مذكرات معلم مخضرم تنشر والحكم فيها للجمهور (٣) !!

 


 

 

وصل القطار الرئاسي في المواعيد المحددة وليست هذه عادته ولكن اليوم في جوفه جنرال صار الرجل الأول في البلاد بعد أن انتزع الصولجان من فك النظام الليبرالي وصار يمرح في أرضنا الطيبة بقوة الكلاشنكوف والزي الكاكي والفرامانات التي ترد تباعا تصادر وتؤمم وتعطل الدستور وتجعل الأحزاب في مهب الريح وتقريبا تغير وجه البلاد ١٨٠ درجة والكل يتفرج علي مسرح الهواء هذا الخالي من الستار الذي لايستطيع احد أن يتكهن متي يسدل ومن الذي يؤدي هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر !!..
كالعادة في مثل هذه الأحوال وجد الزائر الكبير التحية والعناق من أناس يشبهونه في المشية والاعتدال والزهو المفرط بالنفس والاعجاب الي حد التشبه بالطاؤوس في الخيلاء الجامحة بلا حدود !!..
الجماهير اصطفت علي الرصيف بعضهم جاء به الفضول وغالبيتهم تم حشدهم بالاساليب إياها المحفوظة عن ظهر قلب في مثل هذه المواقف !!..
نزلت من القطار بهدوء ولم تشغلني البالونات الملونة ولا اقواس النصر وأخذت عربة أجرة من ماركة الفولجا التي تسير في الرمال مثل سفينة الصحراء وتوجهت لمنزل عمنا القرشي الكبير الذي نعمت فيه بالسكن المريح وسعدت ايما سعادة طيلة إقامتي في هذا الصرح الشامخ الذي مثل بيت الأمة وقلعة من قلاع الكرم وكان يستقبل كبار الشخصيات القادمة من العاصمة وكذلك الاهل من كافة مناحي البلاد والضيوف علي اختلاف أشكالهم والوانهم لا فرق بين غني وفقير أو صاحب منصب خطير وآخر من البسطاء المستورين !!..
في الصباح كان لا بد من الذهاب لمكتب التعليم الذي اضطلع بالمسؤولية الجسيمة في إدارة مهامه الموكولة إليه من رئاسة الوزارة وكان علي رأسه الاستاذ عبد العزيز حسن علي الملقب بال ( Tiger ) وذلك لقوة شكيمته وأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم وكان مفتش الإدارة الاستاذ حامد محمود الذي كان نجما في نادي المعلمين يرتجل الشعر الرصين ويتبادل القفشات مع رواد النادي الذي كان متعدد الأنشطة ولكن جمال هذا النادي تمثل في الحميمية التي تجمع بين المعلمين الذين تزول بينهم الفوارق الوظيفية بمجرد وضع أقدامهم علي عتبة الدار وكان عميد كلية المعلمات الأستاذ التيجاني يبهر الحاضرين بصوته الجهور الذي لو استغله تماما لاوصله الي مفخرة الإذاعات العالمية ال ( BBC ) ولوجد مكانا قرب الطيب صالح وعبد الرحمن احمد محمد صالح!!..
مكاتب التعليم بالمديريات كان علي رأسها باشمفتشون علي درجة عالية من الكفاءة أدوا مهامهم بجدارة وكان التعليم في زمنهم بخير الي أن جاء الحكم اللامركزي وهو بدعة من بدع الإنقاذ وقسمت البلاد الي ولايات يرأسها ولاة جهلة وحكومات ومجالس تشريعية عبارة عن عبث وتضييع وقت ومال أما الوزراء الولابين وخاصة وزراء التربية فقد كانوا دائما دون المستوى مما جعل التعليم يتراجع رجوعا مخيفا ومازال في انحدار بوتيرة متسارعة ويخشى أن يعم الظلام مدارسنا ونصبح أمة تقتات الجهل وتلعق الفراغ وتهيم في وادي الضياع !!..
أرسلني مكتب التعليم لمدرسة الابيض الأهلية التي شيدت علي سواعد أبناء الوطن الأوفياء لتتحدي مدرسة المبشر كما صدح بذلك شعرا الاديب التني !!..
كنت متوجسا أن أرسل لاي مدينة غير الابيض وكلها بها مدارس وسطي شيدت علي احدث طراز ملحقة بها الداخليات والميادين لشتي ضروب الرياضة ووسائل الترفيه !!..
التحاقي بالابيض الأهلية وسكني مع العم القرشي الكبير أقام بيني وبين عاصمة كردفان أواصر محبة وتقدير لم تنفصم عراها حتي اليوم !!..
قابلت مدير المدرسة العم يوسف مجذوب من أبناء كوستي وهو بدرجة مدير وموجه ونائبه حسن محمد الطيب القادم للتو من بريطانيا حيث كان في بعثة بجامعة ليدز وكوكبة من المعلمين ذوي الخبرة والتجارب الثرة ولم يمهلني العم يوسف المدير لالتقط انفاسي وارسلني للصف الثاني لادرسهم شيئا من التاريخ وكانت هذه أول مرة في حياتي أواجه طلابا وامتشق الطباشير واكتب علي السبورة وكانت حالتي يرثي لها والعرق يتصبب من جسدي كالنوافير ولم ادري ماذا قلت وبم نطقت وعندما رن الجرس خلته السمفونية التاسعة لبتهوفن وتنفست الصعداء وهرولت للزير وتجرعت كوبين من الحجم الكبير وكاني اطفيء عطش السنين !!..
نواصل ...

حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .

ghamedalneil@gmail.com
//////////////////

 

آراء