محجوب شريف ،، حكايات بلا حدود: أول نقة بين محجوب شريف والحزب

 


 

 

 

عندما دلف محجوب شريف للسجن العمومي بكوبر لأول مرة في حياته، لم يكن عضواً بالحزب الشيوعي السوداني وقتها، كان ذلك في أعقاب أحداث إنقلاب 19 يوليو 1971، وقد كان محجوب ضمن التيار الوطني الديمقراطي العام وصديقاً لعدد من الشيوعيين والتقدميين، خاصة في أوساط الأدباء والشعراء.

في داخل السجن تقدم محجوب بطلب ترشيح للحزب، فتولت إدارة فرع الحزب بسجن كوبر ومكتبها القائد، مسألة الاشراف على الطلب، وتم تكليف زملاء محددين لتقديم كورس المرشحين لمحجوب شريف، كان ضمن هؤلاء الراحل مكي عبد القادر الذي اتفق مع محجوب على جدول زمني للمادة التي سيقدمها له ضمن الكورس.
مكي من نوع الشيوعيين شديدي الصرامة خاصة، فيما يتعلق بالقضايا الحزبية، وكان يبدو مع صرامته أكثر تجهماً، مما يبدو أنه قاسي القلب وغليظ التصرف، ولكنه كان شخصاً غير ذلك بتاتاً في الحياة العامة، إلا أن الصرامة الحزبية قد طغت على مودته وحسن معشره الانساني الرقيق، ومثل مكي يوجد كثيرون داخل الحزب بهذه الميول التي تسربت إلى شخصياتهم لأسباب متعددة، كان من أهمها الحياة الحزبية الداخلية نفسها، خاصة في ظروف العمل السري والاختفاء والتفرغ وشبح المطاردة والاعتقالات والسجون طويلة المدى، هذا الأمر أدى بالكثيرين إلى أن يحسبوا الف حساب للواجبات الحزبية وألا يجعلوا للصدف والتراخي أو التقصير حيال تنفيذ الواجبات بكل همة مكاناً في حياة الحزب الداخلية، حيث أن شاردة أو واردة أو هنة ولو بحجم رأس الدبوس، ربما قد يدفع ثمنها الحزب وقياداته وكوادره المختفية تحت الأرض أو غير المعروفة فوق الأرض، لكنها ـ تلك الخصال ـ لا تخصم من المعادن الانسانية لهذا النوع من الشيوعيين داخل الحزب لأي شخص يتقرب منهم ويلامس طبعهم الحقيقي على أي حال، وكان الراحل مكي عبد القادر ضمنهم.
لم يكن محجوب على علم بمثل هذه الخصال وسط عدد من الشيوعيين، لأنه لم يعش بعد الحياة الداخلية للشيوعيين، وكان بطبعه رقيقاً ويمقت الغلو والتجهم، وهناك خصلة ربما لم يلامسها الكثيرون، وهي أن محجوباً كان شديد الاعتداد بشخصيته، ولم يكن يسمح لأي كان بأن يمس كرامته التي يعتد بها، وقد كانت جميعها تشكل صفات وميول يعرفها أفراد أجهزة الأمن جيداً ولذا كانوا يهابونه ويحسبون له الف حساب.
وبطبع محجوب أيضاً أنه لم يكن يحسب للزمن والمواعيد أي حسابات قبل ولوجه الحزب، فقد كان يعيش على سجيته ويتعامل مع الدقائق والساعات بطريقة السودانيين المعهودة لديهم، ولا يحفل لهذا كثيراً.
ما جرى وحدث هو أن تأخر محجوب عن زمن المحاضرة الثانية لفترة من الزمن، وعندما وصل مكان المحاضرة وجد مكي عبد القادر متجهماً عابساً، وقبل ان يستقر محجوب، إنفجر مكي في وجهه بكل تلك الصرامة التي أشرنا إليها، موبخاً ومنتقداً هذا التصرف الذي بدر من محجوب، وأخذ يعطيه دفعة من دروس في كيفية المحافظة على المواعيد داخل الحزب واحترام زمن الرفاق، والتقليل من العناية بجهودهم فيما لا طائل منه، ومحجوب ينظر إليه مندهشاً، بينما مكي يواصل في هجومه الكاسح على محجوب، هنا لم يتوان محجوب في أن يكشر عن أنيابه هو الآخر بهجوم مضاد على مكي الذي بوغت بغضب محجوب الذي فاجأه تماماً، ولم يكن يعتقد أن هذا الشاعر الشاب الرقيق يمكنه أن يعبر عن مثل هذه الثورة المكبوته داخل صدره بمثل تلك الطريقة، فقبع في مكانه صامتاً وهو يتابع الثورة التي انفجرت أمامه دون أن يحرك يساكنً، أنهى محجوب بعد أن أفرغ ما في صدره غضبه بأن قال لمكي أنه قرر منذ اللحظة إيقاف ترشحه بالحزب وإنهاء طلب ترشيحه، لأنه لا يسمح لأي كان أن يهينه ويحط من كرامته، وأنه ليس بينه وبين الحزب منذ هذه اللحظة أي علاقة وعلى مكي أن يتركه وشأنه ثم غادر المكان لا يلوي على شئ.
بلغ الراحل مكي قيادة فرع الحزب في سجن كوبر بما حدث، فصدر توجيه فوري بعدم إثارة الموضوع مع محجوب شريف وأن مكتب الفرع سيتولى معالجة الموضوع. وهكذا تُرك محجوب لفترة من الزمن لم يقم فيها أي أحد من أصدقائه الشيوعيين بإثارة الموضوع معه.
في أحد أيام تلك الاعتقالات القبيحة بادر الأستاذ الراحل عباس علي بتقديم دعوة لمحجوب لكي يتناول معه كوباً من الشاي مع سيجارة، ووكانت السجائر داخل المعتقل ـ وما تزال ـ من أندر الموجودات، لذا فإن تقديم سيجارة واحدة لمعتقل داخل السجن إنما يعني الكثير.
لب محجوب الدعوة بفرحة، ليس من أجل السيجارة فحسب ولكن من أجل من تقدم بالدعوة، حيث عرف الأستاذ عباس في أوساط الشيوعيين بكل الصفات الحميدة، فهو إلى جانب أنه معلم لأجيال متعددة في المدارس وتلقى كثيرون العلم على أياديه، فقد عُرف بحسن المعشر والمودة في طبعه إلى جانب شجو الحديث والمؤانسات والطيبة والهدوء في مواجهة الاحن والخطوب والقدرة على معالجتها بأحسن ما تكون عليه المعالجات، كل ذلك بقدرة فائقة على حل أعقد الأمور بروية وحسن تصرف، عليه فإن الغالب الأعم أن قيادة الحزب بسجن كوبر قد أوكلت إليه معالجة الأمر مع محجوب.
وهما يدردشان مع بعضهما البعض وينتقلان من حديث آخر أثناء الشاي ودخان السجائر المتصاعد، قال محجوب، بأن عباساً فاجأه بالسؤال عن ما حدث بينه وبين مكي عبد القادر، وكانت تلك أول مرة يواجه فيها محجوب بالتساؤل حول الواقعة بعد أكثر من أسبوعين، لم يكن فيها محجوب نفسه مرتاح البال أو منصرفاً عن الموضوع بكامله.
حكي محجوب لعباس عن الواقعة وركز على جزئية أنه ووجه باستفزاز من مكي وعدم احترام وتقدير له، بحيث أنه أيضاً معلم بالمدارس الابتدائية ولا يرضى بأي ضيم أو تحقير وإهانه وحط من كرامته، لذا فقد حدث ما حدث.
كان عباس علي في هذه الأثناء يصتنت لمحجوب وهو يروي، ثم ما أن انتهى محجوب، مد أستاذ عباس يده لمحجوب بسيجارة أخرى كانت الخامسة منذ الدردشة مع عباس علي ـ يقول لي محجوب كدعابة من دعاباته وسخرياته إنها عبارة عن رشوة من الحزب لي حتى أعود للانتظام فيه ـ ثم يواصل قائلاً أن تلك الدردشة وذلك السؤال كانا الحد المفصلي الذي جعل محجوباً يقرر وللأبد الانتماء للحزب الشيوعي السوداني، وذلك بالدرس التربوي العميق والدياليكتيكي الفكري، الذي قدمه له الأستاذ الراحل عباس علي.
سأله عباس عن عمره، فأجاب محجوب، سأله ما إن كان يعتقد أنه الأكبر سناً أم هو ،، أي عباس، فأجابه محجوب، سأله ما إن كان يعتقد بأنه في هذه السن يسمح لأي كان أن يمس شعرة من كرامته ـ وكان وقتها أستاذنا عباس علي قد تجاوز السبعين من عمره عليه رحمة الله ـ فأجابه محجوب. سأله ما إن كان يعتقد بأن الحزب الشيوعي السوداني يمنح أعضائه أمولاً أو مرتباتاً أو تصاديقاً تجارية أو خلافه، فأجابه محجوب.
نهض العم عباس ليعمل كوباً آخراً من الشاي له ولمحجوب، إلا أن محجوباً أصر أن يقوم هو بصنع الشاي، ولمحجوب خاصية تجدها عند كل أخواله وأعمامه، لا يمكن أن يتركك دون أن يمن عليك بما يجود، ، كلهم، خاصة بالنسبة لخاله الراحل مبارك نوح.
ذهبت لزيارته في أمسية لطيفة ـ لمبارك خال محجوب ـ قدم لي من علبة البرنجي سيجارة، وبعد أن قذفتها بعيداً وقد تحولت لعقب وسبارس، هرع إليها وأعادها لي لكي أكمل ما تبقى فيها وهو يحلف بالطلاق أن أكمل ما بها!.
وفي مرة دعى خاله هذا صديقاً له لتناول إفطار رمضان معه، فأوضح له صديقه بألا مجال لذلك حيث أنه معزوم مع أصدقاء له، وبعدها سيغادر في صبيحة اليوم التالي خارج البلاد، هنا حلف عليه عمنا مبارك نوح خال محجوب بأن يأتي لتناول السحور معه، ولما لم يجد صديقه طريقة لإثناءه عن الدعوى ،، حضر الساعة الثانية صباحاً بعربة تاكسي للسحور مرغماً، والتاكسي في انتظاره ،، تناول الرجل ملعقة من إدام بالصينية ثم وضعها قائلاً لخال محجوب:ـ
:ـ حلفت علي بالطلاق عشان أجي أتسحر معاك وجيت ،، وعلي الطلاق تاني ما أدخل بيتك با مبارك!.. وقد كان. حيث استقل عربة التاكسي الأجرة وكر عائداً لمنزله لكي يلحق بطائرة سفره!.
نعود لأمر محجوب وعباس علي ،،
هكذا تدرج الأستاذ الراحل عباس علي بمحجوب في وجهة إقناعه بأن ما جرى بينه وبين مكي عبد القادر أمر طبيعي وأن مكي لم يقصد مطلقاً إهانة محجوب، ولكنه طبع لازم مكي لأسباب كثيرة، أهمها أن سنوات الاختفاء طويلة الأمد إضافة للاعتقالات المتكررة والتفرغ التام لمهام الحزب، قد تحول عضو الحزب في أحايين إلى شخص جاف في طبائعه دون أن يرغب في ذلك، ومثل هؤلاء سيلتقي بهم محجوب أحياناً في دروب العمل الحزبي وعليه أن يتحمل قسوتهم غير المقصودة.
هكذا عاد محجوب منتظماً في كورس المرشحين، حتى تأهل عضواً كامل العضوية بالحزب الشيوعي السوداني، وأضحت تلك الواقعة مثار تندر من محجوب من الحزب كلما التقى صديقه مكي عبد القادر فيأخذان بأحضان بعضهما البعض وهما يستعيدان ذلك الموقف، فيقول محجوب لمكي:ـ لا أيدي لا كراعي يا مكي يا خوي ،، كنت عاوز تطفشني من الحزب؟!. لهما معاً الرحمة والمغفرة، محجوب ومكي وعباس.


helgizuli@gmail.com
//////////

 

آراء