ما يعرف اليوم بالعالم الإسلامي ليس وحده الذي وقع في فخ الشرعية الدينية كأساس للحكم. فقد كتب على امبراطوريات وممالك أوروبا المسيحية أن تخوض حروباً طاحنة لثلاثة قرون بسبب هيمنة الكنيسة على حياة الفرد والجماعة، وفرض وصايتها في كل كبيرة وصغيرة باسم الرب. وكان لابد من البحث عن شرعية يقوم عليها الحكم السياسي ومهام الحاكم والمحكوم. وبمجيء عصر التنوير برز فلاسفة ومفكرون من أمثال السويسري جان جاك روسو وتوماس هوبز وجون لوك الذين كان لهم القدح المعلى في إيجاد ميثاق يقوم بتعريف الدولة كإطار يعيش في داخله أصناف من البشر والمعتقدات والثقافات. ولعل كتاب (العقد الإجتماعي) لجان جاك روسو كان أهم أطروحة قامت بتعريف الدولة بأنها الشراكة بين مواطنين يعيشون في مساحة من الأرض ، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات. كانت تلك بداية الدولة العلمانية (المدنية) التي وقفت على مسافة واحدة من جميع مواطنيها أي أنّ جهاز الحكم هو المؤسسة التي تقف على الحياد فيما يتعلق بالمعتقد ولون البشرة والموقع الجغرافي والعشائري. ليس ذلك فحسب بل إن الدولة تمنع بشدة إقحام الدين في العمل السياسي. لذا فإن التلاعب بالعواطف الدينية بغية استخدامها ذريعة للوصول لكرسي الحكم هو ما تقف ضده الدولة (العلمانية -المدنية) وليس الدين ومؤسساته، ولا التبشير به ولا قيام دور العبادة وصيانتها. وهذا يعني أن لا عداوة بين الدولة كجهاز لتنظيم شرعية الحكم والدين كعلاقة بين الخالق والمخلوق. على العكس تماماً فإن كثيراً من مواد دساتير تلك الدول مستمد من المسيحية واليهودية والإسلام (تركيا مثالاً) وكريم المعتقدات. بل أكاد لا أعرف علماً لدولة أوربية يخلو من رسم الصليب كشعار بأن المسيحية هي إحدى ركائز الهوية، وأنها قاسم مشترك في ثقافة تلك الدولة. وهذا يبدو واضحاً أيضاً في علم تركيا "العلمانية" الذي يحمل شعار الهلال إيحاءاً بأن الإسلام - دين الغالبية لسكان تركيا وحاوي إرثها التاريخي - يمثل جزءاً من هويتها. تقول عالمة الإجتماع المغربية الراحلة بروفيسور فاطمة المرنيسي في كتابها "الخوف من الحداثة" : ( وفي هذه البلدان - تعني الدول الصناعية المتطورة - لم تقتل الدولة العلمانية الدين، بل أوقفت تلاعب الدولة به. وهكذا فقد احتاج ذلك الفارق الأساسي ثلاثة قرون من الأوربيين قبل أن يتشكل ويكون مقبولاً. وتطلب الكثير من الفلاسفة والعديد من الثورات قبل أن تهضمه الجماهير وتستوعبه.) فإذا احتاجت أوربا نحو ثلاثة قرون لتبسط وعي الجماهير لفهم العلاقة المتوازنة بين الدولة والمواطن، بين شرعنة الحكم والدين ، فإن كاتب هذه السطور يفهم جيداً محاولة استغلال المؤسسة الدينية الإنتهازية وحلفائهم من سادة رأس المال والطوائف الدينية - محاولة استغلال عقلية المواطن العادي وإرهابه بغول إسمه الدولة العلمانية.. تلك التي ما إن تحل بديارنا حتى تذهب ريح الدين ، ويتحول النشء إلى متسكعين لا خلق لهم ولا يجمعهم بالأسرة جامع!! ينسى هؤلاء أنّ الدعوة لقيام دولة دينية في السودان ظلت هي سبب التفرقة بين مواطني بلد كان من أكبر بلدان أفريقيا مساحة وثروة وتعددا في الثقافة والموارد..وأنها - أي الدعوة لقيام دولة دينية بل وشن حرب جهادية على مواطنين من ذات البلد يجمعنا بهم عقد اجتماعي اسمه الوطن - تلك الحرب الجهادية هي التي فصلت ثلث البلاد وأخشى إن استمر الهوس الذي شنها - أن تذهب جبال النوبة وجنوب النيل الازرق!
يلتقي حمدوك والحلو فيعلو صراخ المجانين !! تابعت كمواطن سوداني مهموم بأحوال وطنه وشعبه مثلما تابع الملايين محادثات السلام التي استغرقت طويلا في عاصمة شقنا الثاني – جمهورية جنوب السودان. وفرحت لمجرد أن تم التوقيع بالأحرف الأولى على الورق بين ممثلي حكومة الخرطوم وبعض حركات الكفاح المسلح. بل عبرت عن فرحي كشخص يشارك بقلمه في الشأن العام - عبرت عن فرحي بالكتابة في الأسافيرعن ذاك الحدث الذي لما نزل ننتظر ميلاد جنينه حين ينتصرالمفاوضون بطرد الشيطان الذي يكمن في التفاصيل كما يقولون! وزاد فرحي مثل الملايين أمس إذ حدث اختراق كبير في ملف السلام والأخبار تحمل لنا توقيع إعلان المباديء بين الدكتور عبدالله حمدوك رئيس الوزراء والقائد عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. فرحت لأننا الآن أقرب لطي صفحة الحرب التي استمرت في بلادنا زهاء نصف القرن من جملة 64 عاماً هي عمر بلدنا المستقل. لست ادري كيف أن هذا البلد ما يزال على خارطة العالم!! قلت بأني فرحت كما فرح الملايين باقتراب طي صفحة الحرب. لكنّ دعاة الخوف من التقدم واللحاق بركب العصر لا يعجبهم السلام والتنمية والإستقرار. إرتفع الصراخ عبر مواقع التواصل وبعض منابر دور العبادة محذرين من أنّ توقيع حمدوك - الحلو على إعلان المباديء في إثيوبيا سوف يعجل بقيامة هذا البلد، وأن فصل الدين عن المواعين السياسية في جهازالحكم سوف يذهب بالدين والقيم. ومن المضحك - المبكي أن صراخ وعويل بعضهم كان يأتينا من دول لم تنهض إلا بعد أن فصلت بين الدولة والمؤسسات الدينية !! والأكثر غرابة أّنّ ما جاء في توقيع إعلان المباديء بين حمدوك والحلو مضمن في الوثيقة الدستورية التي وقع عليها قبل عام الفريق أول البرهان رئيس المجلس السيادي ووقع بالأحرف الأولى على بنود اتفاقها قبل أقل من أسبوع نائب رئيس المجلس السيادي محمد حمدان دقلو (حميدتي) .. حدث ذلك في جوبا في احتفال صدح فيه المغنون والمغنيات ورقص من رقص مبتهجين بما توصل إليه ممثلو الحكومة وقادة الحركات المسلحة من اتفاق يفصل ضمن أهم بنوده بين الدين والدولة.. يعني بالفصيح (العلمانية) !! لكن لم أسمع العويل والصراخ كما سمعته حين التقى الدكتور حمدوك والقائد الحلو في الجارة إثيوبيا !! يبدو أن من كانوا وما زالوا ينتظرون عودة عجلة التاريخ إلى الوراء وصمت هدير الشارع الذي صنع ثورة 19 ديسمبر إحدى كبريات ثورات هذا القرن - يبدو أن من ظلوا ينتظرون موت هذا الحلم أصيبوا في مقتل وهم يرون حمائم السلام تفرد أجنحتها البيضاء بين جوبا وأديس أبابا. فضيلي جمّاع لندن- 05 سبتمبر 2020