محجوب شريف.. الخير والجمال
عمر العمر
8 April, 2014
8 April, 2014
بين ديباجة محجوب شريف الشعرية وقماشة سيرته الذاتية تماه مثير فريد على قدر ما فيهما من بهاء بديع. من الصعب الفرز بين الديباجة والقماشة إذ هما يتداخلان على نحو تكمل احداهما الأخرى. من الصعب تحديد ما اذا كانت السيرة تلهم التجربة الشعرية أم ان القماشة ليست أكثر من واجهة ثانية للديباجة. كلما طال الاستقراء ترتبك الخلاصات إزاء تحديد الأولوية بين نصاعة الديباجة وثراء القماشة كأنما كل ينهل من الآخر.
هذه إحدى مياسم تجربة محجوب شريف الحياتية للإنسان الشاعر. أبرز فراداته تتجسد في ديوان شعري وسيرة ذاتية خاطفتين للبصر والبصيرة. أكثر ما يمنح الديباحة والقماشة فرادة وجاذبية استثنائية بناؤهما معاً على الخير والجمال.
بما أن الشعر موهبة لا تكتسب فإن في سيرة محجوب شريف أنموذجاً يحرِّض على الاقتداء. لو أن بعضاً من النخب تمثلت بعضاً من سيرة محجوب شريف لاتسعت دائرة الخير والجمال على رقعة الوطن. الغالبية العظمى من المثقفين المنشغلين بالهم العام يكتفون بالهجاء. قليل من هؤلاء يجنحون إلى الحداء. نادر عدد الذين يطابقون بين القناعات والممارسات كما فعل محجوب شريف.
قماشة محجوب شريف تطرح عند منعطف طويل الانحناءة من تاريخنا السياسي المعاصر لا تكتفي بطرح أسئلة ملحة عن علاقة السلطة بالديمقراطية والهوية مع العقائدية الفكرية وحول الدين والوطن كما علاقة المثقف بالمجتمع بل تنطوي على إجابات حاسمة.
ديباجة محجوب شريف الشعرية لا تقف عند تخوم التوصيف المتعالي الموسوم بالبرجعاجية. الشاعر هنا يملك الوعي والالتزام والقدرة على الحركة والمساهمة في النضال اليومي ضد الظلم والاستبداد وكل أشكال التخلف. في سيرة الشاعر الإنسان قناعة راسخة بأن المثقف يستمد قوته من الشعب وكذلك الشاعر إلهامه. هكذا يستعير محجوب شريف صوت الشعب في قصائده في غنائية أقرب إلى الشعارات وهتافات مموسقة على إيقاع شعبي زمن النفير والحصاد يسهل تداولها وترديدها بأفواه الجماعة. كلمفردات محجوب شريف من القاموس الشعبي تعبر عن مواقف من متن الحراك الاجتماعي العام. ديوان شريف يمثل منفستو سياسياً ضد الديكتاتورية والعنف والظلم والتنكيل والتعذيب والخرافة كما التحريض من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. ديباجة محجوب شريف حداء على درب النضال والفن، العقل والمستقبل، الفكر والتعبير، المواطنة وحقوق الإنسان.
بهذه الرؤى النافذة يواجه محجوب شريف كل قلاع ومخابئ الإذلال والمهانة والهيمنة والغطرسة. هكذا هي مقاربته للبيت حين يكرس سلطة الأب الذكورية. كما هي مقاربته للمدرسة إذ تلقن الخنوع والتلفاز إذ يركز فقط على بث طاعة الحاكم باعتبارها عبادة في سياق طاعة الخالق.
ديباجة محجوب شريف وقماشته وثيقة شعبية مناهضة للاستكانة والاستسلام في ظل القهر والفساد والمعاناة. هما وثيقة للتعبئة الجماهيرية بالحب والاستبسال والصمود والفداء.
بهذه القناعات رفض محجوب شريف مهادنة الظلم وكافة أشكال اغراءات الأنظمة. رغم كل الضغوط القمعية قدم محجوب شريف أنموذجاً فريداً ضد التنازلات والانكسار. الشاعر المرهف ظل متسلحاً بالصمود أمام المحقق والسجان والجلاد محصناً جسده بالطاقة ونفسه بالوعي وذاكرته بالمبادئ والقيم. المناضل الجسور لم يمنح الزبانية فرص هدر كرامته أو الطعن في فحولته. كل أدوات الإذلال الجسديوجدت في قامة محجوب شريف معدناً صلباً فأخفقت في انتهاك الجسد إلى الروح أو الذاكرة.
بهذا الثبات عايش محجوب شريف تجارب الحبس الجماعي والانفرادي داخل السجن. هو أحد ثلة من المناضلين أحالوا بالوعي الفكري السجن من مؤسسة عقابية إلى مؤسسة تنويرية. اقرؤوا صدقي كيلو. السجن السياسي صناعة النظام الأحادي. حين تضيق صدر الدكتاتور بالناشط يرسله إلى عتمة الحبس الضيق. محجوب شريف مثال لمثقفين ملتزمين يدركون الحبل السري بين ضيق المدينة الواسعة وضيق السجن المكبوت. الجدار حاجز وهمي بين المدينة المشبعة بأجواء القهر والسجن المكتنز بممارساته.
داخل الحبس ظل محجوب شريف مشحوناً بطاقة الحب الخلاقة للمرأة المتماهية في الوطن ووهج الحلم والأمل. بشفافية الشاعر يرفض محجوب شريف منح أي قسط من مشاعره وقلبه للحارس السجان والجلاد. بهذه الصلابة يغالب محجوب شريف سجانيه حد الإدهاش. ربما نالت رطوبة الزنازين من قفصه الصدري لكن معدنه الإنسان ظل صلباً مصادماً مقاوماً شرساً مبتسماً متفائلاً.
محجوب شريف تجربة معرفية تراكمية ذاتياً اكتسبت كل مقومات النجاح والخلود لأنها بمثابة مشروع حياتي ينبع من وعي حقيقي بشروط اللحظة التاريخية وخصائصها.
ديباجة محجوب شريف وقماشته الذاتية سيناريو لمشاهد متداخلة تمزج الحلم بالواقع والغياب بالحضور ينهل كلاهما من فيض الشارع حتى عندما تكتسي قصائده ونوافذه ملمحاً صوفياً غنائياً رمزياً.
محجوب شريف ظل منسجماً في ديباجيته الشعرية مع هويته الشعبية عاجزاً في الوقت نفسه عن التصالح مع حاضره المترهل بالأزمات. في سبيل التصالح مع ذاته هرب محجوب شريف من برجعاجيه وأبراج المدينة إلى قاعها وأطرافها ليتصالح مع أجيال جديدة يقدم إليهم طوعاً واختياراً رحيق تجربته الحياتية من أجل صناعة غد أفضل.