محطتي الثانية بعد واشنطون كانت بانجول – غامبيا بلاد "كونتا عمر كينتي"، صاحب ملحمة الجذور The Roots المليئة بالظلم والقسوة على أفريقيا وأبنائها.
عفوا أصدقائي الأمريكان، ليست هذه إثارة للمواجع، فأنا شاكر للدعوة والزيارة، ومعجب أيما إعجاب بالشعب الأمريكي وبحركة الحقوق المدنية الأمريكية ووثيقة الحقوق الأرقى في زمانها، وأرى في إبراهام لينيكون رمزا إنسانيا تاريخيا لأنه قاد الحرب الأهلية على بني جلدته البيض من أجل تحرير السود، له التحية، ولكن إبراهام لم يكن نهاية التاريخ الأمريكي، ولم تواصل حركة الحقوق المدنية بعده إلى منتهاها، بل في أيامنا هذه قادتها - في حقيقة الأمر إختطفتها - اللوبيات والمصالح الإسرائيلية للتواطؤ مع الإستبداد الدولي وقتل الأبرياء في انحاء العالم وإحتلال أراضيهم وغصب ثرواتهم ونهبها عبر الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات. حركة الحقوق المدنية ..أعزائي الأمريكان، ليست بعيدة من الفيتو الأمريكي الذي تكرر 27 مرة! نعم 27 مرة! لصالح القاتل والجلاد الإسرائيلي ضد حقوق الشعب الفلسطيني.
هنالك الكثيرون الذين تنطلي عليه مفردات على شاكلة عدالة دولية و مجتمع دولي، ويسهل حصارهم في خانة الدفاع وتبرءة أنفسهم من أوطانهم وثقافتهم، وانتظار الخلاص على يد الحضارة الغربية، انا لست من هؤلاء والحمد لله، فالحضارة الغربية عندي ما زالت متهمة بإنتهاك حقوق الإنسان وتغييب العدالة وتزييفها والسطو باسم المجتمع الدولي.
نعم، ليست مصادفة أن تكون محطتي الثانية بعد واشنطون هي غامبيا بلد "كونتا أومارو كينتي"، وللغرابة أن الفندق الذي نزلنا فيه كان في ولاية ميريلاند وفيها أيضا أنابوليس الميناء الذي استقبل سفينة الرقيق القادمة من غرب أفريقيا وفيها بطل قصة الجذور كونتا كينتي، حيث بدأ حفيده إليكس هايلي بحفظ القصص والأصوات اللغوية التي سمعها من جده ثم قادته رحلة البحث عن الجذور لدراسة وتحليل اللغة فاتضح انها في منطقة جنوب موريتانيا، وعندما وصل وجدهم يتحدثون عن أيام الرق حيث ذهب كونتا ابن الشيخ عمر - وينطقونها أومارو - من عائلة كينتي للغابة للبحث عن جذع خشب يصلح طبلا كبيرا لمناسبة زواج، واختطفته عصابات الرقيق.
وبمطابقة القصة والأصوات وزيارة قرية أجداده أكمل الحفيد أليكس رواية وفيلم الجذور، لقد كانت هذه القصة وأنين كونتا كينتي تحت سياط الجلاد رفضا للإسم الجديد "توبي" وبقية الأحداث المريرة تدور ويدور معها رأسي في رحلة طويلة، تستغرق قرابة اليوم في السفر والترانزيت في الصالات والممرات حتى وصلت إلى أمريكا ثم عدت للخرطوم بذات الرحلة المرهقة، ولم يكن ممكنا السفر المباشر، ونمت قرابة الأربع ساعات ثم دار رأسي مرة أخرى ما بين المطارات والترانزيت يوما كاملا، من الخرطوم إلى القاهرة ثم كازابلانكا والبقاء في كنبة لمدة 11 ساعة مع الإرهاق ونزلة البرد، ثم إلى بانجول، وعندما جلست أخيرا على شاطئها الأبيض أحتسى قهوة الصباح ورياح المحيط الأطلسي الباردة تغمرني، كان جسمي ينبح من التعب والحمى، ولكنني قلت في نفسي مهما يكن! لن تكون أصعب وأعنف من رحلة كونتا عمر كينتي، المنتزع من جذوره وثقافته ودينه قسرا إلى سفينة يتكدس فيها البشر الذين لو مرض أحدهم ألقوا به في البحر حتى لا يكلفهم كثيرا وحتى لا يعدي بقية الرقيق.
لا تثير فينا هذه القصص الكراهية بقدر ما تثير الوعي بأن الحاضر إنما هو امتداد للتاريخ، فالرق ليس بالضرورة أن يكون في نسخته القديمة، هنالك الرق السياسي والرق الإقتصادي، وهنالك الرق الكامل للدول وليس الأفراد، هنالك العقوبات القسرية التي تجعل شعبا بأكمله أسيرا ومكبلا ومحدود الفرص في الإزدهار الإقتصادي.