ليتنا قلنا خيرا أو سكتنا حول الاتفاق
إذا كنت - يا عزيزي القارئ - من٠ الذين لا يؤيدون الاتفاق الذي توصلت إليه قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري، فأعلم - يا رعاك الله - ان ذلك يعد أمرا طبيعيا بل انما هو مفهوم ومقدر، ويمكن القول إنه يندرج في إطار الديمقراطية التي ناضلنا من أجلها ومهر لها الشعب أرواحا زكية في سجل ثورة أضافت للتاريخ الإنساني أبعادا تجعلنا نتباهى بها بين الأمم والشعوب.
لكن بالقدر نفسه لا ينبغي أن يكون عدم اتفاقك مبررا جائرا لتخوين الآخرين، أو المزايدة عليهم في الانتماء للوطن الذي يجمعنا كلنا. فالذي ذاق مرارة الظلم يعز عليه ان يكون ظالما، ولعل أقسى أنواع الظلم ذاك الذي يكون فيه المرء هو الخصم والحكم، ويرسل فتاويه وهو يرفل في حلل من السعادة، متمرغا في نعيم العيش ورغده!
بيد أنه في إطار المنهج الديمقراطي الذي ذكرنا لا حجر على رأي، ولا استعلاء على أحد. إذ يمكن للمرء أن يدلو بدلوه، سلبا كان أم إيجابا، دون أن تكون تلك السلبية تبخيسا لقدر الآخرين، ودون أن تكون تلك الإيجابية تعمية تطوي في احشائها تجميل القبيح وتقبيح الجميل، فتلك من ثقافة الشموليات التي لفظنا جلاوزتها إلى مزبلة التاريخ لو يعلمون!
إن الوطن الذي ورثناه كابرا عن كابر، له دين على عاتقنا ويحتم علينا التعامل باحترام مع من خالفنا الرأي. ومن المفارقات أن ذلك كان ديدننا حتى مع أزلام النظام البائد، بالرغم من انهم سدروا في غيهم، وبعضهم فجر في خصومته لدرجة بات إناؤهم لا ينضح سوى فاحش القول وأرذله، وقد مارسوا فينا بلطجة حتى تبرأت منهم ألسنتهم.
إن ينبوع السلوك القويم ذاك، هو المنهج الذي اغترفت منه ثورة ديسمبر المجيدة شعار السلمية الذي أذهل القاصي والداني وذاع صيته بين شعوب العالم، وبدورها لم تتردد قيد أنملة من مضاعفة احترامها لوطننا ومواطنينا، كما تحفز المقهورين منهم لحذو حذونا ونحن فخورون بذلك.
استلهاما لأدب هذه الثورة العظيمة ومن باب الإنصاف ينبغي أن نزجي التحية لكل الذين حملوا قضية شعبنا بعزم لم يلن وإرادة صلبة لم تتضعضع وخاضوا بها غمار المفاوضات إلى أن اوصلوها إلى الاتفاق المذكور، لا سيما، وقد تعرضوا لشتى صنوف الضغوط النفسية والسياسية والوطنية. غير عابئين بأنهم يفاوضون ثعالب ارتدت ثياب الواعظين. يفاوضون جلادا انت تعلم وهم يعلمون أن أياديه ملطخة بدماء الشهداء. يفاوضون خصما لا يعرف اللغة التي يتحدثون بها ولا القيم التي يدعون لها، وفيهم من لا يستحي من جهالته ولا يخفي سذاجته، ولولا أن أدب التفاوض وعظم المسؤولية يفرضان على المرء التحلي بالصبر، لكان ذلك التناقض مدعاة لحوار طرشان يفضي إلى عدم.
في خضم ذلك المأزق كنت كثيرا ما أسائل نفسي ذلك السؤال المرعب: ماذا لو انهارت المفاوضات خاصة وأن الطرف الآخر يتمتع بتلك الصفات الرعناء ولا يبدو عليه الاكتراث من تبعات انهيارها؟ علاوة على أن التحالف نفسه والذي فرضته ظروف موضوعية، تحيط به مخاوف شتى منها تربص المتربصين وتمنيات المرجفين؟ تلك كانت من جنس الأسئلة التقريرية التي يعرف طارحها مغبة تبعاتها ويتوجس خيفة من حدوثها.
مع كامل الاحترام والتقدير، كنت قد لاحظت في سياق رصد آراء الذين لم يرق لهم الاتفاق أنهم يندرجون تحت فئات ثلاث؛
*الأولى،* أنهم ممن يعتقدون أن تشكيل الحكومة بمستوياتها الثلاثة هي نهاية مطاف ثورة ديسمبر المجيدة.
*الثانية،* أنهم ممن يظنون توهما بأن مقاومة طغيان الجبهة الإسلامية بدأ بعد اندلاع ثورة ديسمبر الباسلة.
*الثالثة،* هم ممن يغلبون الذاتي على الموضوعي المتمثل في الوطن ومصيره، للدرجة التي غاب فيها عن ناظريهم معاناة القابضين على الجمر، وكادت أن تسيطر على سلوكهم تلك السادية المقيتة التي تتلذذ بعذاب الآخرين.
لسنا في حاجة للقول إن ثورة الوعي بتلك القيم التي تجلت بها سوف تمضي في طريقها وهي لا تلوي على شيء، حتى تحقق مقاصدها النبيلة وتصبح شعاراتها واقعا معاشا وحاجة ضرورية كما الماء والهواء. وبالقدر نفسه يعلم الحادبون على أمر الوطن أن هذه الثورة العظيمة هي نتاج نضال تراكم طبقا عن طبق، حملوا فيه قضية الشعب وهنا على وهن، طيلة السنوات العجاف التي جلست فيه العصبة ذوو البأس على سدة السلطة.
لعل من الأشياء التي تزيح الهموم عن الصدور وتبعث السرور في النفوس ذلك الموقف الشجاع الذي صدح به البعض وقالوا صراحة إنهم لا يؤيدون الاتفاق، ولكنهم سيسكتون تغليبا للمصلحة العامة فلربما كان في ذلك مخرج صدق للوطن من أزماته الكارثية. هؤلاء يعلمون أن صمتهم لن يكون أبلغ من صمت البنادق المصوبة نحو صدور الأبرياء، ويعلمون أيضا أن الاتفاق - أيا كان فجوره أو تقواه - فهو محض خطوة أولى في مشوار طويل لتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية التي نحلم بها وبذلنا الغالي والنفيس من أجلها.
لست من المتشائمين الذين ينظرون دوما للنصف الفارغ من الكوب، كما أنني لست ممن يقيسون الأمور بمنظور الربح والخسارة، بخاصة اذا ما كانت تتعلق بقضية وطن يقف على حد السيف بين أن يكون أو لا يكون، وطن أرهقه الطغاة بنزقهم وحبهم للسلطة، وطن ظل يعطي دون من أو أذى، ودون أن تجف مواعين عطائه، وطن كلما أحرقته نيران المتربصين نهض من تحت الرماد كطائر الفينيق ليحلق في سماء ثورة مجيدة!
إذا فلنعطه حقه علينا بذات الأريحية قبل أن نبكي وطنا مضاعا لم نحافظ عليه كما ينبغي أن يكون الواجب!
*آخر الكلام:* لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!
faldaw@hotmail.com
6/7/2019