مخاطر قمع التظاهرات السلمية.. وانتهاك حصانة الصحافيين

 


 

 

 

محمد المكي أحمد

modalmakki@hotmail.com

 

شكل يوم الاثنين السابع من كانون الأول( ديسمبر)  2009 بداية مرحلة جديدة  في الصراع السياسي بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم - وهو وليد طبيعي لانقلاب الثلاثين من يونيو 1989- والقوى السياسية السودانية، وخاصة ذات البعد  التاريخي والثقل الشعبي، والمعروفة بتضحياتها في سبيل الديمقراطية والحرية، وأيضا تلك التي  تنادي "بالسودان الجديد"، ولا ننسى هنا انعكاسات ذلك على"أهل الوجعة" في دارفور .

 قمع التظاهرة السلمية في أم درمان، والتي سعى  منظموها  لتسليم مذكرة مطالب مشروعة ، سدد ضربة موجعة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم وما يرفعه من شعارات تتحدث عن سعيه لانتخابات حرة ونزيهة وتحول ديمقراطي.

وبدا  واضحا أن حرية التعبير في الشارع ممنوعة بالقانون وبالقوة التي يتحمل أولا سؤولو حزب المؤتمر الوطني لا الشرطة تبعات ممارستها ضد أبناء وبنات الشعب السوداني وقادة سياسيين .

في مقال تحت عنوان "بنطلون لبني وقضية افتعال الأزمات" منعت الرقابة الأمنية نشره في موعده الأسبوعي في صحيفة الأحداث في السابع من أغسطس 2009  ونشره  موقع سودانايل ويوجد حاليا ضمن مقالاتي في الموقع نفسه (الأعمدة)  كتبت " أن لا أحد يسيء الى "نظام الحكم" في السودان كما يسيء النظام الى نفسه من خلال افتعال قضايا في الوقت الخطأ والمكان الخطأ".

 كتبت في هذا السياق "تبدو أهمية  النظر الى  قضية الزميلة لبنى في اطار  ينبغي ان لا توجه فيه الانتقادات للشرطة،  بل لمن يتمسك  بمادة "فضفاضة" في قانون سوداني،  ويمكن استخدام ذلك النص القانوني  وفقا لهوى التقديرات والتفسيرات".

أجدد كلامي اليوم وأقول أن الصراع ليس مع الشرطة  ورجال الأمن الذين يتلقون التوجيهات ويحتكمون أيضا الى القانون الجنائي ، وهذا أيضا يؤكد عدالة  القضية التي حركت التظاهرات وهي قضية القوانين المقيدة للحريات، والتي تسلب الناس حتى حقوقهم في  التعبير السلمي.

طبعا القوانين بدت كشماعة  برر من  خلالها   مسؤولون حكوميون قمع التظاهرة وانتهاك حقوق الناس في التعبير السلمي، وهذا التبرير  يؤكد أيضا وجود قوانين قمعية لا تتناسب مع متطلبات التحول الديمقراطي، ولا تواكب المرحلة، ولا تساعد حزب المؤتمر الوطني نفسه على  تأكيد  صدقية سعيه  لاشاعة  مناخ التحول الديمقراطي والانتخابات النزيهة.

مصلحة السودانين وبينهم مسؤولو حزب المؤتمر الوطني ألا يتم اللجوء الى أساليب العنف والقمع في منع التظاهرات السلمية، لأن  الاحتماء خلف مواد معينة في قوانين هي محل خلاف سيزيد من حال الاحتقان، ويمكن أن يدفع بعض الناس الى اللجوء الى أساليب أخرى لاسماع صوتهم، ولانتزاع حقوقهم المغتصبة، كما حدث في دارفور.

في مناخ الاحتقان والبطش فان  كل السودانيين خاسرون، وسيدفع القابضون على أنفاس الناس خسائر أكبر في ظل عزلة واضحة يعيشها حزب المؤتمر الوطني الذي ظهر  مسؤولوه  هذه الأيام في حال قلق شديد وهم لا يريدون  مشاهدة  متظاهرين يرفعون شعارات تطالبهم باجازة قوانين التحول الديمقراطي.

قمع التظاهرات لا يحل مشاكل السودان  بل  يزيدها تعقيدا، وهاهي "قوى الاجماع الوطني" التي تتكون من معظم  قوى الشارع السوداني  نجحت  هذه الأيام في التعبير الجماعي عن هموم الشعب السوداني وضرورات واستحقاقات التحول الديمقراطي.

أهم انجاز حققته القوى السودانية التي اصطفت في تظاهرات جرى قمعها ومنعها  يكمن في التظاهر السلمي، وأتفق مع  أشادة الأمين  العام للحركة الشعبية السيد باقان أموم بالروح الحضارية التي تجلت  في نهج المتظاهرين وفي كيفية تعامل بعض  قادة العمل السياسي الذين  تعرضوا للاعتقال والرمي في السجن كباقان أموم ونائبه السيد ياسر عرمان مع معتقليهم .

قائمة العزة والكرامة والاباء والشموخ السوداني  التي انطلقت في تظاهرة سلمية مقموعة ضمت  وجوها وطنية من الرجال والنساء و من كل ألوان الطيف السياسي السوداني،  وسيكتب التاريخ أن الذين منعوا من التظاهر بالقوة والعنف وتم زج عدد منهم في السجن وجرى ضرب بعضهم قد أكدوا أن شعب السودان لا يقبل الضيم مهما اشتد البطش ، وهو قادر على ان يقول لا للظالمين أيا كانت طبيعة التحديات.

مسؤولو حزب المؤتمر الوطني ، أي قادة انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 مطالبون باعادة قراءة وتأمل" طبيعة"  الشعب الذي يحكمونه بالقبضة الحديدية وبعض القوانين التي لا تواكب روح العصر.

على حكامنا   أن يتاملوا أيضا كيف نجح الشعب السوداني من خلال  تضحياته في عهود   القهر والتسلط  في انتزاع حريته وكرامته ، حيث بقي الشعب وغادر الساحة  ظالمون كثيرون .

في هذا السياق أعجبتني أيضا تصريحات صدرت عن  بعض قادة "تحالف الاجماع الوطني " الذين شددوا على  الاحتكام للأسلوب السلمي في التظاهرات، فهذه التأكيدات تستحق الاحترام والتقدير، لأن المطلوب هو التعبير الحضاري عن المواجع والتطلعات من دون  عنف أو حرق أو مواجهة مع رجال الشرطة والأمن، فرجال الشرطة والأمن  من الشعب واليه، وهم أيضا مظلومون لأنهم يحتكمون الى قوانين ظالمة وينفذون توجيهات  السلطة السياسية ضد أهلهم .

واذا كان برلمانيون وقادة سياسيون كبار قد تم اعتقالهم او "توقيفهم" لا فرق في الممارسة ، فقد قرأت وسمعت أن صحافيين وصحافيات كان نصيبهم الاعتقال والزج بهم في السجن قبل أن يطلق سراحهم مع آخرين، وعلمت أن صحافية  تعرضت للضرب.

هذا انتهاك صارخ لحقوق الصحافيين وتعطيل لدورهم في تغطية الأحداث، وأول ضربة في العظم لقانون الصحافة الذي أشدت به في مقال سابق تحت عنوان "قانون الصحافة السوداني على مائدة مستديرة قطرية"(يوجد ضمن مقالاتي في سودانايل).

قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009 نص تحت عنوان "حقوق الصحافي وحصاناته"، على أن "يتمتع الصحافي بحقوق وحصانات" وفي صدارتها "عدم تعريضه لأي فعل بغرض التأثير على أدائة أو نزاهته أو التزامه بواجباته المهنية".

هذا النص تم انتهاكه باعتقال من يعمل في مهنة القبض على الجمر أثناء  قمع التظاهرة السلمية ، لكن رغم هذا الانتهاك الصارخ فان  رفع الرقابة عن الصحافة السودانية – وهذه خطوة ايجابية-   قد ساهم في أن تلعب الصحافة السودانية المكتوبة دورها الوطني الريادي -رغم اختلاف مستويات الانحياز لحقوق الشعب –  من صحيفة لأخرى.

التحية لكل قلم حر  نقل للناس ولقادة الحكم  الكبار حقائق ما جرى في الشارع ، واعتقد أن الصحافة الحرة هي مرآة تعكس للحكام أيضا  أبعاد ما تعرض له مشاركو ن مسالمون في التظاهرة المقموعة من  انتهاك لحقوقهم في التعبير السلمي الحضاري .

في هذا الاطار بدت الانعكاسات السلبية لسيطرة حزب المؤتمر الوطني الحاكم على أجهزة الاعلام الرسمية (الإذاعة والتلفزيون) في تغطيتها للتظاهرات السلمية ، أسلوب هذين الجهازين  في التغطية عكس نظرة أحادية للأحداث، واذا استمر ذلك فان الحديث عن انتخابات نزيهة وحرة  سيكون مجرد أمنيات.

لا خيار أمام قادة الحكم في حزب المؤتمر الوطني الا خيار احترام استحقاقات التحول الديمقراطي والانتقال سلميا  الى مرحلة التداول السلمي للسلطة من خلال اجازة قوانين متوافق عليه سودانيا،وانهاء السيطرة على الاعلام السوداني إذا كان قادة الحكم يريدون وطنا مستقرا  ينعم  أهله بالحرية والعدالة والمساواة.

برقية: لا تحول ديمقراطيا اذا كان التظاهر ممنوعا ، واذا كان حق الناس في التعبير السلمي يقابل بالضرب والاعتقال.

 عن صحيفة (الأحداث) 11-12- 2009

 

آراء