ماذا يريد الحزب الشيوعي المقبور من الحركة الشعبية وقد رفض العلمانية في السُّودان؟
أصبت بالقئ والغثيان ودوران الرأس، وأنا أشاهد صوراً أرسلها لي أحد الرفاق خاصة بلقاء جمع رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، الفريق عبدالعزيز الحلو بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان مع القيادي بالحزب الشيوعي السوداني صديق يوسف. وسبب إصابتي بالغثيان هو أن هذا الحزب الذي يفترض أن يكون "الدين" بالنسبة له أفيونا للشعوب، ويفترض أنه "علماني" يؤيد التنظيمات والأحزاب التي تنادي بتطبيق النظام العلماني من أجل وحدة السودان، إلآ أنه فاجأ الجميع بمواقفه المخزية التي جاءت متناغما مع مواقف الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي تتاجر بالدين وترفض تطبيق العلمانية في السودان، حيث قال قبل أسابيع من هذا التأريخ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، صديق يوسف الذي ظهر في الصورة المرسلة مجتمعا بعبدالعزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية في جوبا، إن مفاوضات السلام بجوبا غير سليمة، مشيرًا أن خطة إسقاط النظام تحققت ويجب الاستناد بين قوى المعارضة إلى ما تم الاتفاق عليه سابقاً من وثائق لحكم السودان ومعالجة المشاكل التي فيه.
وداعا خلال حديثه في ندوة أقامها الحزب (قبل أسابيع)، الي إعادة النظر في كيفية تحقيق عملية السلام بالسودان، وأردف “كلمة “العلمانية” المطروحة في طاولة المفاوضات ليست سليمة”، مبررا ان لها تفسيرات مختلفة.
وأضاف يوسف أن المعارضة في السودان، توافقت على الدولة المدنية الديمقراطية، في وقت سابق وأردف أن مسالة تحقيق السلام مسؤولية مجلس الوزراء، وليس المجلس السيادي.
الجدير بالذكر أن القوى المسلحة في السودان، من بينها الحركة الشعبية شمال، بفصل الدين عن الدولة، وإعتماد علمانية الدولة، أو منح إقليم جبال النوبة، والنيل الأزرق حق تقرير المصير.
إذن عزيزي القارئ.. وكما هو واضح من حديث الشيوعي صديق يوسف، فيبدو أنه رد مباشر على مطالبة الحركة الشعبية بالنظام العلماني.. بالقول "إن كلمة “العلمانية” المطروحة في طاولة المفاوضات ليست سليمة، مبررا ان لها تفسيرات مختلفة. لكن الرجل الذي يكثر من الظهور على وسائل الإعلام لينبح وينعق، اخفق ولم يستطع كعادة كل النخب السودانية التي أدمنت الفشل، أن يأتينا بالتفسيرات المختلفة المزعومة لكلمة العلمانية. لكن ماذا يفيد حتى لو جاء بالتفسير الذي يزعمه، فالعلمانية بغض النظر عن أنواعها وتفسيراتها المختلفة تدعو لإبعاد الدين عن السياسة وهذا هو المطلوب؟
العلمانية التي طرحتها الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال كنظام حكم للسودان واضح وضوح الشمس ولا يحتاج لأي تأويل مايع أو مبهم، حيث يتخلص هذا المفهوم في (الحرية والمساواة، والتسامح والمواطنة، وإقرار العدالة الاجتماعية والفصل بين السلطات).. العلمانية التي تقتضي المساواة أمام القانون وأمام الدولة، وتمحى كلياً الفروق القائمة على الدين والجنس والعِرق واللون، حيث يصبح الجميع ودون استثناء أمام القانون.. العلمانية التي تمنع وتقطع أي علاقة تربط مع تجار الدين الذين مارسوا كل أنواع الموبقات المذهبية والطائفية في خدمة السلطان والسلطة.
المفهوم أعلاه للعلمانية هو الذي قدمته الحركة الشعبية منذ دخولها المفاوضات مع حكومة الأمر الواقع بجوبا عاصمة جنوب السودن، والحزب الشيوعي السوداني يعرف هذا الشيء جيدا، لكنه يمارس سياسة اللف والدوران وأصبح الوضوح والصدق والأخلاق منعدم عنده تماما.
الحركة الشعبية لتحرير السودان، كانت تعتقد بصدق، أن الحزب الشيوعي وغيره من التنظيمات والأحزاب الشمالية ذات التوجهات اللبيرالية واليسارية، ستكون شاكرة للحركة الشعبية بطرحها للعلمانية كنظام حكم في السودان، وستعمل بطاقتها القصوى لدعم هذا الطرح، بإقامة ندوات شعبية ولقاءات جماهيرية في القرى والمدن الشمالية للتنوير وتصحيح اللغط الذي يلف حول هذا المفهوم. لكن يبدو من خلال موقف الحزب الشيوعي أن تلك التنظيمات والأحزاب لم تكن علمانية أصلا إلآ ظاهريا، وهو بذلك لا يختلف عن الإسلاميين والقوميين في شيء.
بالملخص.. يبدو أن الحزب الشيوعي بلهاثه وراء لقاء الحلو رغم عدم تأييده للنظام العلماني الذي تطالب به الحركة الشعبية، إنما يقوم بدور خطير في تزييف الواقع السوداني برمته وفبركته وتزيينه بغية إقناع الحركة الشعبية بما يخدم مصالحه الخاصة.. والحزب بهذا الدور القذر إذ يبذل كل جهده لكي لا تظهر الحقيقة الكاملة للسودانيين، وهي أن الحركة الشعبية لا ترهن مواقفها وتحركاتها وفق المنظور الانتهازي الذي أصبح السمة الطاغية على خطاب القوى السياسية السودانية المختلفة التي برهنت على أن الديمقراطية بالنسبة لها ليست سوى مصطلح لفظي تقوم بتشكيله كما تشاء ووفق ما يناسبها ويشبع رغباتها وأهواءها ومصالحها، دونما أدنى اعتبار للمرتكز الحقيقي الذي يستند إليه النهج الديمقراطي وهو النظام العلماني الذي لا يمكن تحقيقه في السودان إلآ ببحث جذور الأزمة.
في اعتقادي، ليس هناك ما يبرر أبداً بداً لقاء الحزب الشيوعي برئيس الحركة الشعبية شمال عبد العزيز الحلو من الناحية الموضوعية، لطالما يتخندق ويتمترس الأول حتى الآن مع الأحزاب والتنظيمات السياسية والجماعات الإسلامية التي تريد الإحتفاظ بأمراض وأوساخ السودان القديم.. وعليه لا ندري ما الفائدة التي تجنيها الحركة الشعبية من لقاءها بالشيوعيين وبالإتحادي الذي انشطر وانقسم حتى بلغ عدده ست حزب اتحادي؟
ما الفائدة من الجلوس مع أحزاب مأزومة.. أحزاب أكل عليها الدهر وشرب منها.. أحزاب خارج الوقت وخارج الأحداث وخارج الإنسانية والضمير.. أحزاب محرومة من الذكاء السياسي السليم ومختلة على كل المقاييس.. أحزاب من الصم البكم الذين لا يعقلون ولا يفهمون، وفي كل الأحوال، هي أحزاب المركز، مركزية أكثر من المركز نفسه.. أحزاب بلا قاعدة شعبية ولا برنامج ولا أفق.. فما الفائدة من الجلوس معها؟
bresh2@msn.com