، والشعور بالاصطفاء الإلهي، والتكليف الإلهي برد الأمور إلى "نصابها"، بالقوة. وارتباط الدعوات المهدية بالعنف أمر له دلالاته، التي تستحق مزيداً من البحث، والاستقصاء، والتحليل وإعادة التأمل. ولسوف أعرض لهذين الهجومين وآثارهما الممتدة، على علاقة الحبشة بالكيانات الإسلامية المحيطة بها، بتحليلٍ موسع، وبشواهد موسعة، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب.

      إن ارتهان العقل الإسلامي في أفق العقيدة وحدها، والاستغناء بموجهات العقيدة وحدودها الصارمة، عن جوهر الدين وروحه شديدة السيولة، هو الذي خلق العداوات، وأبقى على مشاعر الريبة، والتوجس، والكراهية، متقدةً، على مدى الأيام. ولم يخرج من قيد العقيدة الحاضة على العداء، وعلى غزو ديار الآخرين، في التاريخ الإسلامي، سوى المتصوفة. فالمتصوفة بتتبعهم للنهج النبوي، في ما يقع وراء الشريعة، اقتبسوا من النور النبوي أسرار الروح. فهم قد غرفوا من جوهر الدين الخالد، مما جعلهم أكثر فهماً للكل المركب. وهذا ما جعلهم أكثر تسامحاً، وأكثر قدرةً على رؤية الصورة الكلية، للروحانية الكونية المستقبلية. وقد كان كبار مشائخ التصوف، على قلتهم في التاريخ الإسلامي، الطلائع في ذلك الدرب الإنساني الكبير، الذي يقود إلى حالة السلام الكوكبية الكبرى المنتظرة. ولابد لي، وأنا أعالج شأن علاقتنا بجارتنا الشرقية إثيوبيا، من أن أنوه بالنهج المسالم الذي نشر به المتصوفة الإسلام في حزام السافنا الإفريقي، خاصة السودان. فقد قام ذلك النهج على الاستيعاب السلمي للآخر، وعلى قبول الشخصية الثقافية للآخر، واحتوائها في الإطار الإسلامي الكلي دونما إكراهٍ، أو عنتٍ، أو استعلاءٍ عقدي. ولقد أسمى كل من بيراني، وسميث (1998) هذا النهج، بـ "التوليف التدريجي" gradual synthesis.

      لقد استخدم المتصوفة الروحانية، ولم يستخدموا الفقه إلا في حدودٍ، ضيِّقةٍ. فالحدود التي استخدموا فيها الفقه، لم تتعد حدود ما لا تصح العبادة إلا به. غير أن ذلك المزاج الصوفي الرائق الذي ساد مساحة معتبرة من الحقبة السنارية، تعكر بوفود المؤسسة الدينية الفقهية التركية، العثمانية، الأزهرية. وهي مؤسسة لعبت في غزو محمد علي للسودان دور البوق الدعائي الاستعماري. فهي لم تأت إلا لتكون ذراعاً للاستعمار التركي المصري. ولقد انحصر دورها، إلى حد كبيرٍ جداً، في مجرد الترويج لثقافة وجوب الطاعة للحاكم، وترسيخ ثقافة الاستكانة للحاكم، باسم الدين. كما تعكر المزاج الصوفي في السودان، مرة أخرى، بالثورة المهدية، التي رغم أنها خرجت من عباءة التصوف، إلا أنها نَحَتْ منحىً قتالياً قهرياً، لم ينحصر في محاربة الدخيل وحده، وإنما تعدى ذلك إلى المسلمين أنفسهم. فهم إما أن يؤمنوا بالمهدية، ونسخها لكل مذهبٍ، وكل طريقةٍ، وإما تعرضوا للتقتيل، شأنهم شأن "المشركين". فعلت المهدية ذلك، بزعمها لنفسها أنها دعوة خاتمة. ومن هنا تحولت المهدية إلى قوةٍ قامعةٍ للتعدد في داخل القطر، وبحد السيف. كما تحولت أيضاً إلى قوة عسكرية غازية، ذات طموحات توسعيةٍ عريضةٍ، بلغت أحلامها حد توحيد أهل القبلة أجمعين، تحت رايةٍ واحده، هي راية المهدية.

كان العثمانيون والمهدويون من ضمن القوى التي خرقت توجيه النبي الكريم بعدم الاعتداء على الحبشة. وقد حدث اعتداؤهما عليها  في القرن التاسع عشر. غير أنها صمدت لكليهما في نهاية الأمر. ثم قاد حراك القوى الكبرى، وأطماعها التوسعية في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، إضافة لما يسمى بالثورة العربية الكبرى، إلى انحسار الظل العثماني الإمبراطوري، حتى تراجع ذلك الظل الممتد، إلى داخل هضبة الأناضول. وسرعان ما ألمت الأتاتوركية في بدايات القرن العشرين، ببقايا تلك الإمبراطورية الغاربة، فمحتها، وأدغمت تركيا كلياً في إطار غربي حداثوي، فرضته عليها من علٍ نخبها المسيطرة. ثوت الإمبراطورية العثمانية الضخمة في التراب، ولا غرابة!! فالإسلام لم يأت أصلاً ليصنع إمبراطوريات، وإنما جاء ليفكك الإمبراطوريات، ويفتت السلطة، ويعيد للإنسان حريته التي سلبها منه الملوك والأباطرة، والمتحالفون مع الملوك والأباطرة، من أهل الثروة، منذ فجر التاريخ، وإلى يومنا هذا. فكون الثقافات الأخرى غير الإسلامية مفتونة بصنع الإمبراطوريات، لا يعني بالضرورة أن يصنع المسلمون إمبراطوريات، أيضاً. فصناعة الإمبراطوريات ليست، على التحقيق، رسالة الإسلام في مقاصدها القصوى. أما الثورة المهدية، فقد قلبت البلاد رأساً على عقب، ولكن ما لبثت أن خبت جذوتها الأولى، وفقدت مصداقيتها الدينية، حتى وسط أنصارها أنفسهم، فتناثرت أشلاؤها في مساحة السودان الجغرافية الشاسعة، ثم ما لبثت أن خمدت نيرانها، وأخلت المشهد تماماً. ولكن هل غادر شعراؤنا من متردم نوستالجيا التوسع الإمبراطوري، وأحلام إعادة الخلافة، واستعمار الآخرين إسلامياً؟!

      بالإضافة إلى المرارات التاريخية التي تسببت فيها الحروب ذات الصيغة الدينية، فإن استلاب النخب المعاصرة للفكر الحداثوي الغربي، في السهل، وفي الهضبة، قد أسهم بقدرٍ معتبرٍ في استمرار حالة الانفصال، وحالة التباعد، وحالة التوجس القائمة بين البلدين. يضاف إلى ذلك أن تلك النخب، لا تزال تنظر إلى الدين نفس النظرة القديمة المغرضة. وتستخدمه، حين تستخدمه، بنفس الطريقة المتجذرة في ميراث الحروب الصليبية. وغني عن القول، إن اللباس الحداثوي لم يُخرج أوروبا نفسها، إلى اليوم، من حالة الاحتباس في عقلية الحروب الصليبية. فكل معارف عصر التنوير وما تأسس عليها في حقبة الحداثة، لم تحدث تغييراً يذكر في البنية العقلية الغربية الشوفينية النزَّاعة إلى الهيمنة والسيطرة.  فلو أعادت مراكز البحوث والجامعات عندنا، وعند أهل الهضبة، النظر في تاريخ المنطقة، وقرأته على ضوء وعيٍ جديدٍ بالدور المنتظر الذي يمكن أن تلعبه شعوب العالم القديم، في خلق حالة إنسانية جديدة، أفضل، لكنا قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح. أهل السهل وأهل الهضبة بحاجة إلى ثورة فكرية تدفع بدم المكون الروحاني في شرايين التنمية الشاملة. فالرؤية الروحانية الموسعة، وإيقاظ ما نام من حاسة العدل، واستعادة ما انفقد من التوسط، وجعل هموم الفقراء هي الأولوية، هو ما سوف يضع العلاقة بين الحيِّزين في وضعية جديدة، تخرجهما من أطر ومزالق المخاتلات الدبلوماسية الكاذبة، وتدخلهما في أفق التكامل الأخلاقي، الصادق، الصحيح، المعافى. (يتواصل).

 

آراء