لِقَاحُ عَبْدِ اللهِ .. الكُوْبِي!
كمال الجزولي
11 July, 2021
11 July, 2021
روزنامة الأسبوع
الإثنين
بسبب «ريش الببغاء»، منتصف السِّتِّنات، شغفت بعيسى. عرَّفني به التِّجاني عثمان، المعلِّم معه، آنذاك، بالخرطوم الأميريَّة. ثمَّ زاملت، بصحيفة «السُّودان الجَّديد»، صديقيه محمود مدني وصدِّيق محيسي، فتوطَّدت علاقتنا حتَّى سافرت للدِّراسة. بعد عودتي، عام 1973م، عدنا نتواصل. وقتها صرت مسؤولاً مع الزميل والصَّديق عبد الله علي ابراهيم عن المكتب المركزي للأدباء والفنَّانين الشِّيوعيِّين. ورغم أن عيسى لم يكن شيوعيَّاً، إلا أنه كان يستقبلنا، والمرحومة زوجته، في بيتهما ببري، دون تردُّد، رغم الخطر المحدق، والبلاد خارجة، لتوِّها، من صدام يوليو 1971م!
القدَّال طرق بابنا، ذات نهار من عام 1982م، شابَّاً وسيماً مهذَّباً قال إنه هجر كليَّة الطبِّ، ليتفرَّغ للشِّعر! كان معنا مبارك بشير، فأخذتنا به الظنون! وحتَّى بعد أن قرأ علينا بعض خرائده، خطر لنا أنه مِمَّن يحفظون شعر الهمباتة، وينتحلونه! لكنه أسرنا بإلقائه، وبصوته الرَّخيم، على عذوبة الشِّعر، فمضينا نستزيده. ثمَّ دفعتنا حداثة سنِّه لأن نفاتحه في ظنوننا! فقال، مبتسماً في وداعة، إن كلَّ ماكان يريد معرفته، وقتها، هو إن كان مصدر شكِّنا، بالفعل، جودة القصائد!
مع الزَّمن تعمَّقت صلتي بعيسى، خاصَّة بعد امتهانه الصَّحافة الثَّقافيَّة، فراح يبدي اهتماماً خاصَّاً بنا، نحن الشُّعراء والكتَّاب الشَّباب، باتِّجاهاتنا الفكريَّة التي تستثير، عادة، استرابة الأجهزة الأمنيَّة. لكنه كان نادر البسالة، رغم أن في أحضانه يتامى يترحَّل بهم من بيت إيجار إلى آخر، رافضاً أن يأتيهم بزوجة أب. كان يستيقظ مع النَّجمة، يعدُّ الشَّاي، والفطور، ويصطحبهم إلى المدرسة، ويعود ليطبخ، ويغسل، ويكوي، قبل أن يذهب للعمل، ثمَّ يعود بهم من المدارس، ويجهِّز لهم الغداء، وينظف البيت، ويحمِّمهم، ليجلس يستذكر معهم دروسهم؛ وهكذا إلى أن ابتنى لهم بيديه العاريتين، في ما يشبه عمل قبيلة من الجِّنِّ، بيتاً، في ضاحية أم درمانيَّة نائية، وهم يكبرون، سنة بعد سنة، حتَّى تزوَّجوا، فصار له أحفاد ليس أقرّ لعينيه منهم، وراح يعيد معهم، وهو يخطو نحو الثَّمانين، سيرته الأولى مع ابنائه، بينما يكاد لا يتوقَّف، ولو لبرهة، سنين عددا، عن شيئين: التَّدخينِ الذي فتك برئتيه، ورَفْدِ المكتبة بسرديَّاته الرَّائعة، ودراساته الفلسفيَّة والنَّقديَّة الباتعة.
ظلَّ القدَّال يعطِّر أمسيات العاصمة والأقاليم بمديح الوطن وناسه، وظلت الجَّماهير تهشُّ، حيثما حلَّ، لاطلالاته، وتبشُّ لتغريداته. وإن أنسى لا أنسى، ما حييت، حين وقف يلقي قصائده من على منبر مسرح مكتظٍّ بشباب جوبا التي كنَّا وصلناها، بعد الانفصال، مع صديقتنا المبدعة البديعة ستيلا قاتيانو، نشارك في تدشين بعض إصداراتها، بدعوة كريمة منها ومن «دار رفيقي». كان القلق يعصف بي إشفاقاً عليه مِمَّا حسبته عسراً في عامِّيَّته على الأذن هناك، فإذا بالحناجر الجَّنوبيَّة الفتيَّة ترعد أصداؤها في جنبات المسرح، تردِّد معه أشعاره، كلمة كلمة، في كوراليَّة مذهلة: «وانا ما بجيب سيرة الجَّنوب .. انا ما بجيب سيرة الجَّنوب»!
ظلَّ عيسى، طوال رحلة حياته الأسطوريَّة، التي تكاد لا تصدِّقها الانتلجينسيا المدينيَّة، يقاسي، بجسده النَّاحل، سقماً ينهش منه الصَّدر، حتَّى افترسه تماماً، فأسلم، أخيراً، روحه الطاهرة، في صمت، إلى بارئها، مثلما شقَّ علينا، ذات مساء كئيب، نعي القدَّال من القاهرة ينهي آلاماً لطالما مزَّقت منه الحشاشة؛ فنعوذ بك، اللهم، من فتنة مماتهما، مثلما نعوذ بك من فتنة محياهما، عالمين بأنه لم يتبقَّ من العمر ما يعوِّضنا عن عشرتهما، أفذاذاً في العامِّ، وأحباباً في الخاصِّ، سائلينك، اللهمَّ، واسع الرحمة والمغفرة لكليهما، وطامعين في إنزالك إيَّاهما منزلة المقرَّبين إليك، المرضي عنهم منك، ولا نقول إلا ما يرضيك، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
الثُّلاثاء
أصاب اللواء عابدين الطاهر، المدير الأسبق للمباحث، حين قال إن تكوين قوَّات من الجَّيش والدَّعم السَّريع لحسم انفلات الشَّارع، إنَّما يعني الاستغناء عن الشُّرطة، محذِّراً من التَّعامل مع المدنيِّين بقوَّات عسكريَّة ذات عقيدة قتاليَّة، ومؤكِّداً أن الجِّهة الوحيدة التي يمكنها التَّعامل معهم هي الشُّرطة (السُّوداني الدَّوليَّة؛ 21 يوليو 2021م).
الأربعاء
ظهر اليسار في السُّودان، بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، بتيَّارات مختلفة، أغلبها سياسي، وبعضها اجتماعي، وبعضها ابداعي. على النَّمط الغالب ظهرت أحزاب وكيانات سياسيَّة، أبرزها الشِّيوعي، بالتَّأثير «الواسع» للماركسيَّة، و«المحدود» لتَّجربة المعسكر الاشتراكي. تبعت ذلك أحزاب وحركات عروبيَّة، كالبعثيَّة، والنَّاصريَّة، والقوميَّة العربيَّة، وآخرها، ربَّما، «نظريَّة» القذَّافي «الجَّماهيريَّة». كما ظهرت أحزاب وحركات إقليميَّة، في الجَّنوب، وجبال النُّوبا، بتأثير حركة التَّحرُّر الأفريقيَّة. وعلى النَّمط الثَّاني تشكَّلت تنظيمات نقابيَّة، واتِّحادات نسائيَّة، وشبابيَّة، وطلابيَّة، وفنِّيَّة. أمَّا على النَّمط الثَّالث فقد ظهرت تيَّارات أدبيَّة وتشكيليَّة، كالواقعيَّة الاشتراكيَّة، في الشِّعر والسَّرد، والواقعيَّة السِّحريَّة في القصَّة القصيرة والرِّواية، وتبعهما بروز الميل إلى الجَّماليَّة الأفريقيَّة الإسلاميَّة في مدرسة الخرطوم التَّشكيليَّة، منتصف السِّتِّينات، ثمَّ حركة أبادماك.
الملاحظة الأبرز، في التَّجربة المؤسَّسيَّة للحزب الشِّيوعي السُّوداني، هي، من باب تَّجرُّد القراءة، وموضوعيَّة التَّحليل، انتباهته الباكرة لجانبين، كلاهما غاية في الخطورة، الأوَّل عدم إلزاميَّة «الإلحاد» للتَّطبيق الماركسي، والآخر ضرورة مراعاة الحرّيَّات الفرديَّة؛ ومن ثمَّ اقدامه، منذ نهاية الحرب الثَّانية، قبل حتَّى تكوينه رسميَّاً، صيف 1946م، على إعلان نقده الصَّريح لتجربة التَّطبيق السُّوفييتي. أمَّا المأخذ الأساسي على أكثر تمظهرات هذا النَّمط السِّياسي، بالنِّسبة لليسار العروبي، فهو تعامي بعض منسوبيه، وغضُّهم الطَّرف عن ممارسات القتل، والسَّحل، والقمع، وكبت الحريَّات، ونظام الحزب الواحد، والتَّجسُّس على الاعضاء، في البلدان التي يريدون تمثُّل تجربتها، كنظامي صدَّام في العراق، والأسد في سوريا، مِمَّا يلزمهم بالدِّفاع عنها، والصَّمت إزاء ممارساتها لأبشع صنوف التَّعذيب، والتَّصفية الجَّسديَّة، والاعتقال الإداري، رغم نضالهم الصلب، هم أنفسهم، في بلدهم ذاته، ضدَّ نظام لا يقلُّ بشاعة عن تلك الأنظمة، الأمر الذي غالباً ما يعرِّضهم للتَّشريد، والملاحقة، والسِّجن، والتَّنكيل!
الخميس
رغم الحظر الأمريكي المتواصل منذ 1962م، قالت مجموعة «بيوكوبافارما» إنّ لقاح «عبدالله» ضدَّ كورونا أثبت فعالية بنسبة 92.28% بعد 3 جرعات، فاستحقَّ التَّرخيص. كما أن معهد اللقاحات، بهافانا، أعلن، الأسبوع الماضي، أن لقاح «سوبيرانا2» قد أثبت فعاليَّة بنسبة 62% إثر الجرعة 2 من 3، فيُتوقّع ترخيصه قريباً. واللقاحان يعطيان أملاً لشعوب القارَّة الفقيرة. وهنّأ الرَّئيس ميغيل دياز كانيل بلاده، قائلاً: «علماؤنا تغلبوا على جائحتي كوفيد والحظر»! وتستهدف الحكومة تلقيح 70% من السُّكَّان البالغ عددهم 11,2 مليون نسمة بحلول أغسطس، على أن يُلقَّح الجميع قبل نهاية السَّنة. وبهذا أصبحت كوبا أوَّل دول أمريكا اللاتينيَّة تطويراً وانتاجاً للقاحات كورونا، رغم الحظر الذي باشرت، بسببه، منذ الثَّمانينات، تطوير أدويتها الخاصَّة، فضلاً عن 8 لقاحات محليَّة من الـ13 التي تستخدمها. وتغطِّي هذه اللقاحات 80% من برامج التَّحصين في كوبا وفي 35 دولة أخرى، كفنزويلا، وكولومبيا، والأرجنتين، والبيرو، والمكسيك، وإيران، وفيتنام.
أمَّا تسمية لقاح «عبدالله» فتعود إلى مسرحية شعريَّة بهذا الاسم، ألفها الشَّاعر خوسيه مارتي (توفي سنة 1895 عن 42 عاماً)، ويُعدُّ من رموز النِّضال لأجل استقلال كوبا عن الاستعمار الإسباني، وكان معجباً بالحضارة العربيَّة، وبالعرب الذين شاركوا الكوبيِّين نضالهم التَّحرُّري. و«عبد الله» هو بطل المسرحيَّة، وهو شاب مصري نوبي ناضل وضحَّى في سبيل بلده وشعبه.
الجُّمعة
السَّادس من ديسمبر 1998م. صباحٌ من الصَّحو الاستوائيِّ، وشبُّورة من النَّثيث النَّاعم. إفطارٌ خفيفٌ على موسيقى السَّواحيلي الخافتة: كوكتيل الفاكهة الطازجة، وفنجالٌ القهوة بالحليب، مع قطعتين من بسكويت الزَّنجبيل. اتخذت مقعدى إلى مائدة مستديرة، في قاعة بنوافذ زجاجيَّة عريضة، تهطل خلفها تعاريش الكارنيشن الملوَّنة، بفندق «كانتمير» الرِّيفىِّ السَّاحر، بطابقه الأرضىِّ، وآجُرِّه المحروق، وسقوف قرميده البرتقالىِّ المحدودبة، ومماشى حدائقه المغمورة بزهور الجِّيكاراندا البنفسجيَّة، وسط دغل من الصَّنوبر، والبان، والماروبيني، والبامبو، محاطاً بمزارع البنِّ والشَّاى بخضرتها الفصيحة المشعشعة، تتخلله مسطَّحات الورود، وأحراش الأزاهير، وما لا يُحصى ولا يُعدُّ من صنوف النَّباتات الاستوائيَّة رقراقة النَّدى، عميقة العطر، في تلك الضَّاحية الهادئة، الرَّابضة قريباً من «تل الموز Banana Hill»، شماليَّ العاصمة الكينيَّة التي وصلناها، مساء أمس، بدعوة من «أوكسفام كندا»، للمشاركة في «ورشة عمل حول أوضاع منظمات المجتمع المدني في القرن الأفريقي». طفقت أرتِّب أوراقي، صامتاً، وأحاول أن أميِّز بين الهمهمات التي تناثرت فى المكان، وأرمق، بين الفينة والأخرى، السَّحنات الزِّنجيَّة، والخلاسيَّة، والصَّفراء، والبيضاء، التى تحلقت متأهِّبة، بحيويَّة، حول المائدة المستديرة.
بغتة، التقت نظراتنا. ألفى كلانا نفسه يحدِّق في وجه الآخر. هنيهة، ثمَّ غضضنا طرفينا حرجاً. غير أننا سرعان ما عدنا، لسبب ما، نحدِّق، مجدَّداً، فى وجهي بعضنا البعض. لمحت طيف ابتسامة متردِّدة في المحيا الزِّنجى الوسيم، والثَّغر المفترِّ عن صفَّين من العاج النَّضيد، فابتسـمت بدوري. وتبادلنا إيماءة تحية خفيفة برأسينا. أدرت شريط ذاكرتي إلى الوراء، ولعله فعل أيضاً. جرَّدته من غضون الجَّبين الوضيء، ومشيب الفودين الأنيقين، وجرَّدني، فيما يبدو، من جهشة البياض في لحيتي، ونمنمات العمـر حول عينيَّ، فإذا بأحداث صيف العام 1983م تسـطع بكامل تفاصيلها، وإذا به يهتف، بدينكاويَّته العذبة:
ـ «كا .. مال جو .. زو .. لى»؟!
وإذا بي اهتف، وحاجباي يرتفعان دهشة:
ـ «دول .. دول اشويل»؟!
غير أن ميسِّر الورشة، الصَّديق مرتضى جعفر، المحامي الكيني من أصل هندي، مستشار جمعيَّة العون القانوني، شرع يعلن، بصوته الجَّهوري، عن افتتاح الورشة، فى ذات اللحظة التى كنت أتمتم فيها، مأخوذاً، بين خشخشة الأوراق وانتباهة الأعين:
ـ «حقَّاً .. الحَىُّ يلاقي»!
تعارفنا، صيف 1983م، وسط ملابسات تحوي من الملهاة ما تحوى من المأساة! وجاء لقاؤنا بنيروبى محفِّزاً لإعادة تركيب الجُّزيئات المفكَّكة التى ما انفكت تهشُّ على ذاكرتينا. كنت اعتقلت ضمن بعض المحامين والقضاة، بسبب إضراب القضائيَّة الشَّهير، ورُحِّلنا، منتصف الليل، من الأمن إلى كوبر. هناك، في قسم «المعاملة الخاصَّة»، فوجئنا بعدد من «حلفاء النِّميري!» من رموز الحكم الذَّاتى في الجَّنوب، وفيهم «دول»، القاضي السَّابق، ونائب رئيس المجلس التَّنفيذي العالي، لاحقاً، وماثيو أوبور، رئيس مجلس الشَّعب الاقليمي، ود. جستين ياك وزير الصحَّة، وأمبروز ريني المحامي، ووزير الثَّقافة والاعلام. كانوا قد عارضوا قرار «الرَّئيس القائد» بإعادة تقسيم الجَّنوب لثلاثة أقاليم، وعدُّوا ذلك تنصُّلاً عن اتِّفاقيَّة السَّلام بأديس أبابا، والتي أوقفت الحرب منذ مارس 1973م!
وجدنا مشاجبهم المصطنعة من غصون النيم مغروزة فى شقوق الجِّدران الشَّائهة، ومكتظَّة ببزَّاتهم الهفهافة، وربطات أعناقهم الزَّاهية، وارد «كريستيان ديور» الباريسيَّة، و«ماركـس آند سبنسـر» اللندنيَّة، وأشـكال وألوان من عصـىِّ العـاج والأبنوس السُّـلطانيَّة!
علمنا أنهم جاءوا من جوبا لحضور المؤتمر القومي الرَّابع للاتِّحاد الاشتراكي. وقبيل الجَّلسة الختاميَّة حضر إليهم، في صدر القاعة، شبَّانٌ مهذَّبون، يضعون شارات المراسم، وانحنوا أمامهم بتحيَّة الإجلال، ليخطروهم بأن برنامجهم يشمل لقاءً مع سعادة اللواء عمر الطيب، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس جهاز الأمن. وفور انتهاء الجَّلسة انطلقت بهم سيَّارات رئاسيَّة عميقة السَّواد، مسدلة السَّتائر، تموء، فى ذلك المساء اللطيف، كهررة ناعمة، تتقدَّمها السَّارينة، إلى حيث ترجلوا، وأعصابهم المشدودة إلى مراكز الحساسيَّة البروتوكوليَّة فى أدمغتهم لا تنتظر غير فرقعات التَّحايا العسكريَّة، تحت شعشعات الأنوار الرِّئاسيَّة! لكن صدمتهم كانت عنيفة حين ألفوا أنفسهم في باحة كئيبة، ضيِّقة، معتمة، حيث لا «سعادة نائب أول» ولا يحزنون، بل مجرد «مينى بص» كالح، تَحلَّق حوله، بانتظارهم، رهط من الغلاظ الأشدَّاء، يتجهَّمُونهم، مدجَّجين بالأسلحة الخفيفة، والتَّعليمات الصَّارمة! هكذا بين «الهبوط» من «الليموزينات» الفارهة و«الصعود» إلى «المينى بص» الكالح، تشكَّلت اللحظة الفاصلة بين «أديس» و«كوبر»! واستحالت غرف الفندق الحالم إلى مجرد حصائر بالية، وبطانيَّات نتنة، وتحوَّل «مستر تشيرمان» و«مستر فايس بريسيدنت» و«مستر منستر»، ما بين غمضـة عين وانتباهتها، من رجال دولة ملء السَّمع والبصر، إلى محض قوم منقطع بهم، وأرقام صـمَّاء فى «تمام» السِّـجن!
أسميناها «ليلة الخناجر الطويلة»، وتندَّرنا بأحداثها كثيراً، خصوصاً بعد أن أطلق النِّميري سراحنا وسراحهم، بينما كان يرتِّب، سرَّاً، لإصدار «قوانين سبتمبر». استضافوهم، هذه المرَّة، بفندق «أراك»، فتبادلنا الزِّيارات، وتوثقت بيننا العلاقات، إلى أن جاء يوم بحثنا فيه عنهم، فلم نجد لهم أثراً! قوي لدينا الاعتقاد بأنهم لا بُدَّ قد اعتقلوا مجدَّداً، حتى أتانا خبرهم بعد حين، فإذا بهم قد خرجوا! غافلوا أجهزة الأمن وخرجوا! دخلوا «الغابة»! التحقوا بالحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان التي أسَّست جيشها، آنذاك، ودشَّنت حربها، للتو!
حكاية لا تخلو من الطرافة على مأساويَّتها! لولا أن الطرافة سرعان ما تطير أبخرة، لترسب المأساة وحدها فى الأعماق، كأمثولة حيَّة عمَّا ذكَّرنا به الصَّديق عبد الله علي إبراهيم مِمَّا أسماه «نهاية السِّياسة» فى بلادنا، وتحديداً قِصَر النَّظر القديم لدى الحركة السِّياسيَّة فى الشَّمال، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأولى» فى الجَّنوب، وقصَر نظر رديفتها فى الجنوب، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأخيرة» فى الشَّمال!
فى الورشة قدمنا ورقتين جيَّدتين عن ثقافة العمل الطوعى فى الشَّمال والجَّنوب، فاكتشفنا، قبل الأغيار، كم نحن متقاربون فى قيم كثيرة. سألته على العشاء:
ـ «إذاً فيم كلُّ هذا الاقتتال يا دول»؟!
أجابني، متشاغلاً بنثر بعض الملح في طبقه:
ـ «إسأل نفسك»!
ألقيت بمنديل السوليفان في قفص البلاستيك تحت المائدة. وما أن لمحنى أخرج صندوق «البرنجي» من جيبي، حتى انقض عليه كما النِّسر:
ـ «هييييه .. كامال .. كامال! ما زالوا ينتجون هذا الشَّئ؟! كيف فكرت في إحضاره معك؟! ماذا أحضرت أيضاً؟! من يا ترى بقي في السُّودان من آل حجار»؟!
أهديته صندوقاً. أشعل لفافة. استرخى، ثم سعل بشدَّة. كان مصاباً بأنفلونزا حادة. ناولته منديل سوليفان، وأنا أقول ضاحكاً:
ـ «وأنت يا رجل، تهتزُّ كقصبة، وصدرك يكركر مثل وابور معطوب، فكيف تستطيع أن ترفع بندقية»؟!
بدا أن وجهه اكتسى غلالة حزن شفَّاف. لذنا بالصمت. لكنه ما لبث أن عاد إلى أسئلته المتحمِّسة:
ـ «اسمع .. كامال، ألا يزال مطعم .. مطعم .. اللعنة .. ذلك المطعم الصَّغير قرب صحارى، ألا يزال يعمل؟! وصينية الاتِّحاد الاشتراكي؟! سمعت أن مقاهي رائعة قامت جهات المقرن؟! اسمع .. كامال، وتلك المثقَّفة المدهشة فا .. فاطمة .. ياه .. ياه .. أذكرها فى الجَّامعة .. فاطمة بابكر .. أين هي الآن؟! ومولانا فلان يفترض أن يكون الآن في المحكمة العليا! ومحطة السِّكَّة حديد ألا تزال في مكانها؟! اسمع .. كامال هل قامت أحياء جديدة في الخرطوم؟! أظن أن التاكسى لايزال باللونين الأصفر والأخضر؟! ألا يزال كبري أم درمان يهتزُّ كأنه مشيَّد فوق زلزال؟! إسمع .. كامال، وأولئك الأصدقاء .. أين هم الآن .. عمر صديق وأنور عز الدِّين وعبد المنعم بشير والطيِّب أبو جديري وإسحق شدَّاد وسيِّد عيسى وعبد الله صالح* والآخرون»؟!
وحين أخبرته بوفاة عبد المنعم وعبد الله، وقتها، حزن كثيراً.
وهكذا، طوال الأسبوع، في الصَّباحات قبل العمل، في المساءات على العشاء، فى الاستراحات بين الجَّلسات، يسبقه إليَّ صوته من على البعد:
ـ "اسمع .. كامال"!
ثم يأخذنى من يدي، ويبدأ فى الكلام والسُّؤال في نشوة طفوليَّة، وحماسة فائقة، كيفما اتفق، ودونما ترتيب، عن تفاصيل التَّفاصيل، عن الخرطوم، والناس، والجَّامعة، والمطاعم، والمقاهي، والشَّوارع، والسِّينمات، وأولاد دُفعته، ودوَّارات المرور، ومنتديات السِّياسة، وأروقة القضاء، و .. تساءلت، بينى وبين نفسى، أكثر من مرَّة، وهو في قمَّة نشوته بذكريات الخرطوم: «هل يُعقل أن مثله يريد الانفصال»؟!
وقفنا، ذات أصيل ناعم، ندخِّن، خلال استراحة قصيرة، فهتفت، وأنا أسرِّح بصرى فوق شلالات الخضرة المترامية وراء الأفق باحتمالاتها اللانهائيَّة:
ـ «يا رجل! لم أرَ فى حياتى جمالاً كهذا»!
وسرعان ما استشعرت خجلاً عميقاً يصلبني داخل جلدي حين علق، بانجليزيَّته الدِّينكاويَّة، وصوته الخفيض، وهو يسعل في منديله:
ـ «هذا يعني أنك لم ترَ مريدي، بعدُ، يا صديقي»!
دهمني، بعد ذلك بعامين، خبر إصابته بالشَّلل النِّصفي. أخبرتني به، في الخرطوم، صديقتنا الكنديَّة دنيلي بيكيلي، المقيمة بنيروبي، قالت: نزوره في المستشفى بانتظام، ولكن مرآه، وقد ازداد شحوباً، ومرأى عياله حول سريره، فى غربتهم الهائلة، يكاد يمزِّق نياط القلوب. بعثت إليه معها بتحاياي وتمنِّياتي القلبيَّة. وكتبت له، مداعباً، أقول: «يارجل! لقد نفدتَ من ليلة الخناجر الطويلة، فابشر بطول سلامة»!
ولكن نعيه ما لبث أن شقَّ علىَّ ، بعدها بأشهر «وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت». أسأل الله أن يشمله، وعياله، والسُّودان، ويشملنا أجمعين، بواسع رحمته وغفرانه.
السَّبت
في الأوَّل من يوليو الجَّاري كشف علي جدُّو، وزير التِّجارة والتَّموين، عن اجراءات وزارته لتوعية المواطنين بقوانين جديدة لضبط الأسواق، وفرض الالتزام بوضع بطاقات الأسعار على السِّلع، تعقبها حملة ستشنًّها، بدءاً من أغسطس المقبل، للرَّقابة، ومنع تلاعب التِّجار والسَّماسرة.
لا شكَّ في ضرورة هذه الاجراءات، لكن يا حبَّذا، حسب «العين الأخباريَّة»، لو الزمت الوزارة المصانع، والشَّركات، وسائر تجار الجُّملة، بتعبئة المنتجات في حاويات ذات أوزان معلومة، ووضع ديباحات عليها بأسعارها، وتواريخ انتاجها، وانتهاء صلاحيَّتها، قبل بيعها لتجار التَّجزئة، كما أن على الوزارة، ايضاً، حلَّ معضلة السِّلع المستوردة والتي تدخل البلاد دون أن تُعرف اسعارها الحقيقيَّة!
غير أنني وددت لو أن الوزير الجَّديد نسب الفضل في هذا القانون للوزير السَّابق مدني عباس الذي كان قد أعلن عنه، قبل إقالته، وصرَّح بأنه كان في مرحلة الإجازة بمجلس الوزراء، وأنه يحدِّد عقوبة السِّجن بخمس سنوات، مع جواز المصادرة، على عدم وضع بطاقات الأسـعار على السِّـلع (الحداثة؛ 16 يناير 2021م). كما وددت، أيضاً، لو أن الوزير الجَّديد أوضح السَّبب في بقاء هذا القانون رهن إجراءات التَّشريع طوال الفترة الماضية، بينما الشَّعب يسحقه الغلاء المتفاقم يوماً عن يوم!
الأحد
قال ونستون تشيرشيل، رئيس وزراء بريطانيا، مرَّة، وكان شديد البدانة، لجورج برناردشو، الكاتب السَّاخر الذي كان شديد النَّحافة: «مَن يراك يظن أن بلادنا تعاني من مجاعة»! فردَّ شو قائلاً: «ومن يراك يدرك، فوراً، أسباب هذه المجاعة»!
kgizouli@gmail.com
الإثنين
بسبب «ريش الببغاء»، منتصف السِّتِّنات، شغفت بعيسى. عرَّفني به التِّجاني عثمان، المعلِّم معه، آنذاك، بالخرطوم الأميريَّة. ثمَّ زاملت، بصحيفة «السُّودان الجَّديد»، صديقيه محمود مدني وصدِّيق محيسي، فتوطَّدت علاقتنا حتَّى سافرت للدِّراسة. بعد عودتي، عام 1973م، عدنا نتواصل. وقتها صرت مسؤولاً مع الزميل والصَّديق عبد الله علي ابراهيم عن المكتب المركزي للأدباء والفنَّانين الشِّيوعيِّين. ورغم أن عيسى لم يكن شيوعيَّاً، إلا أنه كان يستقبلنا، والمرحومة زوجته، في بيتهما ببري، دون تردُّد، رغم الخطر المحدق، والبلاد خارجة، لتوِّها، من صدام يوليو 1971م!
القدَّال طرق بابنا، ذات نهار من عام 1982م، شابَّاً وسيماً مهذَّباً قال إنه هجر كليَّة الطبِّ، ليتفرَّغ للشِّعر! كان معنا مبارك بشير، فأخذتنا به الظنون! وحتَّى بعد أن قرأ علينا بعض خرائده، خطر لنا أنه مِمَّن يحفظون شعر الهمباتة، وينتحلونه! لكنه أسرنا بإلقائه، وبصوته الرَّخيم، على عذوبة الشِّعر، فمضينا نستزيده. ثمَّ دفعتنا حداثة سنِّه لأن نفاتحه في ظنوننا! فقال، مبتسماً في وداعة، إن كلَّ ماكان يريد معرفته، وقتها، هو إن كان مصدر شكِّنا، بالفعل، جودة القصائد!
مع الزَّمن تعمَّقت صلتي بعيسى، خاصَّة بعد امتهانه الصَّحافة الثَّقافيَّة، فراح يبدي اهتماماً خاصَّاً بنا، نحن الشُّعراء والكتَّاب الشَّباب، باتِّجاهاتنا الفكريَّة التي تستثير، عادة، استرابة الأجهزة الأمنيَّة. لكنه كان نادر البسالة، رغم أن في أحضانه يتامى يترحَّل بهم من بيت إيجار إلى آخر، رافضاً أن يأتيهم بزوجة أب. كان يستيقظ مع النَّجمة، يعدُّ الشَّاي، والفطور، ويصطحبهم إلى المدرسة، ويعود ليطبخ، ويغسل، ويكوي، قبل أن يذهب للعمل، ثمَّ يعود بهم من المدارس، ويجهِّز لهم الغداء، وينظف البيت، ويحمِّمهم، ليجلس يستذكر معهم دروسهم؛ وهكذا إلى أن ابتنى لهم بيديه العاريتين، في ما يشبه عمل قبيلة من الجِّنِّ، بيتاً، في ضاحية أم درمانيَّة نائية، وهم يكبرون، سنة بعد سنة، حتَّى تزوَّجوا، فصار له أحفاد ليس أقرّ لعينيه منهم، وراح يعيد معهم، وهو يخطو نحو الثَّمانين، سيرته الأولى مع ابنائه، بينما يكاد لا يتوقَّف، ولو لبرهة، سنين عددا، عن شيئين: التَّدخينِ الذي فتك برئتيه، ورَفْدِ المكتبة بسرديَّاته الرَّائعة، ودراساته الفلسفيَّة والنَّقديَّة الباتعة.
ظلَّ القدَّال يعطِّر أمسيات العاصمة والأقاليم بمديح الوطن وناسه، وظلت الجَّماهير تهشُّ، حيثما حلَّ، لاطلالاته، وتبشُّ لتغريداته. وإن أنسى لا أنسى، ما حييت، حين وقف يلقي قصائده من على منبر مسرح مكتظٍّ بشباب جوبا التي كنَّا وصلناها، بعد الانفصال، مع صديقتنا المبدعة البديعة ستيلا قاتيانو، نشارك في تدشين بعض إصداراتها، بدعوة كريمة منها ومن «دار رفيقي». كان القلق يعصف بي إشفاقاً عليه مِمَّا حسبته عسراً في عامِّيَّته على الأذن هناك، فإذا بالحناجر الجَّنوبيَّة الفتيَّة ترعد أصداؤها في جنبات المسرح، تردِّد معه أشعاره، كلمة كلمة، في كوراليَّة مذهلة: «وانا ما بجيب سيرة الجَّنوب .. انا ما بجيب سيرة الجَّنوب»!
ظلَّ عيسى، طوال رحلة حياته الأسطوريَّة، التي تكاد لا تصدِّقها الانتلجينسيا المدينيَّة، يقاسي، بجسده النَّاحل، سقماً ينهش منه الصَّدر، حتَّى افترسه تماماً، فأسلم، أخيراً، روحه الطاهرة، في صمت، إلى بارئها، مثلما شقَّ علينا، ذات مساء كئيب، نعي القدَّال من القاهرة ينهي آلاماً لطالما مزَّقت منه الحشاشة؛ فنعوذ بك، اللهم، من فتنة مماتهما، مثلما نعوذ بك من فتنة محياهما، عالمين بأنه لم يتبقَّ من العمر ما يعوِّضنا عن عشرتهما، أفذاذاً في العامِّ، وأحباباً في الخاصِّ، سائلينك، اللهمَّ، واسع الرحمة والمغفرة لكليهما، وطامعين في إنزالك إيَّاهما منزلة المقرَّبين إليك، المرضي عنهم منك، ولا نقول إلا ما يرضيك، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
الثُّلاثاء
أصاب اللواء عابدين الطاهر، المدير الأسبق للمباحث، حين قال إن تكوين قوَّات من الجَّيش والدَّعم السَّريع لحسم انفلات الشَّارع، إنَّما يعني الاستغناء عن الشُّرطة، محذِّراً من التَّعامل مع المدنيِّين بقوَّات عسكريَّة ذات عقيدة قتاليَّة، ومؤكِّداً أن الجِّهة الوحيدة التي يمكنها التَّعامل معهم هي الشُّرطة (السُّوداني الدَّوليَّة؛ 21 يوليو 2021م).
الأربعاء
ظهر اليسار في السُّودان، بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، بتيَّارات مختلفة، أغلبها سياسي، وبعضها اجتماعي، وبعضها ابداعي. على النَّمط الغالب ظهرت أحزاب وكيانات سياسيَّة، أبرزها الشِّيوعي، بالتَّأثير «الواسع» للماركسيَّة، و«المحدود» لتَّجربة المعسكر الاشتراكي. تبعت ذلك أحزاب وحركات عروبيَّة، كالبعثيَّة، والنَّاصريَّة، والقوميَّة العربيَّة، وآخرها، ربَّما، «نظريَّة» القذَّافي «الجَّماهيريَّة». كما ظهرت أحزاب وحركات إقليميَّة، في الجَّنوب، وجبال النُّوبا، بتأثير حركة التَّحرُّر الأفريقيَّة. وعلى النَّمط الثَّاني تشكَّلت تنظيمات نقابيَّة، واتِّحادات نسائيَّة، وشبابيَّة، وطلابيَّة، وفنِّيَّة. أمَّا على النَّمط الثَّالث فقد ظهرت تيَّارات أدبيَّة وتشكيليَّة، كالواقعيَّة الاشتراكيَّة، في الشِّعر والسَّرد، والواقعيَّة السِّحريَّة في القصَّة القصيرة والرِّواية، وتبعهما بروز الميل إلى الجَّماليَّة الأفريقيَّة الإسلاميَّة في مدرسة الخرطوم التَّشكيليَّة، منتصف السِّتِّينات، ثمَّ حركة أبادماك.
الملاحظة الأبرز، في التَّجربة المؤسَّسيَّة للحزب الشِّيوعي السُّوداني، هي، من باب تَّجرُّد القراءة، وموضوعيَّة التَّحليل، انتباهته الباكرة لجانبين، كلاهما غاية في الخطورة، الأوَّل عدم إلزاميَّة «الإلحاد» للتَّطبيق الماركسي، والآخر ضرورة مراعاة الحرّيَّات الفرديَّة؛ ومن ثمَّ اقدامه، منذ نهاية الحرب الثَّانية، قبل حتَّى تكوينه رسميَّاً، صيف 1946م، على إعلان نقده الصَّريح لتجربة التَّطبيق السُّوفييتي. أمَّا المأخذ الأساسي على أكثر تمظهرات هذا النَّمط السِّياسي، بالنِّسبة لليسار العروبي، فهو تعامي بعض منسوبيه، وغضُّهم الطَّرف عن ممارسات القتل، والسَّحل، والقمع، وكبت الحريَّات، ونظام الحزب الواحد، والتَّجسُّس على الاعضاء، في البلدان التي يريدون تمثُّل تجربتها، كنظامي صدَّام في العراق، والأسد في سوريا، مِمَّا يلزمهم بالدِّفاع عنها، والصَّمت إزاء ممارساتها لأبشع صنوف التَّعذيب، والتَّصفية الجَّسديَّة، والاعتقال الإداري، رغم نضالهم الصلب، هم أنفسهم، في بلدهم ذاته، ضدَّ نظام لا يقلُّ بشاعة عن تلك الأنظمة، الأمر الذي غالباً ما يعرِّضهم للتَّشريد، والملاحقة، والسِّجن، والتَّنكيل!
الخميس
رغم الحظر الأمريكي المتواصل منذ 1962م، قالت مجموعة «بيوكوبافارما» إنّ لقاح «عبدالله» ضدَّ كورونا أثبت فعالية بنسبة 92.28% بعد 3 جرعات، فاستحقَّ التَّرخيص. كما أن معهد اللقاحات، بهافانا، أعلن، الأسبوع الماضي، أن لقاح «سوبيرانا2» قد أثبت فعاليَّة بنسبة 62% إثر الجرعة 2 من 3، فيُتوقّع ترخيصه قريباً. واللقاحان يعطيان أملاً لشعوب القارَّة الفقيرة. وهنّأ الرَّئيس ميغيل دياز كانيل بلاده، قائلاً: «علماؤنا تغلبوا على جائحتي كوفيد والحظر»! وتستهدف الحكومة تلقيح 70% من السُّكَّان البالغ عددهم 11,2 مليون نسمة بحلول أغسطس، على أن يُلقَّح الجميع قبل نهاية السَّنة. وبهذا أصبحت كوبا أوَّل دول أمريكا اللاتينيَّة تطويراً وانتاجاً للقاحات كورونا، رغم الحظر الذي باشرت، بسببه، منذ الثَّمانينات، تطوير أدويتها الخاصَّة، فضلاً عن 8 لقاحات محليَّة من الـ13 التي تستخدمها. وتغطِّي هذه اللقاحات 80% من برامج التَّحصين في كوبا وفي 35 دولة أخرى، كفنزويلا، وكولومبيا، والأرجنتين، والبيرو، والمكسيك، وإيران، وفيتنام.
أمَّا تسمية لقاح «عبدالله» فتعود إلى مسرحية شعريَّة بهذا الاسم، ألفها الشَّاعر خوسيه مارتي (توفي سنة 1895 عن 42 عاماً)، ويُعدُّ من رموز النِّضال لأجل استقلال كوبا عن الاستعمار الإسباني، وكان معجباً بالحضارة العربيَّة، وبالعرب الذين شاركوا الكوبيِّين نضالهم التَّحرُّري. و«عبد الله» هو بطل المسرحيَّة، وهو شاب مصري نوبي ناضل وضحَّى في سبيل بلده وشعبه.
الجُّمعة
السَّادس من ديسمبر 1998م. صباحٌ من الصَّحو الاستوائيِّ، وشبُّورة من النَّثيث النَّاعم. إفطارٌ خفيفٌ على موسيقى السَّواحيلي الخافتة: كوكتيل الفاكهة الطازجة، وفنجالٌ القهوة بالحليب، مع قطعتين من بسكويت الزَّنجبيل. اتخذت مقعدى إلى مائدة مستديرة، في قاعة بنوافذ زجاجيَّة عريضة، تهطل خلفها تعاريش الكارنيشن الملوَّنة، بفندق «كانتمير» الرِّيفىِّ السَّاحر، بطابقه الأرضىِّ، وآجُرِّه المحروق، وسقوف قرميده البرتقالىِّ المحدودبة، ومماشى حدائقه المغمورة بزهور الجِّيكاراندا البنفسجيَّة، وسط دغل من الصَّنوبر، والبان، والماروبيني، والبامبو، محاطاً بمزارع البنِّ والشَّاى بخضرتها الفصيحة المشعشعة، تتخلله مسطَّحات الورود، وأحراش الأزاهير، وما لا يُحصى ولا يُعدُّ من صنوف النَّباتات الاستوائيَّة رقراقة النَّدى، عميقة العطر، في تلك الضَّاحية الهادئة، الرَّابضة قريباً من «تل الموز Banana Hill»، شماليَّ العاصمة الكينيَّة التي وصلناها، مساء أمس، بدعوة من «أوكسفام كندا»، للمشاركة في «ورشة عمل حول أوضاع منظمات المجتمع المدني في القرن الأفريقي». طفقت أرتِّب أوراقي، صامتاً، وأحاول أن أميِّز بين الهمهمات التي تناثرت فى المكان، وأرمق، بين الفينة والأخرى، السَّحنات الزِّنجيَّة، والخلاسيَّة، والصَّفراء، والبيضاء، التى تحلقت متأهِّبة، بحيويَّة، حول المائدة المستديرة.
بغتة، التقت نظراتنا. ألفى كلانا نفسه يحدِّق في وجه الآخر. هنيهة، ثمَّ غضضنا طرفينا حرجاً. غير أننا سرعان ما عدنا، لسبب ما، نحدِّق، مجدَّداً، فى وجهي بعضنا البعض. لمحت طيف ابتسامة متردِّدة في المحيا الزِّنجى الوسيم، والثَّغر المفترِّ عن صفَّين من العاج النَّضيد، فابتسـمت بدوري. وتبادلنا إيماءة تحية خفيفة برأسينا. أدرت شريط ذاكرتي إلى الوراء، ولعله فعل أيضاً. جرَّدته من غضون الجَّبين الوضيء، ومشيب الفودين الأنيقين، وجرَّدني، فيما يبدو، من جهشة البياض في لحيتي، ونمنمات العمـر حول عينيَّ، فإذا بأحداث صيف العام 1983م تسـطع بكامل تفاصيلها، وإذا به يهتف، بدينكاويَّته العذبة:
ـ «كا .. مال جو .. زو .. لى»؟!
وإذا بي اهتف، وحاجباي يرتفعان دهشة:
ـ «دول .. دول اشويل»؟!
غير أن ميسِّر الورشة، الصَّديق مرتضى جعفر، المحامي الكيني من أصل هندي، مستشار جمعيَّة العون القانوني، شرع يعلن، بصوته الجَّهوري، عن افتتاح الورشة، فى ذات اللحظة التى كنت أتمتم فيها، مأخوذاً، بين خشخشة الأوراق وانتباهة الأعين:
ـ «حقَّاً .. الحَىُّ يلاقي»!
تعارفنا، صيف 1983م، وسط ملابسات تحوي من الملهاة ما تحوى من المأساة! وجاء لقاؤنا بنيروبى محفِّزاً لإعادة تركيب الجُّزيئات المفكَّكة التى ما انفكت تهشُّ على ذاكرتينا. كنت اعتقلت ضمن بعض المحامين والقضاة، بسبب إضراب القضائيَّة الشَّهير، ورُحِّلنا، منتصف الليل، من الأمن إلى كوبر. هناك، في قسم «المعاملة الخاصَّة»، فوجئنا بعدد من «حلفاء النِّميري!» من رموز الحكم الذَّاتى في الجَّنوب، وفيهم «دول»، القاضي السَّابق، ونائب رئيس المجلس التَّنفيذي العالي، لاحقاً، وماثيو أوبور، رئيس مجلس الشَّعب الاقليمي، ود. جستين ياك وزير الصحَّة، وأمبروز ريني المحامي، ووزير الثَّقافة والاعلام. كانوا قد عارضوا قرار «الرَّئيس القائد» بإعادة تقسيم الجَّنوب لثلاثة أقاليم، وعدُّوا ذلك تنصُّلاً عن اتِّفاقيَّة السَّلام بأديس أبابا، والتي أوقفت الحرب منذ مارس 1973م!
وجدنا مشاجبهم المصطنعة من غصون النيم مغروزة فى شقوق الجِّدران الشَّائهة، ومكتظَّة ببزَّاتهم الهفهافة، وربطات أعناقهم الزَّاهية، وارد «كريستيان ديور» الباريسيَّة، و«ماركـس آند سبنسـر» اللندنيَّة، وأشـكال وألوان من عصـىِّ العـاج والأبنوس السُّـلطانيَّة!
علمنا أنهم جاءوا من جوبا لحضور المؤتمر القومي الرَّابع للاتِّحاد الاشتراكي. وقبيل الجَّلسة الختاميَّة حضر إليهم، في صدر القاعة، شبَّانٌ مهذَّبون، يضعون شارات المراسم، وانحنوا أمامهم بتحيَّة الإجلال، ليخطروهم بأن برنامجهم يشمل لقاءً مع سعادة اللواء عمر الطيب، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس جهاز الأمن. وفور انتهاء الجَّلسة انطلقت بهم سيَّارات رئاسيَّة عميقة السَّواد، مسدلة السَّتائر، تموء، فى ذلك المساء اللطيف، كهررة ناعمة، تتقدَّمها السَّارينة، إلى حيث ترجلوا، وأعصابهم المشدودة إلى مراكز الحساسيَّة البروتوكوليَّة فى أدمغتهم لا تنتظر غير فرقعات التَّحايا العسكريَّة، تحت شعشعات الأنوار الرِّئاسيَّة! لكن صدمتهم كانت عنيفة حين ألفوا أنفسهم في باحة كئيبة، ضيِّقة، معتمة، حيث لا «سعادة نائب أول» ولا يحزنون، بل مجرد «مينى بص» كالح، تَحلَّق حوله، بانتظارهم، رهط من الغلاظ الأشدَّاء، يتجهَّمُونهم، مدجَّجين بالأسلحة الخفيفة، والتَّعليمات الصَّارمة! هكذا بين «الهبوط» من «الليموزينات» الفارهة و«الصعود» إلى «المينى بص» الكالح، تشكَّلت اللحظة الفاصلة بين «أديس» و«كوبر»! واستحالت غرف الفندق الحالم إلى مجرد حصائر بالية، وبطانيَّات نتنة، وتحوَّل «مستر تشيرمان» و«مستر فايس بريسيدنت» و«مستر منستر»، ما بين غمضـة عين وانتباهتها، من رجال دولة ملء السَّمع والبصر، إلى محض قوم منقطع بهم، وأرقام صـمَّاء فى «تمام» السِّـجن!
أسميناها «ليلة الخناجر الطويلة»، وتندَّرنا بأحداثها كثيراً، خصوصاً بعد أن أطلق النِّميري سراحنا وسراحهم، بينما كان يرتِّب، سرَّاً، لإصدار «قوانين سبتمبر». استضافوهم، هذه المرَّة، بفندق «أراك»، فتبادلنا الزِّيارات، وتوثقت بيننا العلاقات، إلى أن جاء يوم بحثنا فيه عنهم، فلم نجد لهم أثراً! قوي لدينا الاعتقاد بأنهم لا بُدَّ قد اعتقلوا مجدَّداً، حتى أتانا خبرهم بعد حين، فإذا بهم قد خرجوا! غافلوا أجهزة الأمن وخرجوا! دخلوا «الغابة»! التحقوا بالحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان التي أسَّست جيشها، آنذاك، ودشَّنت حربها، للتو!
حكاية لا تخلو من الطرافة على مأساويَّتها! لولا أن الطرافة سرعان ما تطير أبخرة، لترسب المأساة وحدها فى الأعماق، كأمثولة حيَّة عمَّا ذكَّرنا به الصَّديق عبد الله علي إبراهيم مِمَّا أسماه «نهاية السِّياسة» فى بلادنا، وتحديداً قِصَر النَّظر القديم لدى الحركة السِّياسيَّة فى الشَّمال، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأولى» فى الجَّنوب، وقصَر نظر رديفتها فى الجنوب، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأخيرة» فى الشَّمال!
فى الورشة قدمنا ورقتين جيَّدتين عن ثقافة العمل الطوعى فى الشَّمال والجَّنوب، فاكتشفنا، قبل الأغيار، كم نحن متقاربون فى قيم كثيرة. سألته على العشاء:
ـ «إذاً فيم كلُّ هذا الاقتتال يا دول»؟!
أجابني، متشاغلاً بنثر بعض الملح في طبقه:
ـ «إسأل نفسك»!
ألقيت بمنديل السوليفان في قفص البلاستيك تحت المائدة. وما أن لمحنى أخرج صندوق «البرنجي» من جيبي، حتى انقض عليه كما النِّسر:
ـ «هييييه .. كامال .. كامال! ما زالوا ينتجون هذا الشَّئ؟! كيف فكرت في إحضاره معك؟! ماذا أحضرت أيضاً؟! من يا ترى بقي في السُّودان من آل حجار»؟!
أهديته صندوقاً. أشعل لفافة. استرخى، ثم سعل بشدَّة. كان مصاباً بأنفلونزا حادة. ناولته منديل سوليفان، وأنا أقول ضاحكاً:
ـ «وأنت يا رجل، تهتزُّ كقصبة، وصدرك يكركر مثل وابور معطوب، فكيف تستطيع أن ترفع بندقية»؟!
بدا أن وجهه اكتسى غلالة حزن شفَّاف. لذنا بالصمت. لكنه ما لبث أن عاد إلى أسئلته المتحمِّسة:
ـ «اسمع .. كامال، ألا يزال مطعم .. مطعم .. اللعنة .. ذلك المطعم الصَّغير قرب صحارى، ألا يزال يعمل؟! وصينية الاتِّحاد الاشتراكي؟! سمعت أن مقاهي رائعة قامت جهات المقرن؟! اسمع .. كامال، وتلك المثقَّفة المدهشة فا .. فاطمة .. ياه .. ياه .. أذكرها فى الجَّامعة .. فاطمة بابكر .. أين هي الآن؟! ومولانا فلان يفترض أن يكون الآن في المحكمة العليا! ومحطة السِّكَّة حديد ألا تزال في مكانها؟! اسمع .. كامال هل قامت أحياء جديدة في الخرطوم؟! أظن أن التاكسى لايزال باللونين الأصفر والأخضر؟! ألا يزال كبري أم درمان يهتزُّ كأنه مشيَّد فوق زلزال؟! إسمع .. كامال، وأولئك الأصدقاء .. أين هم الآن .. عمر صديق وأنور عز الدِّين وعبد المنعم بشير والطيِّب أبو جديري وإسحق شدَّاد وسيِّد عيسى وعبد الله صالح* والآخرون»؟!
وحين أخبرته بوفاة عبد المنعم وعبد الله، وقتها، حزن كثيراً.
وهكذا، طوال الأسبوع، في الصَّباحات قبل العمل، في المساءات على العشاء، فى الاستراحات بين الجَّلسات، يسبقه إليَّ صوته من على البعد:
ـ "اسمع .. كامال"!
ثم يأخذنى من يدي، ويبدأ فى الكلام والسُّؤال في نشوة طفوليَّة، وحماسة فائقة، كيفما اتفق، ودونما ترتيب، عن تفاصيل التَّفاصيل، عن الخرطوم، والناس، والجَّامعة، والمطاعم، والمقاهي، والشَّوارع، والسِّينمات، وأولاد دُفعته، ودوَّارات المرور، ومنتديات السِّياسة، وأروقة القضاء، و .. تساءلت، بينى وبين نفسى، أكثر من مرَّة، وهو في قمَّة نشوته بذكريات الخرطوم: «هل يُعقل أن مثله يريد الانفصال»؟!
وقفنا، ذات أصيل ناعم، ندخِّن، خلال استراحة قصيرة، فهتفت، وأنا أسرِّح بصرى فوق شلالات الخضرة المترامية وراء الأفق باحتمالاتها اللانهائيَّة:
ـ «يا رجل! لم أرَ فى حياتى جمالاً كهذا»!
وسرعان ما استشعرت خجلاً عميقاً يصلبني داخل جلدي حين علق، بانجليزيَّته الدِّينكاويَّة، وصوته الخفيض، وهو يسعل في منديله:
ـ «هذا يعني أنك لم ترَ مريدي، بعدُ، يا صديقي»!
دهمني، بعد ذلك بعامين، خبر إصابته بالشَّلل النِّصفي. أخبرتني به، في الخرطوم، صديقتنا الكنديَّة دنيلي بيكيلي، المقيمة بنيروبي، قالت: نزوره في المستشفى بانتظام، ولكن مرآه، وقد ازداد شحوباً، ومرأى عياله حول سريره، فى غربتهم الهائلة، يكاد يمزِّق نياط القلوب. بعثت إليه معها بتحاياي وتمنِّياتي القلبيَّة. وكتبت له، مداعباً، أقول: «يارجل! لقد نفدتَ من ليلة الخناجر الطويلة، فابشر بطول سلامة»!
ولكن نعيه ما لبث أن شقَّ علىَّ ، بعدها بأشهر «وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت». أسأل الله أن يشمله، وعياله، والسُّودان، ويشملنا أجمعين، بواسع رحمته وغفرانه.
السَّبت
في الأوَّل من يوليو الجَّاري كشف علي جدُّو، وزير التِّجارة والتَّموين، عن اجراءات وزارته لتوعية المواطنين بقوانين جديدة لضبط الأسواق، وفرض الالتزام بوضع بطاقات الأسعار على السِّلع، تعقبها حملة ستشنًّها، بدءاً من أغسطس المقبل، للرَّقابة، ومنع تلاعب التِّجار والسَّماسرة.
لا شكَّ في ضرورة هذه الاجراءات، لكن يا حبَّذا، حسب «العين الأخباريَّة»، لو الزمت الوزارة المصانع، والشَّركات، وسائر تجار الجُّملة، بتعبئة المنتجات في حاويات ذات أوزان معلومة، ووضع ديباحات عليها بأسعارها، وتواريخ انتاجها، وانتهاء صلاحيَّتها، قبل بيعها لتجار التَّجزئة، كما أن على الوزارة، ايضاً، حلَّ معضلة السِّلع المستوردة والتي تدخل البلاد دون أن تُعرف اسعارها الحقيقيَّة!
غير أنني وددت لو أن الوزير الجَّديد نسب الفضل في هذا القانون للوزير السَّابق مدني عباس الذي كان قد أعلن عنه، قبل إقالته، وصرَّح بأنه كان في مرحلة الإجازة بمجلس الوزراء، وأنه يحدِّد عقوبة السِّجن بخمس سنوات، مع جواز المصادرة، على عدم وضع بطاقات الأسـعار على السِّـلع (الحداثة؛ 16 يناير 2021م). كما وددت، أيضاً، لو أن الوزير الجَّديد أوضح السَّبب في بقاء هذا القانون رهن إجراءات التَّشريع طوال الفترة الماضية، بينما الشَّعب يسحقه الغلاء المتفاقم يوماً عن يوم!
الأحد
قال ونستون تشيرشيل، رئيس وزراء بريطانيا، مرَّة، وكان شديد البدانة، لجورج برناردشو، الكاتب السَّاخر الذي كان شديد النَّحافة: «مَن يراك يظن أن بلادنا تعاني من مجاعة»! فردَّ شو قائلاً: «ومن يراك يدرك، فوراً، أسباب هذه المجاعة»!
kgizouli@gmail.com