محكمة الرأي العام

 


 

 



boulkea@yahoo.com


في خطابه أمام المجلس الوطني الإسبوع الماضي بخصوص الإجراءات التقشفية قال نائب الرئيس الأستاذ على عثمان : ( اذا نحن كنا بنصرف ولا نحسن ترتيب الأولويات قدمونا الى محاكمة نحن بنقبل بمحاكمة الرأي العام في أن يرى كم كنا بنخصص من موارده ). إنتهى

الوسيلة الأكثر شيوعاً التي يلجأ إليها الشعب في محكمة الرأي العام هى إبداء  وجهات النظر المُختلفة حول الموضوع المُعيَّن من خلال أجهزة الإعلام ممثلة في الصحف والإذاعة والتلفاز. وبالتالي فإنَّ الحُرَّية والشفافيَّة التي تتمتع بها هذه الوسائط تمثل المحك الرئيسي الذي يُمكن من خلاله إمتحان جدوى  اللجوء لمحكمة الرأي العام وكذلك إختبار مصدَّاقية الحكومة في القبول بهذه المحكمة.

من المعلوم أنَّ الصحافة في السودان تواجه هذه الأيام هجمة شرسة من قبل الأجهزة الأمنيَّة الحكوميَّة تتمثل في الإيقاف و المصادرة المتكررة للصحف, ومنع الصحفيين من الكتابة, بل والتهديد  "بقطم رقبة" الصحف بحسب تعبير الدكتور نافع الذي قال : ( أي صحيفة تسعى لضرب المشروع في عظمه يجب أن تقطم رقبتها وليس مصادرتها ). إنتهى

إنَّ محاولة النظر إلى كلمات فضفاضة ليس لها تعريفاً موضوعياً أو معنىً مُحدَّداً  مثل "المشروع" و"عظمه" ستجعلنا نقف إزاء خطاب حكومي يدعو للأمر ونقيضهُ. فإذا تحدَّثت الصحف – على سبيل المثال - عن الفساد والتجاوزات, أو عن الإخفاق السياسي, أو عن ضرورة التغيير كما دعاها الأستاذ على عثمان فإنَّ جهات حكومية اخرى ستعتبر ذلك ضرباً للمشروع في عظمه, وبالتالي فإنَّ محكمة الرأي العام التي تعهدت الحكومة على لسان نائب الرئيس بالخضوع لها تفقد جدواها.

ومع ذلك فإننا سنستجيبُ لنداء نائب الرئيس في مناقشة قيادات الحكومة عبر محكمة الرأي العام بادئين النقاش بإعتراف الأستاذ على عثمان بتبديد أموال البترول من قبل الحكومة حين أكد على ضرورة الإعتراف بهذا الأمر قائلاً إنَّ : (  جزءً من عائدات الدولة ذهبت في البذخ السياسي ).

إنَّ تقارير المؤسسات المالية الدوليَّة, والمؤسسات الإقليمية تؤكد أنَّ عائدات البترول التي دخلت الخزينة السودانيَّة فاقت الخمسين ( 50 ) مليار دولار, فأين ذهبت هذه الأموال ؟ وعندما يقول نائب الرئيس : ( إنَّ كثيراً من هذه الأموال تم توظيفها في مشروعات التنمية مثل مشروع  تعلية خزان الروصيرص ), فإننا نقول لهُ إنَّ مشروع تعلية خزان الروصيرص, ومشروع سد مروي, و جُل إنْ لم يكن كل الطرق والكباري تمَّ تمويلها  بواسطة قروض مُستحقة الدفع بفوائدها, وبالتالي فإنَّ محكمة الرأي العام لن يُجدي معها سوى لغة الأرقام التي توَّضح المصارف التي ذهبت فيها أموال البترول.

محكمة الرأي العام تسأل نائب الرئيس عن الأولويات التي تحدَّث عنها في خطابه وتقول له : إذا كانت الإنقاذ بعد ثلاث وعشرين سنة من الحُكم تعطي الأولوية في الصرف للأمن والجيش والقوات النظامية (70 %  من الموازنة ) بينما لا يتعدى الصرف على الصحة والتعليم مُجتمعين ال (6 %) ألا يعني ذلك أنَّ هناك خللاً واضحاً في طبيعة الحكم  وأنَّ مُطالبة الشعب بالتغيير أمرٌ طبيعي لا يجب أن يجد إستنكاراً من قبل الحكومة ؟

إنَّ الحكومة التي تطالب المواطنين بتقبَّل قراراتها التقشفيِّة الصعبة تعجز عن إيجاد الحلول السياسية للمشاكل التي تواجهها, و تصر على أولوياتٍ لا تتماشى مع مصالح الشعب الذي تحكمه, فها هو الدكتور نافع يؤكد إستمرار الإنفاق على القوَّات النظامية, حيث كشف في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف عن نيَّة الحكومة ( تجهيز قوة عسكرية ضاربة للدفاع عن مكتسبات الوطن والمواطنين وأعلن عن خطوات جدية اتخذتها الحكومة لرفع درجة التسليح والقوات العسكرية). إنتهي

تقول محكمة الرأي العام : إنَّ رفع درجة التسليح لن يوقف الحروب ذات الطبيعة السياسية ( دارفور – جنوب كردفان – النيل الأزرق ), وهو الدرس الوحيد المُفيد من إتفاق نيفاشا الذي أنهى حرباً إستمرَّت لأكثر من نصف قرن واستنزفت الموارد المالية والبشرية, و لم يستطع الجيش حسمها عسكرياً رغم تفوقه في التسليح على حركات التمرُّد الجنوبيَّة ( الحركة الشعبية – الأنانيا ).

وانتقد نائب الرئيس في خطابه السلوك الإجتماعي للمواطن السوداني ( الذي ينتج عنه الاستهلاك اكثر من الانتاج وعدم الانتباه للفرق بين الدخل والاستهلاك) , وعزا ضعف الإنتاج ( لعدم إتباع أدب الإدخار وسياسة الأسرة الممتدة ) وقال لابد من وقفة ومراجعة أخطاء السلوك الإجتماعي وأن ما اتخذناه من سياسات سيكون دعماً للتخلص من هذا السلوك.

تقول محكمة الرأي العام : إنَّ السلوك الإستهلاكي الذي يتحدَّث عنه نائب الرئيس تسبَّب فيه بؤس توظيف الحكومة لموارد الدولة, والبرامج الإقتصاديَّة الخاطئة, والإستسلام (للمرض الهولندي) ,و سوء إدارة المال العام والفساد.

لقد  أدارت الحكومة ظهرها بالكامل للقطاعات الإنتاجية الحقيقية, وعلى رأسها الزراعة والرعي والصناعة, ممَّا أدى لتحطيم أكبر مشروع زراعي مروي (الجزيرة), ولإهمال الزراعة المطريَّة, وتراجع الثروة الحيوانيَّة و إنهيار الصناعة التحويلية ( أكثر من 90 % من مصانع النسيج متوقفة).

و كذلك كان من أثر تبني الحكومة سياسة التكيف الهيكلي وما تضمَّنته من خصخصة وبيع لمؤسسات القطاع العام , والغاء الدعم علي السلع, والغاء مجانية التعليم والعلاج , وتخفيض قيمة العملة, أن تشكلت في المُجتمع فئات جديدة قامت على النشاط الإستهلاكي الطفيلى مثل المُضاربة على أسعار الأراضي والتجارة فى العملة الأجنبية والتهريب وأعمال الوساطة والسمسرة و الإرتباط الفاسد بجهاز الدولة و أستطاعت هذه الفئات تكوين ثروات كبيرة فى وقت قصير للغاية.

إنَّ سلوك المواطن السوداني المُنتج في القرى والأرياف والبوداي ليس سلوكاً إستهلاكياً على الإطلاق, فهو يعيشُ قانعاً على الكفاف محروماً من أبسط مقوِّمات الحياة, دعك من الرفاهية التي يتحدث عنها نائب الرئيس ( العربة, والبنزين إلخ ). وهذا المواطن البسيط يدرك معنى الإدخار وأهميتهُ بالفطرة وعبر تراكم الخبرات الطويلة في تبَّدل المواسم الزراعية والرعوية, وندرة المياه وكثرتها, ونجاح المحصول وفشله, وكيفية التعامل مع كل هذا لما لهُ من أثر مباشر على حياته وعلى أسرته.

وإذا إفترضنا جدلاً أنَّ سلوك المواطن أضحى إستهلاكياً فإنَّ مُهمِّة الحكومة هي تغيير هذا السلوك عبر البرامج والخطط و السياسات, وليس إلقاء اللوم عليه, فماذا فعلت الحكومة في هذا الإطار ؟

إنَّ حديث نائب الرئيس عن (الأسرة الممتدة) وأثرها في ضعف الإنتاج حديث لا يؤيدهُ الواقع ولا تسندهُ الوقائع. وهو عندما يُشير إلى الأسرة المكوَّنة من عشرة (10) أفراد ويعمل بها فرداً واحداً بينما البقية عاطلون عن العمل إنما يتحدَّث عن واقع آخر مغاير للذي يعيشهُ شعب السودان اليوم .

لقد أدَّت التحولات الإقتصادية والإجتماعية الكبيرة التي شهدها السودان, وتبني السياسات الرأسمالية الفجَّة إلى إنحسار دور الأسرة الممتدة بصورة كبيرة للغاية حتى كادت أن تتلاشى. واختفى (الحوش) الكبير, و (الديوان) الذي لا تنقطع عنهُ (صينية) الطعام طوال ساعات اليوم. وصار جميع أفراد الأسرة يعملون – رجالاً ونساءً, شيوخاً وشباباً ( حتى الأطفال القاصرين ) دون جدوى لتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم – الطعام والسكن - بعد أن أصبح التعليمُ والعلاج من النوافل.

وتقول محكمة الرأي العام : إنَّ نسب البطالة العالية في السودان لا تعزى للأسرة المُمتدَّة أو السلوك الإجتماعي (الكسل) كما يقول نائب الرئيس, بل هى نتيجة مُباشرة للسياسات الإقتصادية الفاشلة, وأنَّ القرارات التقشفيَّة لن تحل هذه المُشكلة, فهى ليست (سياسات) وإنما (إجراءات) علاجيَّة طارئة.

إنَّ حزمة القرارات التقشفيَّة التي طبقتها الحكومة بما شملته من فرض لضرائب وجمارك إضافية, ورفع الدعم عن المحروقات, وتقليص عدد شاغلي المناصب الدستورية لن تصلح حال الإقتصاد,  فإعادة هيكلة الحكومة - على سبيل المثال - لن تؤثر على الميزانيَّة بأكثر من 1- 1.5 %.

إنَّ كل المعالجات الأخرى لن تجلب نقداً أجنبياً للخزينة العامَّة لعدم وجود إنتاج يتمَّ تصديرهُ للخارج, و لم تعد القروض التي كانت تمنح من قبل الدول والمؤسسات المالية بضمان البترول مُتاحة, وتوقفت منح ومكرمات الدول الصديقة , وبالتالي ستستمر قيمة الجنيه في التدهور حتى تتلاشى.

قرار محكمة الرأي العام : الإصلاح الإقتصادي في السودان أضحى مستحيلاً دون إصلاح سياسي جذري يجتث الفساد, و يوقف الحروب المُستعرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ويتوصل لإتفاق سلام يمنع الحرب الشاملة مع جنوب السودان, ويتصالح مع العالم, ويؤسس لدولة ديموقراطيِّة حقيقية عبر مؤتمر جامع تشارك فيه كل الأحزاب و القوى والحركات السياسية .

ختاماً :  قال نائب الرئيس في خطابه أمام المجلس الوطني إنَّهم سيعرضون كتابهم على الشعب في محكمة الرأي العام حتى يلجمون خصومهم الذين يبالغون في توصيف الأوضاع ويؤلفون ( مسائل يقطعونها من خيالهم ويضيفون اليها ليؤججوا المشاعر الوطنية ومشاعر الشارع السياسي ضد الدولة لأجندة يريدونها هم لا يريدون بها وجه الله ووجه الاصلاح ولا وجه مصلحة الوطن ). إنتهى

نحن نقول لنائب الرئيس إنَّ الحيثيات التي وردت في هذا المقال على لسان محكمة الرأي العام ليست من تأليف الخيال, ولا  تهدف لخدمة أجندة خاصة, و لم يقصد بها إلا وجه الله والإصلاح والوطن.


ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

آراء