لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (10) …. بقلم: د. النور حمد
23 June, 2010
لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (10)
د. النور حمد
elnourh@gmail.com
"تناجي العلماء":
خصَّ الدكتور الفاضل، عبدالله علي إبراهيم، مقالاتي هذه بكلمات شغلن كل مساحة عموده الذي ينشره بالصفحة الأخيرة من صحيفة الأحداث، ليومي الثلاثاء والأربعاء، الخامس عشر، والسادس عشر من شهر يونيو الجاري، على التوالي. وإني شاكرٌ له صنيعه هذا. فتخصيصه كل مساحة عموده لهذه المقالات، ووعده بالمواصلة في الكتابة في شأنها، وحرصه على أن أحرص على ضبط أحكامي وأن أتجنب الإسراف فيها، في بعض الجزئيات، التي يرى أنني لم استند فيها على الحقائق التاريخية، أمرٌ مفيد، ولسوف يكون موضع عنايتي. أما قراءة المعلومة وتأويلها، وتمديد دلالاتها في تخليق المعاني، ونحت الطرق الجديدة، فذلك هو موضع البصمة الفردية، لكل مؤِّل وكل مؤِّلة. ولعل ما قام به الدكتور الفاضل، في تداخله هذا معي، يقع في باب "تناجي العلماء"، الذي طالما نادى به، وهو محقٌ جداً في مناداته به.
لم يعجلني الدكتور عبدالله، في أمري، كما لم يقطع عليَّ خيط أفكاري، بل هو قد أعانني على توخي الضبط، وتجنب الإسراف. وقد كرر اعتذاره في مقالتيه سالفتي الذكر، وما هو بحاجةٍ إلى ذلك، معي. فدوافعه عندي مفهومة وشخصه الكريم ليس موضع اتهامٍ عندي. والدكتور عبد الله، كما هو معروف، قد قام بتدريس التاريخ الإفريقي والإسلامي في جامعة ميسوري، لسنواتٍ عديدة. ولذلك فإن ملاحظاته تجد عندي كل التقدير، والاهتمام. فهي ملاحظات يقف وراءها وزن علمي، كبير. وبطبيعة الحال، إن الكتابة في موضوع شائك مثل هذا الذي أنا بصدده، يحتاج في حده الأدنى لقراءات متنوعة تغطي ما كتبه الغربيون، والسودانيون، والأثيوبيون، وهذا ما سوف يظهر في مراجع مستفيضة ، وفقاً للتقاليد العلمية المعتمدة، وذلك حينما تتحول هذه المقالات إلى كتاب. وسيكون كتاباً كبيراً، إن شاء الله. والكتاب الذي وعدت به أكثر من مرة في هذه السلسلة من المقالات، ليس هو نهاية المطاف فيما أنا بصدده في هذا المشروع، وإنما مجرد ثمرة أولى في موسم حصادٍ قد يطول. غير أن هذا لا يعني أن ينتظر الدكتور عبد الله صدور الكتاب، لكي يعلق على ما أكتبه في هذه المقالات، رغم أنني أرسم هنا خطوط الأطروحة الكلية، بأكثر مما أعكف على التفاصيل. فملاحظاته، وملاحظات غيره من المتابعين، مُرَحَّبٌ بها في أي وقت، وسوف تكون معينةً بلا شك. ولابد لي في ختام هذا التعليق القصير على مقالة الدكتور عبد الله علي إبراهيم، من أن أشير إلى أنني أنطلق من التشكيك في تماسك الروايات التاريخية التي أحاطت بعلاقة الإمبراطورية الحبشية بالمحيط الإسلامي. إضافة إلى إعادة قراءة هذه الروايات وإجراء مزيد من الحفر والتنقيب ومقارنة القرائن في كل ما أحاط بها. بل، ومحاولة استنطاق ما يمكن أن يكون قد غاب عن التدوين. وأهم من ذلك، أن هذه المحاولة إنما تنحو منحى تغليب النظرة الشاملة الكلية، وإعادة القراءة وفق إطار يستلهم طرائق ما يسمى بالـ futurology، أو "المستقبليات". فالأهم عندي هنا هو تحسس مآلات ما جرى وما يجري الآن، من أجل رسم صورة خياراتنا المستقبلية في المنعطف الكوبي الراهن. إنها محاولة لتخليق إطار تصوري جديد paradigm، والانفلات من الأطر التصورية الماضية، والراهنة. ولسوف تكون روحانية ما بعد الحداثة هي حجر الزاوية في هذه الرؤية. فنحن، والإثيوبيون، والاريتريون بحاجة للانفلات من أطر فكر حقبة الحداثة the modernist paradigm، التي جعلت منا مجرد موضوعات للهيمنة الغربية، ولسيطرة الرأسمال.
عامل العقيدة المهدوية:
جعلتني مقالات الدكتور عبد الله علي إبراهيم أعود مرة أخرى، لأقرأ ورقة إيريس ـ سيري هيرش الموسومة: ((مواجهةُ جارٍ مسيحي: التصور السوداني لأثيوبيا في فترة المهدية الأولى (1885ـ 9188م)، المنشورة في "المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط"، في عددها رقم 44. ناقشت ورقة هيرش مخطوطة (الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش) التي كتبها إسماعيل بن عبد القادر الكردفاني. وملخص رأي هيرش في قراءة مخطوطة الكردفاني تتلخص في أن هيكل كتاب "الطراز" يلف في طياته عوامل متعددة أحاطت بالصراع السوداني ـ الإثيوبي. وهي عوامل تقف وراءها دوافع تاريخية، وعسكرية، واقتصادية. غير أن هذا لا يعني أن القادة المهدويين لم يلجأوا، وبشكل متواتر، إلى الخطاب الجهادي. فالطبيعة الدينية الغنوصية، وارتداء لبوس الدعوة الناسخة الخاتمة، أمر لا يمكننا بحالٍ استبعادة ونحن نحلل سياسات المهدويين وتصرفاتهم. وهذا أمر أكده الدكتور محمد سعيد القدال مستنداً فيه على خطاب المهدي للملك يوحنا، ومن بعده خطابات الخليفة عبد الله. وهذا أمر سأفصل فيه لاحقاً، فهو أمر شديد الأهمية.
ما من شك عندي، أن تضعضعاً للعقيدة المهدية قد حدثت وسط المهدويين، مع مرور الزمن. ولم يسلم من الشك في مطلقية صحة الدعوة، حتى صاحب الدعوة نفسه. فمحمد أحمد المهدي عقب فتح الخرطوم، ليس هو محمد أحمد المهدي الذي انطلق من جزيرة أبا في مبتدأ أمره. فهناك من الروايات الشفاهية المتواترة، ما أشار إلى عدم رضا المهدي بما آلت إليه أمور المهدية عقب سقوط الخرطوم. وحين انتقلت السلطة من المؤسس، محمد أحمد المهدي، إلى الخليفة عبد الله ود تورشين، حدثت هزة أخرى أكبر من كل سابقاتها. فالعقيدة مهما كانت متماسكة، تصبح بمرور الزمن، وتبدل الإطار المحيط، ونمو الوعي الفردي، عرضةً للضعضعة. قال الأصحاب يوم أن أنتقل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله، حتى أنكرنا قلوبنا)). وقد روى الشيخ بابكر بدري في مذكراته، وهو في حالة حيرةٍ واستغراب من تبدل الأحوال الذي ألمَّ به، في نهايات الحقبة المهدوية، قائلاً، إنه في بدايات التحاقه بالمهدية، كان يفتح صدره لرصاص الأعداء، غير مبالٍ بالموت. غير أنه، في يوم كرري كان واقفاً على تلةٍ، ليس بعيداً من الخليفة عبد الله، وهو يرقب جريان المعركة. غير أنه، حسب ما ذكر، كان يراقب، بإحساسٍ يعكس حالةً من الحياد، تجاه ما يجري. بل لقد نم عنه، من وصفه لحاله، ما يشير إلى أنه كان فقط منتظراً أن تنتهي تلك المعركة بنصر الجيوش الغازية، ويتم إغلاق ذلك الفصل من حياته، الذي يبدو أن حالة الإرهاق منه، قد بلغت به مبلغاً عظيماً!!
كل ما تقدم مما أشرت إليه من تغيرات في صلابة العقيدة، وتماسكها، مما طال المهدويين، بمقادير متفاوتة، يضاف إلى ما أشارت إليه هيرش من وجود أكثر من عامل ينبغي النظر فيه لدى تحليل مسارات الثورة المهدية ووقائعها، أمورٌ لا تقلل من قوة تأثير العقيدة الدينية المنغلقة على سياسات المهدية، الداخلية والخارجية. فقد كانت المهدية تتنفس في جوٍ قروسطي، غارقٍ في عزلةٍ معرفيةٍ مطبقة، في وقت كان فيه العالم يعيش لحظة احتشاد المعارف، والصناعات، والاقتصادات، التي ما لبثت أن انفجرت في بدايات القرن العشرين، انفجاراً غيَّر وجه الحياة، الذي عرفه الإنسان، منذ أن خلق الله الإنسان. وتقول هيرش، في نفس الورقة المشار إليها عاليه، مصوِّرةً الأفق المعرفي، لقادة الثورة المهدية: ((إن العالم خارج السودان قد كان مرئياً بمنظورٍ ديني، وليس بمنظورٍ جغرافي)). ويقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في خاتمة كتاب، (الصراع بين المهدي والعلماء)، الصادر في طبعته الثانية، من مركز الدراسات السودانية، في العام، 1994: ((حرَّجت المهدية على معارضيها حين جعلت من نفسها الإسلام الصحيح الوحيد. فمن عادى المهدي فهو في أدبها معادٍ الرسول والإسلام. وهذا دمغٌ دامغ يجعل المعارضة متعذرةً ومستحيلة)). وتدعم هيرش قولها بنزعة المهدية الجهادية التوسعية، بأن الخليفة عبد الله كتب إلى قادة الدول، بما فيها بريطانيا العظمى، طالباً منهم إتباع الدعوة المهدية!! (واربيرغ، وهولت).
ولنا أن نتصور دولةً، كالدولة المهدية، لا تملك سفينةً خشبيةً شراعيةً واحدةً، قادرةً على مخر أعالي البحار، ثم تطلب، بلغة الآمر، الواثق من قدراته، أن تخضع لها من الدول التي من بينها إمبراطورية كبيرة، كبريطانيا العظمى!! علماً بأن الدول المدعوة إلى المهدية كانت دولاً عرفت نظم الدولة الحديثة، كما ملكت أساطيل مكونة من سفنٍ بخاريةً ضخة، وجيوشاً كبيرة حسنة التدريب، مدججة بأسلحةً ناريةً شديدة الفتك، ولها سلطان عريضٍ، طال كل أركان الأرض. الشاهد هنا، أن الدولة المهدوية السودانية لم تكن تعرف الواقع الكوكبي المحيط بها، في أيٍ من مناحيه التي يمكن أن تعين المعرفة بها، على التصرف السليم، وعلى إدارة علاقات الجوار على أساسٍ عقلاني. وبناءً عليه، فإن تعامل الدولة المهدية، مع جارتنا أثيوبيا، لم يخرج من هذه البنية العقلية محدودة الأفق المعرفي. وما من شك عندي أبداً أن الاتصال بالأوربيين، وحمل صورةٍ ذهنية مناسبة لما كان يجري وقتها في المحيطين الإقليمي والدولي، كانت أفضل لدى الحبشة وقتها، مما كان لدى المهدويين. يقول الدكتور المعتصم أحمد علي الأمين، في ورقته المسماة، (الديانة النصرانية في إثيوبيا: عوامل الاستمرار والسيطرة السياسية)، المنشورة في الكتاب الرابع من سلسلة الكتب التي ضمت أوراق المؤتمر الدولي (الإسلام في إفريقيا)، المنشور في العام 2006، إن إثيوبيا كانت لها اتصالات أسهمت في أن تتعرف على العالم الخارجي، كما أسهمت في أن يكون لها إطلاع على أهم الأفكار والمخترعات السائدة في العصر، على عكس جيران إثيوبيا من المسلمين الغارقين في الاختلافات المذهبية، خاصة ما سميت بـ "إمارات الطراز الإسلامي". وأضيف إلى ما تفضل به الدكتور المعتصم، فيما يتعلق بتخلف الدولة المهدوية عن الدولة الحبشية، أن الحركة المهدوية الغيبية ارتدت بالأفق المعرفي الخفيض الذي توفر للسودانيين حينها. فهي قد جاءت بالرعاة السيارة من الإطراف، وجعلتهم يتحكمون في الأكثر تحضراً ومعرفة منهم من أهل المدن المستقرين من سوالف الحقب. ولذلك فإن كل النزاعات التي سادت فترة حكم الخليفة عبد الله يمكن ردها إلى هذا الانقلاب المخالف لطبائع الأشياء، في مضمار بناء الحضارات، الذي أحدثته الثورة المهدية، حين قلبت، رأساً على عقب، البنية التراكمية لهرمية السلطة والقيادة في السودان.
ربما تعين علينا أن نرى حالة النزاع السودانية الإثيوبية التي انتظمت أخريات القرن التاسع عشر، من منظور النخب الإثيوبية، أيضا. وهذا أمر ورد التنويه إلى ضرورة استصحابه، في ورقة هيرش التي سلفت الإشارة إليها. فعلى سبيل المثال، فإن البروفيسر الإثيوبي، سيساي أسيفا، من جامعة غرب متيشجان في الولايات المتحدة الأمريكية، يرى أن علاقات المسلمين بالمسيحيين في إثيوبيا ظلت جيدة منذ لجوء المسلمين الأوائل في بدايات القرن الثامن الميلادي، إلى الهضبة الحبشية، وما تبع ذلك من ترحيب نجاشي الحبشة بهم وتوفيره الحماية لهم. ويشير أسيفا إلى أن النبي استثنى الحبشة من حروب الفتوحات الإسلامية. وبطبيعة الحال فإن في أدبياتنا الإسلامية ما يؤيد هذا الزعم. فقد ورد في السيرة الحلبية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتركوا الأحباش، ما تركوكم)). ويرى أسيفا أن هذا الحال من السلام المتبادل تعكر مرتين: مرة على يد أحمد بن إبراهيم الغازي، في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، ومرة أخرى على يد الحركة المهدوية السودانية، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. وأنا ممن يرون أن كل اضطهاد لقيه المسلمون الأحباش، تنبع كثير من مسبباته من الضغوط الرهيبة التي تعرضت لها الحبشة، لكي تخلع جبتها المسيحية، وترتدي قسراً ذلك الجلباب الإمبراطوري الإسلاموي!
كتب المؤرخ الأشهر، أرنولد توينبي، في كتابه الشيق، الصادر عن دار نشر جامعة أكسفورد في العام 1965، الموسوم: (بين النيجر والنيل) Between Niger and Nile، عن زيارات قام بها لكل من نيجريا، والسودان، وإثيوبيا، ومصر. ويُعد الكتاب المُكَوَّن من 125 صفحة، واحداً من أمتع كتب أدب الرحلات. فالملاحظات المدونة عن رحلاته تلك في هذا الكتاب، ليست ملاحظات شخصٍ عادي، وإنما هي ملاحظات مؤرخ ضليع، مزج التأرخة بالفلسفة، ولف كليهما بثوب النظر الشامل، والفهم العميق لتطور البنية الكلية للحضارة الإنسانية. يقول توينبي في صفحة 41 من كتابه هذا: ((بعد ضم إقليم هرر إلى إثيوبيا، استوطن الأمهريون من المحافظات الحضرية في الريف المحيط بهرر، ووجدوا لأنفسهم موطئ قدمٍ فيه، ولكن من غير أن يزيحوا الفلاحين المسلمين من قبائل القالا، الموجودين أصلاً. ففي مدينة هرر، وفي محافظتها، تبدو العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وبين الأمهريين والهرريين جيدة. وعندما تقابل مثقفاً هررياً مسلماً في أديس أبابا، فإنه يبدو وسط زملائه من مثقفي الأمهرا المسيحيين، وكأنه يجلس في بيته. وفي الحقيقة، يبدو أن إثيوبيا نجحت في بناء المكونات المتنوعة لسكانها وبلورتها في صورة مجتمعٍ موحد. هذا، باستثناء القبائل الرعوية الصومالية، في شبه صحراء أوقادين)) ]الترجمة من عندي[.
الإمبراطور يوحنا:
يرى المسلمون من الإثيوبيين، ومن غير الإثيوبيين، الإمبراطور يوحنا بوصفه أكثر من كره المسلمين واضطهدهم في إثيوبيا. فهو قد أجبرهم على اعتناق المسيحية، وبناء الكنائس، ودفع المكوس. وكل هذه أمور فعلها الإمبراطور يوحنا. غير أنه يتعين علينا أن ننظر إلى حقبة يوحنا بعيدا من منطلقات التعصب العقدي الإسلامي، وبعيداً عن غبائن الجيرة التي ما توقف فيها الشد والجذب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى اليوم. فلربما يتعين علينا، من أجل النظر الموضوعي، أن نحاول إدخال أرجلنا، هوناً ما، في الحذاء المسيحي الإثيوبي، في تلك الحقبة. لابد لنا من النظر الفاحص للظرف الداخلي، والإقليمي، والدولي، الذي أحاط بفترة حكم الإمبراطور يوحنا، (1872م ـ 1889م)، الذي كان يسعى وبشدة لتحقيق وحدة قطرية من دويلات الهضبة المتناحرة. فكل الوقائع التاريخية تقول إن فترة حكم الإمبراطور يوحنا، التي لم تتعد السبعة عشر عاماً، كانت فترة حكمه مليئة بالحروب الداخلية والخارجية. فهو من جهة كان في نزاعٍ مع منليك ملك شوا، الذي حاول المصريون استمالته وتجييره ضد يوحنا. غير أن منليك ما لبث أن أصبح كارهاً للمصريين، بعد أن تحركوا من ميناء زيلا، واحتلوا هرر. وقد كان كلا منليك ويوحنا، يريان أن هرر أرضاً إثيوبية، ولذلك فقد قرب الاستيلاء على هرر، بينهما.
كان الخديوي إسماعيل طامعاً في إثيوبيا، بل وفي السيطرة على كل حوض وادي النيل. وبالفعل فقد جرد المصريون الحملة بعد الحملة على إثيوبيا، مما جعل الإثيوبيين يوقنون أنهم مستهدفين "إسلامياً" من قبل المصريين العثمانيين. في نوفمبر 1875م انتصر يوحنا على الحملة المصرية في قوندت. وفي مارس 1876م انتصر على حملة مصرية ثانية في قورا. هذه الحملات المصرية المتكررة، لا تمثل في نظر المسيحيين الإثيوبيين سوى "حملات إسلامية". وقد كانت واحدةً من أسباب انقلاب يوحنا ضد المسلمين الإثيوبيين، ودفعهم للتنصر قسراً. وبعد عشر سنوات من الحملات المصرية بدأت متاعب يوحنا مع المهدويين من جهة الغرب، والإيطاليين من جهة الشرق. وفي نفس الفترة التي انتصر فيها يوحنا على عثمان دقنة في سبتمبر 1885م، في معركة كوفيت، كان الطليان قد استولوا على ميناء مصوع. كما تمرد عليه في نفس الفترة الأنقاس (الحُكَّام) في إقليمي قوجَّام وشيوا. فأصبح يوحنا يحارب في جبهات مختلفة متباعدة. وتحت كل هذه الضغوط لجأ الإمبراطور يوحنا إلى عقد اتفاقية مع الانجليز أغضبت عليه المهدويين. أما في جانب الدولة المهدية فإننا نجد أن قبيلتي الضباينة والشكرية، أكبر قبيلتين سودانيتين في الإقليم السوداني الشرقي المتاخم للحبشة، كانتا معارضتين، أو ضعيفتي الولاء للحكم المهدوي. وقد أصبحت مرتفعات الحبشة ملجأ لبعض المعارضين من هذين القبيلتين للدولة المهدوية. باختصار شديد، كانت فترة الإمبراطور يوحنا فترة مليئة بالأحداث المتداخلة المتشابكة. وحين ننظر إلى تلك الفترة المضطربة الدامية، لابد أن نقر بحق الكيانات القومية والدينية في الدفاع عن كينونتها. فهل يمكن أن نجرد ضغط الإمبراطور يوحنا على المسلمين الإثيوبيين، من تأثيرات استهداف خديوي مصر المسلم لأراضي الحبشة، وتجريده عليها الحملات، الواحدة تلو الأخرى، ومن تاريخ اضطهاد الأقباط في مصر، والعلاقة ثلاثية الأضلاع بين الكنيسة الحبشية، ومطرانية الإسكندرية، وحكام مصر المسلمين؟ وفي الحلقة القادمة سأقوم بوقفة أخرى أكثر تأنياً مع هذا التشابكات التي طالما عالجها المشتغلون بالتاريخ من العرب والمسلمين، من منظور أحادي، يحمل من ضغائن الماضي أكثر مما يحمل من بشارات المستقبل. فأغلب المعالجات التي اطلعت عليها افتقرت إلى القدرة على النظر في المركب، كما افتقرت إلى الحيدة والنظرة المنصفة.