ما بين أبريل السودان ويناير تونس

 


 

حسن الجزولي
30 January, 2011

 

ما بين أبريل السودان ويناير تونس
تجارب السودانيين المهملة في المنطقة ،، من يذكر القوم ؟!

حسن الجزولي

رداً على فزاعة ظل يرددها رئيس دولة شبيهة بأوضاع تونس في مواجهة المعارضة التي تسعى لإسقاطه بأن، على الشعب الذي يريد إسقاطه أن يتقبل مصير ما جرى بأفغانستان والعراق والصومال، ردت عليه إحدى الشخصيات النسائية المعارضة له قائلة بتهكم وهي تستحضر تجربة (تونس) ,,بنفس المستوى يا سيادة الرئيس,, عليك  في هذه الحالة,, أن تتقبل مصير ما جرى لـ (رصيفك) في تونس!.
رغم عدم تشابه الظروف بين بلد وآخر وانتفاضة وأخرى بين الشعوب ,, إلا أننا نجد تطابقاً في النتائج التي تفرزها المقدمات، وبنفس القدر نجد أحياناً كذلك أنه وعلى الرغم من تشابه الظروف بين بلد وآخر وانتفاضة وأخرى، إلا أننا لا نجد أدنى تطابق في ما حدث بين هذه الدولة وتلك، وهذا ما يطلقون عليه بأن التاريخ لا يعيد تكرار نفسه إلا استثنائياً!.
ويود هذا المقال أن يعقد مقارنة بين ما تم في السودان عام 1985 وبين ما تم ويتم الآن في تونس مطالع هذا العام 2011، لإبراز مواقع الايجابيات ومواطن السلبيات وأوجه التشابه الأخرى بين التجربتين.
وبدءاً نشير إلى حقيقة موضوعية ونحن نعقد هذه المقارنة، وهي أن ما جرى على شوارع العاصمة السودانية وأقاليمها من فعل ثوري أنهى سنوات مريرة كالحة من حكم عسكري ديكتاتوري واستبدادي، رغم ذلك إلا أن زخمه لم ينعكس في الشارع العربي بكل هذا العمق والامتداد والصدى الذي وجدته انتفاضة الشعب التونسي في أوساط الشعوب العربية والمنطقة بأسرها!،وقد تجلت مظاهر هذا الاهتمام بالتأثير عميق الشأن الذي أفرزته انتفاضة تونس على كامل المشهد السياسي لجماهير غفيرة من المشرق والمغرب، ولقد عبر كثير من المتابعين بأن ما جرى بتونس متمثلاً في انتفاضة شعبية تطيح بحاكم مستبد متسلط ديكتاتورى مدعوم (إمبريالياً) هنا وهناك -  وبالأخص كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كحليفتين أساسيتين لحكم بن علي في تونس والمنطقة! - يعتبر إنجازاً (ثانوياً) في (المنطقة).. (كذا)! وهو ما أشار إليه تحديداً إعلامي وصحفي ومحلل سياسي مرموق كالأستاذ محمد حسنين هيكل!، وذلك ضمن حلقة خاصة في برنامجه التحليلي الأسبوعي بعنوان (مع هيكل ,, تجربة حكم) بقناة الجزيرة الفضائية,, وقد  تبعه أغلبية المحللين الذين تناولوا تجربة الثورة التونسية، حيث أشاروا إلى أن تجربة تونس هي ( البداية) التي ستلهم جماهير وشعوب المنطقة، باعتبارها فتحت الأبواب على مصراعيها لكي تحذو شعوب المنطقة حذو تونس!,,وما دروا أن شعباً (في المنطقة) قدم تجربة رائدة في كيفية إنهاء حكم الفرد المطلق والديكتاتوريات العسكرية مهما علا شأن ترسانتها القمعية،   ولذا حق لنا لهذا السبب وبعده أن نصف إنتفاضة أبريل المجيدة بالانتفاضة المنسية ، وأن نصف تجارب شعب السودان في منازلة الديكتاتوريات القمعية بالمهملة!.
 هذه مقدمة كان لابد منها ونحن نرصد ونقارن بين ما تم من إنجاز في كل من السودان وتونس، فنشير إلى أنه ورغم أن إنتفاضة أبريل الشعبية السودانية التي أنهت حكم الفرد المطلق المتمثل في النميري، قد أفرزت قيادتها منذ الساعات الباكرة ,, ولكن رغم ذلك تم الالتفاف حول هذا المنجز الثوري التاريخي بقدرة المجلس العسكري الانتقالي تحديداً على أن يتساوى مع القدرات الذاتية للجماهير! ، درجة أن يتخطاها من ناحية قدراتها الثورية ويفرض ((إمكانياته)) التي عصفت بقدرة الشارع السوداني على مواصلة الثورة وفرض البديل الثوري، وقد تمثل ذلك في تآمر (( سوار الدهب )) مدعوماً ببقايا مايو  على الانتفاضة و((تنفيسها)) منذ البداية و ((سكوت)) الجماهير المنتفضة على (( شخصه)) وهي تعلم أنه الممثل لبقايا نظام مايو وسدنتها باعتباره من الرموز الأوائل لرجالات النميري! ,, نجد نفس الأمر يتم في تونس مع أن الفارق بين إنتفاضتها عن إنتفاضة السودانيين بأنها لم تفرز قيادة جماعية لثورتها - عكس ما تم بالسودان الذي تمكنت فيه زعامات الأحزاب وقيادات النقابات أن توحد صفوفها بميثاق الانتفاضة التي وقعت عليه منذ الساعات الأولى لانتصار الانتفاضة- وذلك من ناحية أن رموز النظام السابق في تونس قد فرضوا أنفسهم لقيادة إنتفاضة الشعب التونسي متمثلين في الرموز الأوائل لحكم بني علي والحزب الذي انفرد بالسلطة منذ مطالع استقلال تونس! ,, وعلى الرغم من أن الشارع التونسي يحث الخطى الآن لتصحيح مسار هذا الخطأ الثوري،إلا أن هناك سؤالاً يطرح نفسه بهذا الخصوص، وهو كيف أمكن للشعب التونسي أن يصحح مسار انتفاضته بأصراره على كنس رموز النظام السابق رغم غياب قيادة له،خلافاً لانتفاضة السودان والتي على رغم حضور قيادتها في قلب الأحداث إلا أنها لم تستطع أن تنجز مطلب جماهير أبريل بأن يتسلم بنفسه زمام قيادة الانتفاضة وضرورة إبعاد (سدنة) مايو عن قيادة الفترة الانتقالية؟!،  فهل يا ترى نقرأ مثل هكذا مظاهر بأن خلف كل انتفاضة في العالم الثالث - وتحديداً في منطقتنا - يوجد ( سوار دهب) يكمن خلف الأحداث ( لتنفيسها) !،باعتبار أن هذا الدور قد فصل لأشباه سوار الدهب (محمد الغنوشي في تونس) ليقوموا به وينجزوه تاريخياً حتى يساوي بين الثورة وإجهاضها، متى ما أنجزت؟!
قلنا أن أولى مظاهر  هذا التمايز هو الاحتفاء العميق لشعوب المنطقة بما جرى في تونس والمحاولات المستميتة الجارية حالياً لتحذو الجماهير حذو ثورة تونس العظيمة، خلافاً لانتفاضة  أبريل بالسودان والتي وعلى رغم فرادتها في ذات المنطقة وأنها تكررت للمرة الثانية بعد ثورة شعب السودان في أكتوبر 1964!،رغم  ذلك إلا أننا نجد أن إنفعال المنطقة العربية وشارعها يقل كثيراً عن مظاهر الاحتفاء والانفعال الذي استقبل به ثورة تونس!.
 بالطبع توجد عوامل متعددة قد أثرت وأعطت هذا الانطباع، أول هذه العوامل هو إختلاف الظروف لحظة اندلاع الانتفاضة السودانية عن ظروف رصيفتها التونسية، فيما يخص الاوضاع الأقليمية والدولية، من ناحية وما أفرزتة التحولات التي شهدها العالم الجيوسياسي بفعل تفكك الاتحاد السوفيتي وتفكك دول المعسكر الاشتراكي من الناحية الأخرى، وتفيوء الولايات المتحدة لتصبح القابض الأساسي على رساميل وشئون العالم بشكل عام والمنطقة على وجه الخصوص من أكثر من ناحية!، العامل الثاني الذي حد نحواً ما من تأثير إنتفاضة شعب السودان على جماهير المنطقة هو تأثير الاعلام ونقل ما يجري في تونس لحظة بلحظة، وذلك بفعل تقنيات الاتصال الالكترونية الحديثة التي جعلت من العالم بكل فضاءه الممتد وكأنه بمثابة قرية كونية صغيرة!،وذلك خلافاً لحقبة الثمانينات التي لم تتوفر فيها بعد كل هذه التقنيات الالكترونية المتطورة، وأن وسائل إتصلات تلك الحقبة مقارنة بعالم تقنية اليوم تعتبر أقل من متواضعة، ورغم تلك الامكانيات المتواضعة ولكنها  سهلت من عوامل التعتيم وفرض عزلة إعلامية على الانتفاضة السودانية الوليدة، وعزلت العالم وقطعت عنه إمكانيات تلقى الأنباء الصحيحة أولاً بأول من مصادرها الأساسية!، وفي هذا الصدد نشير إلى فطنة السفير الوطني للسودان بكينيا أبراهيم طه أيوب ووضع إمكانيات سفارته لتتحول إلى نافذه يتلقى منها العالم أنباء ما يجري في السودان!، هذا الأمر خلق غربة بين انتفاضة السودان وجماهير المنطقة، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته عند تناول تجربة السودان في أبريل  وتقييمها من قبل كثير من المراقبين، وليس أقلهم معظم الاعلام العربي، حيث أن الضبابية والتعتيم الذي فرض نفسه أوانذاك تجعل الكثيرون يتداولون إسم المشير عبد الرحمن سوار الدهب باعتباره المنفذ الحقيقي لانتفاضة أبريل! وأن الرجل يعتبر بطلاً ولا ينسون (شهامته) العربية حينما التزم بما وعد به من طمأنة الشارع المنتفض بالتزامه تسليم السلطة للجماهير عبر انتخابات حرة ونزيهة – وهي البعيدة عن أجواء الحرية والنزاهة بالطبع - بعد سنة واحدة من تسلمه مقاليد الأمور من سلفه النميري! ,, وما دروا أن شعب السودان يتابع مثل هذه التحليلات الفطيرة هذه، ولسان حاله يردد متهكماً (مكره أخاك لا بطل)! إذن فإن للأعلام دوره الأكبر في اندياح المعلومات من مصادرها الأساسية، وهو ما توافر لانتفاضة تونس، حيث وفرت التقنيات الحديثة تواصلاً لمجريات الأمور لحظة بلحظة من قبل جماهير واسعة في المنطقة والعالم ونبهت لما يدور في تونس، رغم محاولات التعتيم المستميتة التي حاولها جهاز دولة الرئيس بن على، ولكن هيهات مع الأمكانيات (المليونية) التي أصبحت متوفرة لشباب المنطقة من ناحية سبل الاتصالات وتلقي المعلومة الصحيحة!.
 من العوامل المشابهة الأخرى بين أبريل الخرطوم ويناير تونس، أن الجماهير في كلا البلدين قد رفعت ضمن شعاراتها العزيزة ضرورة حل الحزب الحاكم وإعادة ممتلكاته وأمواله المنهوبة إلى الدولة،وكذلك الاصرار على ضرورة حل أجهزة القمع البوليسية التي كان لها القدح المعلى في التنكيل بالأبرياء ومطاردة المناضلين وتعذيبهم في غياهب المعتقلات والسجون، وكذلك الشعار الذي تمدد عميقاً في شوارع الانتفاضتين في السودان وتونس وهو - كما قد سبق وأن أشرنا - ضرورة تنحي كل رموز السلطة البائدة عن المشهد السياسي وتسليم السلطة للشعب، ولكن التآمر الباكر الذي التف حول خاصرة إنتفاضة أبريل بفرملة الفعل الثوري في الشارع عن طريق رفع الاضراب السياسي بواسطة التأثير الاعلامي الذي كان وقتها ما يزال في يد جهاز الدولة القديم، وبه تم الاعلان عن رفع الاضراب وتوجه العاملين لدواوين العمل، الأمر الذي أثر على نحو كبير على انحسار المد الثوري رويداً رويداً أمام تمدد المجلس العسكري الانتقالي، هذا الالتفاف الذي فطنت له جماهير تونس بعد أن كادت أن تنطلي عليها (اللعبة) فرفضت رفع العصيان وعادت أكثر قوة للشارع مطالبة بتنحي (سدنة ) بني على عن السلطة وتكوين حكومة انتقالية ثورية تطمئن لها الجماهير!، هناك أمر آخر أكثر غرابة، ويتجلى في أمر إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، ففي حين نرى أن جماهير أبريل السودانية وبحكم الشرعية الثورية التي تمكنت من زمام أمورها منذ اللحظات الأولى من سقوط نظام النميري، لم تنتظر قراراً إدارياً لمعالجة أمر المعتقلات والسجون، بل زحفت مباشرة بنفسها، ومنذ صبيحة السادس من أبريل يوم سقوط الطاغية نحو سجن كوبر العتيق وسط العاصمة ودكت أبوابه وحطمت نوافه، وأطلقت سراح جميع معتقلي ومسجوني نظام النميري، الذين وصلت مدة إقامة بعضهم داخل هذه السجون والمعتقلات إلى نحو أكثر من سبع سنوات!، كذلك الحال بالنسبة لسجون النظام الأخرى في بقية المدن والأقاليم!، وذلك خلافاً لثورة التوانسة الذين ورغم أن منظمات حقوق الانسان الاقليمية والدولية ظلت تتابع أوضاع معتقليهم  وتحتفظ بسجلات كاملة لأسماء وشخصيات المعتقلين إلا أن الجماهي في تونس لم تستطع – وربما حتى هذه اللحظة –  إطلاق سراح كافة المعتقلين والمسجونين السياسيين، بل أن كثيراً من أسر هؤلاء  الموقوفين تجهل مصيرهم!.
 وإن تابعنا مظاهر المقاربات الأخرى  بين الخرطوم وتونس نشير إلى أن بن علي رغم أنه ظل يتشبث بكرسي الرئاسة و قد أُجبر على الفرار في اللحظات الآخيرة، نجد أيضاً أن النميري ورغم مغادرته المبكرة للبلاد والتي حاول أن يضفي عليها المظاهر الاعتيادية، إلا أنها كانت ترتيباً مسبقاً لمآلات ما بعد انتهاء زمن اللعبة، ولذا فإن سفره الباكر يعد هو أيضاً فراراً وهروباً!. و أما فيما يتعلق بالشعارات والهتافات، فإنه ورغم اختلاف طابع النبرات ومخارج الأحرف بسبب اللهجة بين التوانسة والسودانيين، إلا أننا نرصد بأن الجماهير في كلا البلدين قد إستخدمت وحملت الأناشيد والأشعار والوطنية في أفواهها، وأن  من بين الهتافات التي رددها أبناء كل من السودان  وتونس ذلك الشعار المتعلق باحتفاء الجماهير الثائرة بانحياز الشرطة للجماهير، فبينما كان السودانيون يرددون ( البوليس بوليس الشعب) لاحظنا أنهم في تونس يرددون ( البوليس ولد الشعب)!.
 وآخيراً  .. فلا بد أن نطابق بين الشرارة التي اندلع من جوفها اللهيب في كل من إنتفاضتي شعب السودان في أبريل وتونس في يناير،، فإن كان الشهيد أبوعزيزي هو من فجر غضب الجماهير الصابرة في تونس بإشعال النار على جسده الغض ليمتد اللهب ويلامس أجساد أبناء تونس الحرة لتنتفض غاضبة وتدك قلاع الظلم، فإن حبال المشنقة الكالحة التي تأرجحت بجسد الشيخ السبعيني محمود محمد طه كانت ضمن الأسباب الأساسية التي حركت جماهير أبريل لتصنع أبريل وليغدو شيخنا الطاهر شيخ شهداء الشعب السوداني!. وبعد ,, فإن كلا الشعبين في السودان وتونس قد رددا - بعد كل هذا وذاك - أهزوجة (بلا وانجلا).. تماماً كما سترددها شعوب أخرى ,, ومرة أخرى!.

 mailto:elgizuli@hotmail.com

 

آراء