لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ -20- … بقلم: د. النور حمد
elnourh@gmail.com
مراحل نمو أديس أبابا:
يقول الموقع الإليكتروني لإدارة مدينة أديس أبابا، إن مدينة أديس أبابا تأسست في العام 1886م بواسطة الإمبراطور منيليك. وأن الخطة الهيكلية للمدينة خضعت لاحقاً لعدد من عمليات التحديث، خاصةً على أيدي الإيطاليين، أثناء فترة الاحتلال الإيطالي القصيرة للمدينة، (1936م ـ 1941م). ومن المثير للاهتمام أن المعماري الفرنسي الأشهر، لي كوربوزير، أعد مخططاً لأديس أبابا، في العام 1936م، غير أن الإيطاليين لم يأخذوا به. وقام الإيطاليون بتقسيم المدينة إلى قسمين، من أجل أن يبرزوا تميزهم الكولونيالي على بقية السكان. أحد هذين القسمين خصصوه لأنفسهم، ولغيرهم من الجاليات الأوروبية، في حين خصصوا القسم الآخر للمواطنين الأصليين. ولا تزال بقايا هذا التقسيم ماثلةً إلى اليوم. ولقد استدعى الإمبراطور هيلاسلاسي الرجل الذي وضع مخطط مدينة لندن الكبرى، ويدعى باتريك أبركرومبي، فقام أبركرومبي بتطوير مخطط هيكلي للمدينة، واكتمل تنفيذ ذلك المخطط في العام 1956م. وتوالت التحديثات في خطة المدينة عبر الاستعانة بمختلف بيوت الخبرة الأوربية. ويعمل مكتب مراجعة الخطة الكبرى لمدينة أديس أبابا الآن، على إحداث نقلاتٍ هيكليةٍ غير مسبوقة في المدينة. الشاهد أن طرق المدينة كانت فسيحة منذ البداية، وهي قابلة للتطوير المريح. ولقد أكملت الشركات الصينية الآن، المرحلة الثانية من الطريق الدائري، التي يبلغ طولها 33 كيلومترا. هذا الطريق الدائري السريع الذي لا تعوقه أي تقاطعات يلف حول قلب مدينة أديس، رابطاً كل شبكة طرقها الرئيسية. وهو طريقٌ تم تصميمه على أحدث التصورات للطرق الدائرية، بما تشتمل عليه من جسورٍ معلقةٍ، ومحولات مرور interchanges تسمح بالانسياب الدائم لحركة المرور، دون توقفٍ أو انتظار. يضاف إلى التصميم العلمي السليم فهناك التنفيذ عالي الجودة الذي لا تخطئه العين. ومن يرى ما يجري الآن من تحديث لشوارع أديس أبابا، يصاب بغمِّ شديد حين يتذكر (تعلُّم الحلاقة في رؤوس اليتامى) الذي تمارسه شركات الإنقاذيين، غير المؤهلة علمياً، وفنياً، في شوارع الخرطوم، وتسميه اعتسافاً تحديثاً وتطويراً!! أما من حيث تمديد شبكة الصرف الصحي، فيقول موقع ويكي واتر Wiki Water المهتم بقضايا المياه في العالم، أن أديس أبابا، شأنها شأن المدن الإفريقية جنوب الصحراء، تعاني من نظامٍ للصرف الصحي يتسم بالقصور الكمي والنوعي. وأن نظام الصرف الصحي القائم ظل يخدم وسط المدينة فقط، وأن عدد المنتفعين منه لا يتجاوزون 3% من جملة السكان. فطول الشبكة لا يتعدى 120 كيلو متراً. غير أن الخطة الأم للعام للصرف الصحي 2002م، والتي تُعد تطويراً للخطة الأم للعام 1993م، تستهدف أن تصل خدمات الصرف الصحي في العام 2020 إلى مليون ساكن، وأن تصل الخدمة بالسبتك تانك القبل للشفط الدوري، إلى مليون وربع المليون ساكن. كما تتضمن الخطة المعدلة، حفر مليون وربع المليون مرحاض حفرة Pit Latrine لشريحة ثالثةٍ من السكان. أما عن الخرطوم، فيقول نفس الموقع، إن الإحصاءات تقول إن 28% من سكان الخرطوم متصلة أبنيتهم بنظامٍ للصرف الصحي، غير أنه لا توجد معلومات متوفرة حول حالة هذا النظام من حيث الكفاءة والصيانة. وذكر التقرير أنه يقال أن 500 كيلو متر من أنابيب الصرف الصحي، تحت التشييد. غير أن التقرير ركز على عدم توفر معلومات محايدة حول حالة الصرف الصحي في الخرطوم، بشكلٍ عام. كما أكد التقرير، دون مواربة، على انعدام خطة منشورة للنهوض بحالة الصرف الصحي في المناطق الطرفية من الخرطوم، خاصة مناطق الذين نزحوا مؤخراً للخرطوم، الذين تقدر أعدادهم بمليوني نسمة. ومع تفوق الخرطوم على أديس أبابا في عدد الأبنية المرتبطة بنظام الصرف الصحي، في اللحظة الراهنة، إلا أن ما ورد في الموقع يعكس، بجلاء شديد، أن لأديس أبابا خطة طموحة معلنة، لتحقيق أرقام محددة، في مدى زمني محدد. وهذا لا يبدو متوفراً ولا واضحاً، على مستوى الخطط المعلنة للنهوض بهذا القطاع الحيوي المرتبط بالصحة العامة. وهنا يكمن الفرق بين التخطيط الوئيد السائر نحو هدفه بجد، وبين والارتجال، والدعاية الحكومية التي تجسد الجعجعة من دون طحن.
الإسكان الشعبي:
أشرت في مقالتي السابقة أن الدولة الإثيوبية، تقوم بعمل طموحٍ ورائدٍ لتغيير مساكن الصفيح، التي تمثل غالبية مباني السكن في العاصمة الإثيوبية. فقد شرعت سلطات مدينة أديس في تشييد عماراتٍ حديثة تحوي شققاً سكنيةً صغيرة، تكون في متناول ذوي الدخل المحدود، خاصة فئة الشباب الذين بدأوا حياتهم العملية للتو، وكذلك لغيرهم من المواطنين من ذوي الدخل المحدود. والمدهش في هذه الشقق هو سعرها المنخفض، والتسهيلات التي تُمنح بها لساكنيها. وحين يقارن المرء ما تقوم به إدارة مدينة أديس أبابا، الآن، من تسهيلات تستهدف الأخذ بيد ذوي الدخل المحدود، بتخلف سياساتنا وضعفها في مجال تحسين سكنى الفقراء من مواطنينا، فإن المقارنة تصبح منقطعة تماماً. ولا أخالني مغالياً إن قلت إن النخب التي حكمت السودان، منذ الاستقلال، لم تنجح إلى اليوم، سوى في إحداث تضييقٍ ممنهج، وسحقٍ منقطع النظير لفرص الطبقة الوسطى في النمو، فما بالك بالشرائح الفقيرة التي لا يأبه بها أحدٌ عادةً! ما يجري في إثيوبيا، من جهودٍ بالغة الجدية لتغيير الأحوال، خاصة أحوال الطبقات الفقيرة، رغم ضيق ذات يد الدولة الإثيوبية، يُظهر، وبجلاءٍ شديد الفرق الجوهري في البنية العقلية للنخبة الإثيوبية، التي أثبتت انشغالها بالهم العام، والبنية العقلية لنخبنا، التي ما عرفنا منها إلى اليوم، سوى العناية الفائقة بالشأن الخاص. يستوي في ذلك منهم من سودنوا الوظائف قبل أكثر من نصف قرن، والذين يجلسون الآن على الكراسي، منشغلين ليل نهار بتوسيع أملاكهم الشخصية، وبالتمكين للمجد الأسري، والثراء الأسري. فتهافت نخبنا على أسلاب الدولة، وهي نخب جعلت من الدولة، في خمسة عقودٍ من الزمان، دولةً مهيضةً مضيعةً، متشرذمةً، مزدراةً من الجميع، إنما يمثل واحداً من أهم المظاهر الدالة على علل الثقافة، وعلل البنية الوجدانية، وعلل التدين المظهري الشكلاني الذي اُبْتُلينا به. وكل تلك أمور تستدعي، في مجموعها، حفراً في سيرورة بنيتا العقلية والوجدانية. أعني، حفراً جدياً، يتجاوز ترهات التزيين، والتنميق المخاتل، للسائد، والراكد، والمتخثر، مما يمارسه الواقفون على أبواب موائد الرسميين، خاصةً حملة الأقلام، ومن يُسمون برجال الإعلام، وبائعي الرؤى الذين لا تتعدى رؤاهم حدود الزخرف اللغوي المخدر. فكل أولئك، إنما يقتسمون، وبفعلٍ مبيَّتٍ، كيكة الفقراء المقصيين المنسيين.
التخطيط لتصعيد الفئات الفقيرة:
يقول الصحفي الأمريكي الإثيوبي يارِد مُسِّي، إن عدد المواطنين المقيمين في أديس أبابا الذين سجلوا للحصول على قطعة أرض حكومية، في الفترة ما بين 1988م و1995م بلغ أكثر من 63 ألف شخص. غير أن الذين تقدموا للبناء فعلاً، من ذلك العدد، لم يتعدوا الـ 3.4%! والسبب هو عدم القدرة المالية، لا غير. فأكثر من 92% من سكان مدينة أديس، تقع دخولهم الشهرية تحت خط 167 دولاراً أمريكياً، (حوالي 500 جنيهاً سودانياً). ولذلك كان لابد من أن تدعم الدولة المشاريع الإسكانية، وإلا فلن يحدث تغيير أبداً، ولن يبنى أحد قطعة حصل عليها، وستبقى الأمور مجرد حبر على ورق. ومن ثم شرعت مدينة أديس أبابا في مشروع ضخم للإسكان الشعبي. بلغت تكلفة المشروع المقترح، الذي يهدف في مرحلته الأولى، لبناء ما يقارب خمسةٍ وستين ألف وحدةً سكنيةً، حوالي 188 مليون دولاراً أمريكياً. ولقد مثلت تلك التكلفة ما يصل إلى 81% من ما جمعته المدينة من عوائد للعام 2004/2005. جعلت السلطات مقدم الدفع 7.5% من سعر الوحدة، على أن تأخذ السلطات 25% من الدخل الشهري لمالك الوحدة السكنية، ليتم سداد القرض العقاري في 20 عاماً، على أساس سعرٍ للفائدة يتراوح ما بين 0%، و2% على التوالي. وبناءً على ترتيبات الدفع على هذا النحو، فإن دخل الفرد المتقدم لهذه المساكن فئة الـ "أستوديو" (صالة ومطبخ وحمام)، يجب ألا يقل عن 416 بر إثيوبي، في الشهر، وهي تعادل 49 دولاراً أمريكياً، (أقل من 150 جنيهاً سودانياً!!). أما الفرد المتقدم لفئة الشقة ذات الغرفة الواحدة، والصالة، والمطبخ، والحمام، فيجب أن يكون دخله الشهري، 730 بر إثيوبي، أي ما يعادل 86 دولاراً أمريكياً، (حوالي 250 جنيهاً سودانياً!!). ولنا أن نتصور الفرق بين الحكومة الأثيوبية التي جعلت الشقة "الاستديو"، والشقة ذات الغرفة والصالة، المبنية في عمارةٍ حديثةٍ، معقولةٍ من حيث درجة التشطيب، وبها نظام صرف صحي مركزي، جعلتها في متناول من يتراوح دخلهم الشهري بين 49 دولارا، و86 دولارا في الشهر، وبين حكوماتنا التي جعلت من بلادنا، بلاداً لا يمكن أن يحلم فيها موظفٌ نظيف اليد بامتلاك شقة، يد الدهر!! بل، في بلادنا، لا يستطيع حتى المغترب، الذي يبلغ دخله الشهري ألفي دولار في الشهر، مجرد الحلم بمثل ما جعلته الحكومة الإثيوبية في متناول أفقر الفقراء من مواطنيها!؟
لكيلا يظن القارئ الكريم، أن هذا الحديث مُبالغٌ فيه، فإنني أحب أن أضيف شهادة شابةٍ أثيوبية تعمل لدى شقيقي في السودان. فقد علمنا منها أنها حصلت على شقةً بغرفةٍ وصالةٍ من شقق الإسكان الشعبي، بما يعادل سعراً كلياً لم يتعد الـ 10.000 دولاراً أمريكياً!! دفعت منها مقدماً مبلغاً لم يتعد الـ 2000 دولاراً، على أن تسدد المتبقي من القرض العقاري، على مدى يمكن أن يتراوح بين عشرة إلى عشرين عاماً، بقسطٍ شهريٍ زهيدٍ، لا يمثل عبئاً يُذكر على دخلها الشهري!! وهكذا تحولت هذه الشابة التي تخرجت من الجامعة قبل سنواتٍ قليلة، من السكنى مع أمها في منزلٍ من العيدان الخشبية المجللة بالطين، مُحاطٍ بسور من ألواح الزنك، لا تتعدى مساحة الأرض الكلية التي يقوم عليها الأربعين متراً مربعا، حسب قولها، إلى السكنى في عمارةٍ حديثةٍ، في شقةٍ ذات غرفةٍ واحدة، وصالة وحمام ومطبخ. وهكذا يتحقق الحراك الاجتماعي صعوداً في درجات السلم، أو ما يسميه الغربيون بالـ social mobility . ويتم ذلك بالتخطيط السليم من جانب الدولة، وتفاني النخب في إصلاح الحال العام، وبالمؤسسية، وباهتمام القادة بفتح أفق الأمل للشباب الذين يبحثون عن سكنٍ صغيرٍ، عصريٍ، صحي، يناسب إمكاناتهم وحاجاتهم في المرحلة العمرية التي يمرون بها. وما من شك أن هذا العقار الصغير سيصبح منصة انطلاقٍ للشباب نحو سكنٍ أكبر، حين تكبر عائلاتهم التي ينشؤونها. ما من شك أن إثيوبيا تواجه تحدياتٍ كبيرة بسبب حجم سكانها الضخم، وبسبب قلة مواردها الحالية. ولكن حين يبدأ مشروع الإسكان الشعبي هناك بإنشاء 65 ألف وحدة سكنية، تكتمل جميعها في خمس سنوات، في عاصمة لا يتعدى عدد سكانها الأربعة ملايين، فإن ذلك يمثل مؤشراً واضحاً على جدية الدولة على إحداث نقلة حقيقية في الإسكان. وتبدو الخطة الأثيوبية للتمليك السكني حالياً، شبيهة جدا بالخطة الأمريكية للتمليك العقاري، التي انطلقت بقوةٍ عقب الحرب العالمية الثانية. فقد ارتفعت الملكية للمساكن في الولايات المتحدة الأمريكية، في عقد واحد من الزمان، في تلك الفترة، من 45% إلى 65%. ولقد مكنت فترة سداد الأقساط العقارية، التي تبلغ الثلاثين عاماً، ملايين الأمريكيين من التحول من الإيجار إلى امتلاك المنازل.
دلالات الغلاء الاستثنائي في السودان!!
يتساءل الناس في حيرةٍ عن سبب غلاء الأراضي في السودان، وغلاء أسعار الشقق فيه، وكذلك أسعار الإيجارات السكنية، بل وغلاء كل شيء، على إطلاق العبارة!! فالشقة متوسطة الحال، في مدينة سودانية مثل الخرطوم بحري، مثلاً، تماثل سعر شقتين، أو ثلاث شقق في القاهرة!! وربما أربع إلى خمس شقق في أديس أبابا!! كما تماثل سعر شقة سكنية متوسطة الحال في مدينة أمريكية، وربما سعر بيتٍ منفصلٍ، على أرضٍ واسعةٍ، تحيط به الخضرة، في مدن الريف الأمريكي الصغيرة. أما الشقق في الخرطوم الأم، فلا مقارنة لأسعارها إلا بفاخر الشقق في أمريكا، أو بشقق الأحلام في دبي، أو بشقق مدينة لوسيل بالدوحة. ما سر الغلاء في خرطومنا يا ترى، وهي مدينة لا تحمل من متعلقات المدينة الحديثة، سوى اللفظ؟! ما سر ارتفاع سعر الأراضي في الخرطوم بهذه الصورة، وأكثريتها، في الأصل أراضي حكومية، أعطيت للمنتفعين بها، وفقاً لعقود الحكر. أيضاً، لماذا طفحت على وجه حياتنا الاجتماعية، هذه الفقاعة الخادعة من الإعلانات التجارية التي تملأ الشوارع، وصفحات الصحف، وشاشات التلفزيون؟ لماذا وكيف تم هذا التصعيد الكاذب لأساليب الحياة المرفهة الباذخة، لتطغى على حقيقة مشاكلنا، وحقيقة أولوياتنا القومية؟ لمن هذه الإعلانات الملحاحة عن المجمعات السكنية الحديثة؟ ولمن هذه الإعلانات المكلفة عن الأثاث الفاخر؟ ولمن هذه العروض للسيارات، التي لا يقل قسط أصغرها حجماً، وأصغرها سعةً للماكينة، (1.3 سي سي)، عن الألف جنيه في الشهر؟! لماذا يكون سعر السيارة في السودان، ضعف سعرها في الخارج، وسعر الثلاجة، ومكيف الهواء، والغسالة، والبوتاغاز وجهاز التلفزيون، ضعف سعرها في أي مكان في العالم؟ وقس على ذلك فيما يخص السيخ، والأسمنت، نزولاً إلى لمبة الإضاءة المنزلية! لماذا يدفع سكان السودان نفس السعر الذي يدفعه الأمريكيون لجالون الوقود، مع الفارق الخرافي في الدخول؟ لماذا يساوي سعر كيلو الطماطم في مدينةٍ كالدوحة، مثلاً، وهي مدينة ليس فيها دعمٌ حكوميٌّ للسلع الغذائية، أقل من ربع سعره في الخرطوم، علماً بأن الدوحة تستورد الطماطم من أماكن مثل سوريا والأردن ؟! من تستهدف الإعلانات عن صالات المناسبات، وأماكن التخسيس، وأماكن التجميل، والمشافي الحديثة، وغيرها من الأماكن التي يتطلب التعامل معها دخلاً وفيراً، في حين أن متوسط الدخل السنوي لأكثر من 90% من شعب السودان لا يتجاوز بضع ألوف من الجنيهات؟! أردت أن أقول من كل ما تقدم أننا نعاني مشاكل وعيوية وأخلاقية، أساسية. وأننا ظللنا نَزْوَرُّ من مواجهتها ذات اليمين، وذات الشمال، إما خوفاً من السلطة، أو طمعاً في القرب منها. وجوهر هذه السلسلة من المقالات إنما يتلخص في محاولة الإشارة إلى أن أحد أهم جوانب أزمات الحكم والسياسة عندنا، إنما يعود إلى حالة الانبتات من الجذور الحضارية الحقيقية، واستبدالها بهلامٍ زلقٍ من الزيف والمخاتلة، تمت تغطيته تحت مظلاتٍ عدة، من بينها مظلة الإسلام. فالمقاصد الإنسانية للدعوة الإسلامية السامية المنحازة للفقراء، تم تزييفها تاريخيا، وإفراغها من محتواها، ولقد تحولت في سودان اليوم، إلى أداةٍ عصريةٍ للسيطرة النخبوية الفالتة، من كل زمامٍ، وإلى منهجٍ للإفقار الجمعي المستدام. الانبتات الحضاري هو الذي أحدث هذه التشوهات الوعيوية والأخلاقية، التي جعلت نخبنا المسيطرة تتمتع بهذا القدر الاستثنائي من "تخانة الجلد". فهذه اللامبالاة بأحوال الفقراء التي تتصرف وفقها النخب المسيطرة، لهي حالةٌ لم يعد لها وجودٌ في عالم اليوم، بهذه الصورة الغليظة، إلا لدى قادةِ قلةٍ قليلةٍ جداً من الأمم شديدة التخلف، التي لا تزال ترزح في وحول غابات الوعي الإنساني، التي هجرتها وحوشها، أو تكاد. إن سياسات التحرير الاقتصادي الإنقاذية لأسوأ، وبما لا يقاس، مما ظلت تمارسه الرأسمالية العضوض، في نسختها الأمريكية شديدة التوحش. مع فارق هام جداً، وهو أن التعريف الأمريكي للفقر، يجعل الفقير الأمريكي، أفضل حالاً، من حيث الضمانات الحياتية المؤسسية، من أهل الطبقة الوسطى السودانية. لم تفلح سياسات التحرير الاقتصادي على النحو المنفلت الذي جرت به، إلا في خلق دولة رفاهية صغيرة جداً داخل الدولة المترهلة، المتشظية، المتآكلة. ولذلك لم يكن، من ثم، مناصٌ من حماية هذه الكبسولة الصغيرة، بالإجراءات القمعية، وبقوة السلاح. فالإخفاق في جعل الدولة دولةً للجميع، والعجز في انتهاج نهج علمي للتطوير المستدام، وتفاقم إفقار الشرائح الفقيرة، وإرجاع وعيها إلى الوراء، إنما يعود أغلبه إلى أن النخب والفئات المتحالفة معها في السيطرة على مفاصل السلطة والثروة. هذه النخب التي عجزت عن أن ترتفع عن إيثارها لنفسها، وعن أنانيتها. وتلك مشكلة عميقة الجذور، وتتصل اتصالا وثيقا بمكونات الوعي، وبالتشوهات التي أحدثتها الإغفاءات الحضارية الطويلة، وطغيان الجوانب السلبية من الوعي الرعوي على الشخصية الحضارية الأصلية، المتشكلة منذ سوالف الحقب. هذا هو ما يحتاج إلى البحث المعمق، المتجرد، الصارم، ودق الطبول للاستيقاظ من هذه النومة الكهفية، الدهرية، الطويلة. (إلى الحلقة الأخيرة في الأسبوع القادم، إن شاء الله)