مراجعة ذاتية من أجل تطوير الدور المصري في السودان
رئيس التحرير: طارق الجزولي
8 May, 2023
8 May, 2023
في مصر، تبدو الحاجة إلى مراجعة ذاتية للاستراتيجية السياسية الرسمية في التعامل مع الوضع السوداني؛ نظرًا لما تبدا من “قصور”، و”تقييد”، للأدوات المصرية المستجيبة للصراع العسكري الحالي، إما بفعل حصر الأوراق في مؤسسة واحدة، والانحياز لأحد طرفي المكوّن العسكري، وإما بفعل الأدوار الإقليمية الساعية لتقويض المصالح المصرية. وبناءً على ذلك، باتت خيارات التحرك المصرية محدودة.
منذ اندلاع الأزمة، سعى الموقف الرسمي المصري لاحتواء الصراع عبر القنوات الدبلوماسية، وهو ما تجلى بعدة مبادرات -وإن لم تكن مهيأة لتلقي استجابة دولية- والتواصل مع طرفي الصراع، عبر استقبال وزير الخارجية سامح شكري، مبعوث قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان، والمكالمة الهاتفية مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
لكن جذور أزمة الاستجابة المصرية، تكمن في التصورات -القديمة والمترسخة- عن الوضع السوداني. أو “رؤية الواقع السوداني من منظور الواقع المصري، مع إغفال تنوع وتعدد المجتمع السوداني”، بحسب ما قاله قيادي في قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، لـ”مصر 360” قبل اندلاع الحرب الحالية.
مراكمات التصورات السلبية
هذه التصورات تجلت الحاجة إلى مراجعتها مع دعم القاهرة للبرهان في انقلابه على القوى المدنية -أكتوبر/تشرين الأول 2021- والذي سرعان ما اتضح أنه أضعف من القضاء على التحول المدني الديمقراطي حينها، بل وفاقم الأزمة بقطع المعونات الاقتصادية الدولية عن الخرطوم.
كاميرون هدسون
يقول كاميرون هادسون: زميل أول في برنامج إفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية، والدولية والمدير السابق للشؤون الإفريقية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إن مصر ربما أدركت أن دعمها للانقلاب كان خطأ لكنها “لم تتعلم من هذا الخطأ، ولم تكن مستعدة لدعم تحول ديمقراطي في السودان”.
“من المحتمل أن القاهرة تعتقد أنها تعرف أفضل نوع لهيكل الحكم الذي سيعمل بشكل أفضل في السودان. ولكن في الحقيقة، كانت هذه مجرد رغبة في رؤية هيكل حكم يناسب مصالحها، وليس مصالح السودانيين”، يضيف هادسون لـ”مصر 360”.
أفقدت تلك الخطوة مسارًا مصريًا آخر -يمكن أن يعدد من أدواتها- للتقارب مع القوى المدنية المؤيدة للديمقراطية، واكتسبت صورة ذهنية سيئة في مخيلة الشارع السوداني المُنتفض، والمطالب بعودة الجيش إلى الثكنات، ما مهد الطريق أمام المستفيدين من تقييد الدور المصري، لإزكاء التصورات السلبية عن مصر عبر نشر معلومات غير دقيقة.
والصورة السلبية تعمقت بفعل رغبة القاهرة في خلق مسار موازٍ للاتفاق الإطاري (على الرغم ما به من قصور في معالجة جذور الأزمة السياسية)، عبر استضافة ورشة القاهرة في فبراير/شباط الماضي، والتي ضمت الأحزاب والحركات المؤيدة لقائد الجيش البرهان. وهو المسار الذي لم يفضِ إلى نتائج حقيقية بفعل تأخر الخطوة، وضغط المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق لم تكن شروطه قد نضجت بعد.
الحاجة لتنويع الأدوات
“في الفترة السابقة، استعدت مصر للمكونات المدنية، وهي الأقرب لمصر. كان يمكن للقاهرة أن تدعم التحول الديمقراطي، وتعتمد على الرصيد الوجداني الكبير نحوها من كل النخب السودانية. لكن خطأ صانع القرار في الملف المصري، أنه انخرط في القضية السودانية والأزمة كداعم لطرف ضد طرف آخر، وهذه مشكلة استفاد منها الراغبون في تحجيم الدور المصري بالتأليب ضدها، وضد دورها”، يقول حاتم إلياس: الباحث المستقل في الشأن السوداني والخبير في العلاقات الدولية.
يرى إلياس -في حديثه مع “مصر 360”- أن واحدة من أسباب النقد للدور المصري أن “المعنيين بالملف السوداني مجموعة من البيروقراطيين من رجال المؤسسات الأمنية، ومقاربتهم للأزمة مقاربة أمنية واستخباراتية، ما يجعل الرؤية قاصرة على فهم المشهد”.
وفهم الملف السوداني يجب أن يستصحب معطيات كثيرة اجتماعية وتاريخية وثقافية، بحسب الباحث السوداني.
لدى القاهرة بعض الأدوات لتحقيق ذلك. “لكن من الصعب تخيلها تنأى بنفسها عن الجيش، وتضغط من أجل حكم ديمقراطي، عندما يعتقد الجميع أن ما يسعون إليه في السودان هو صورة طبق الأصل للنظام في مصر نفسها”، يشير ألبرتو ميجيل فيرنانديز، القائم السابق بأعمال السفير الأمريكي في السودان.
ولهذا “من الصعب أن تثق القوى المدنية السودانية بكلمات من مصر، فالأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال”، وفق تعبير فيرنانديز في تصريحاته لـ”مصر 360”. وهو ما يتفق معه محمد خير عمر، الباحث في شؤون القرن الإفريقي، ويظن أنه لاكتساب ثقة القوى المدنية يجب أن تكون مصر محايدة لجميع الأطراف، “لكنها ليست كذلك”.
والحاجة لبناء علاقات مع القوى المدنية السودانية، ربما يدفع البعض للتساؤل حول أهمية تلك الخطوة في ظل تهميش تلك القوى بعد اندلاع الصراع.
الحديقة الخلفية
لكن حاتم إلياس يظن أن تلك الخطوة استراتيجية: “لقد حدث تحول كبير في المشهد السياسي السوداني وهذا يحتاج لأدوات جديدة في التعامل معه. مصر يمكن أن تؤكد أنها مع التحول الديمقراطي ومع حكومة مدنية في السودان، فما لا تفهمه الإدارة السياسية المصرية أن الكارثة في السودان يمكن أن تحدث حال ضعفت القوى المدنية السودانية تمامًا، وليس ضعف الجيش هو الكارثة الأكبر كما هو متصور”.
ويوضح: “القوى المدنية هي القادرة على تشكيل وتوجيه الرأي العام وليس الجيش، فإذا ضعفت وانتصر الجيش انتصارًا ساحقًا فإن الخلايا الإسلامية في الجيش، والدمار الذي لحقه بعد ثلاثين عامًا من حكم (عمر البشير)، من الصعب جدًا الرهان عليه في ألا يتمحور أو يصبح تابعًا لأي من دول الإقليم، مع حالة الضعف والهشاشة. يعني يمكن اليوم يكون عنده ولاء تجاه الدعم المصري، وغدًا يتغير هذا الولاء، لأن تحالف بعض الإسلاميين في الجيش مع مصر الآن هو تحالف ضرورة، وليس مبنيًا على رؤية استراتيجية لعلاقة البلدين”.
“مصر تعتبر السودان حديقتها الخلفية، وترغب في العمل مع مؤسسة تعرفها، ولا يمكنها السماح لقوة شبه عسكرية بالعمل كجيش خاص يديره السودان. نعم قد لا ترغب في عودة الإسلاميين المتحالفين مع البرهان إلى السلطة، ولكن بالنظر إلى الخيارات بين الاثنين، فإنها ستفضل البرهان مع حلفائه الإسلاميين” يقول محمد خير عمر لـ”مصر 360″.
ويعتبر أن حاجة مصر إلى دعم السودان في قضية سد النهضة، سيجعلها تبذل قصارى جهدها كي يفوز الجيش السوداني في المعركة أو على الأقل ألا يتعرض للهزيمة.
الأزمة كفرصة تاريخية
يرى الباحث حاتم إلياس أن الأزمة فرصة تاريخية لمصر، لأن تتقدم وتكون أكثر الفاعلين في تحقيق السلام في السودان. “لكن هذا يتطلب تغيير الطاقم المعني باتخاذ القرار في الملف السوداني، وتقديم طاقم جديد قريب ومتفهم ومدرك للأحداث”.
وبحسب تصوره: “يجب أن تعيّن الحكومة المصرية لإدارة الملف السوداني أشخاصًا موثوق فيها للسودانيين ومن غير خلفيات عسكرية أو استخباراتية، بل دبلوماسيين يتم إعطاؤهم مساحة أكبر في صناعة القرار الرسمي المتعلق بالسودان”.
ومن جهة أخرى على المستوى الإعلامي: “لابد من خطاب وقنوات مصرية خاصة متوجهة للسودان.. ويمكن أن تدار من قبل سودانيين تهمهم علاقات مصر والسودان”، فالتواصل مع السودانيين، والبناء على المشترك هو أحد أدوات القوى الناعمة المصرية المفتقدة.
اقرأ أيضًا: “أليكس دوفال” الخبير البارز في الشأن السوداني يشرح جذور الأزمة ويفكك طبقات الصراع
يعود القيادي في قوى الحرية والتغيير، ليقول إن هناك حاجة ماسة لاستعادة قنوات التواصل مع الأكاديميين والمثقفين والمجتمع المدني المصري، أو حتى الوفود الشعبية “لأن هذا يساعد على فتح مجال لاتساع الرؤية المصرية حول الوضع في السودان”، بما يساعد صانع القرار على الاستجابة بشكل أفضل.
“الدور المصري الآن مهم. يجب ألا تترك مصر ملف السودان لأي محور إقليمي وعالمي؛ لأنه ملف حساس، ويتعلق بالعمق الاستراتيجي لمصر، لكن اختيار المدخل مهم”، وفق إلياس، الذي يضرب مثالًا -قاصدًا منه التدليل على الحاجة لفهم العوامل الاجتماعية والثقافية المُصاحبة للملف- “هل تصدق أن قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة حميدتي، كان بعضهم جزءًا من هجرة عربية قادمة من صعيد مصر، ومنطقتهم لازالت هناك ومعروفة بالرزيقات (في جنوب محافظة الأقصر)”.
المعالجة الإقليمية
عندما وقع العنف، وتم احتجاز عدد من جنود القوات المسلحة، الذين كانوا في مهمة تدريب مشترك مع الجيش السوداني، كنا بحاجة إلى “وسيط”، للإفراج عنهم، بحسب ما يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عماد جاد. كان هذا بالنظر إلى تموضع دولة الإمارات كداعم لحميدتي، تبعًا للمصالح الاقتصادية المباشرة معه، ومطامحها في مواني البحر الأحمر.
قوّض هذا الدعم الإماراتي من المصلحة المصرية، لكنه لم يمنع كذلك من تحرك مشترك لمحاولة الوساطة بين طرفي النزاع لوقف إطلاق النار، والحفاظ على سلامة الجنود المصريين.
“لا أعتقد أن مصر والإمارات ستتصادمان بشأن الصراع السوداني، لكن يمكن أن يكون لهما مواقف مختلفة، كل منهما ينظر إلى مصالحه. لا شك ستقف مصر مع الجيش بغض النظر عن موقف الإمارات”، يقول محمد خير عمر الباحث في شؤون القرن الإفريقي.
وبعدما اتضح أن حسم الصراع العسكري لا يلوح في الأفق لأي من الطرفين، تبدو الحاجة إلى الضغط عليهما للتفاوض مُلحة؛ للحفاظ على مصالح الجميع في السودان، وبناءً عليه الحاجة لتنسيق موقف مشترك بين القاهرة وأبو ظبي.
وهنا السؤال هو “ما إذا كان يمكن لمصر التحرك نحو سياسة أكثر توازنًا من خلال معالجة مخاوف أبو ظبي، على الأقل جزئيًا”، بحسب ألبرتو فيرنانديز. وكذلك على الجانب الإماراتي الذي يجب أن يعالج المخاوف المصرية.
يضيف الدبلوماسي الأمريكي السابق في السودان “من الصعب القيام بذلك، ولكن ليس مستحيلًا؛ لأن مصر لديها بعض التأثير على الجيش السوداني -على الأقل العناصر القومية وغير الإسلامية في الجيش (من غير الواضح من هو المسؤول بالفعل داخل الجيش)- لكن هذا سيتطلب دبلوماسية بارعة وقادرة للغاية”.
على الجانب الآخر، يمكن لمصر الاستفادة من التنافس السعودي الإماراتي، وصياغة رؤية مشتركة مع المملكة. إذ تقترب رؤية السعودية مؤخرًا من نظيرتها المصرية رغم التباينات، فبينما تؤكد القاهرة على ضرورة إنهاء الأزمة الحالية، ثم البناء على الاستقرار لاستكمال المرحلة، أكدت الرياض على ضرورة التهدئة؛ تمهيدًا لنقل الجيش سلطته لحكومة مدنية.
وهنا تلوح الفرصة لمصر من أجل الاقتراب من القوى المدنية، والاستفادة من الدعم الأمريكي للمبادرة السعودية، التي تراعي في ذات الوقت وجوب “مشاركة الجميع”، في التسوية السياسية اللاحقة، وهي ملاحظة تتسق مع الموقف المصري ورؤية عبد الفتاح البرهان التي سبق أن كررها انتقاد للمنحى الإقصائي للقوى الموقعة على الاتفاق الإطاري قبل 15 إبريل/نيسان، بحسب ما يلفت الباحث محمد عبد الكريم في تقديره للموقف (طالع: مصر والأزمة في السودان.. حتمية المصالح المشتركة في مواجهة المتغيرات الإقليمية والدولية).
يؤكد أليكس دوفال، الخبير البارز في شؤون السودان، -في حديثه مع “مصر 360”- أن الإمكانية الوحيدة للحفاظ على الاستقرار في السودان هي “استئناف عملية التحول الديمقراطي وتحقيق الإنقاذ الاقتصادي”، وبالتالي يجب على القاهرة أن تراعي خطواتها على المدى الطويل. لكن ذلك سيكون مقرونًا بمراجعة ذاتية وتغيير بنية النهج الإقصائي في شتى المجالات، وهو ما لم تلوح بوادره حتى الآن.
نقلا عن مصر 360
منذ اندلاع الأزمة، سعى الموقف الرسمي المصري لاحتواء الصراع عبر القنوات الدبلوماسية، وهو ما تجلى بعدة مبادرات -وإن لم تكن مهيأة لتلقي استجابة دولية- والتواصل مع طرفي الصراع، عبر استقبال وزير الخارجية سامح شكري، مبعوث قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان، والمكالمة الهاتفية مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
لكن جذور أزمة الاستجابة المصرية، تكمن في التصورات -القديمة والمترسخة- عن الوضع السوداني. أو “رؤية الواقع السوداني من منظور الواقع المصري، مع إغفال تنوع وتعدد المجتمع السوداني”، بحسب ما قاله قيادي في قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، لـ”مصر 360” قبل اندلاع الحرب الحالية.
مراكمات التصورات السلبية
هذه التصورات تجلت الحاجة إلى مراجعتها مع دعم القاهرة للبرهان في انقلابه على القوى المدنية -أكتوبر/تشرين الأول 2021- والذي سرعان ما اتضح أنه أضعف من القضاء على التحول المدني الديمقراطي حينها، بل وفاقم الأزمة بقطع المعونات الاقتصادية الدولية عن الخرطوم.
كاميرون هدسون
يقول كاميرون هادسون: زميل أول في برنامج إفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية، والدولية والمدير السابق للشؤون الإفريقية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إن مصر ربما أدركت أن دعمها للانقلاب كان خطأ لكنها “لم تتعلم من هذا الخطأ، ولم تكن مستعدة لدعم تحول ديمقراطي في السودان”.
“من المحتمل أن القاهرة تعتقد أنها تعرف أفضل نوع لهيكل الحكم الذي سيعمل بشكل أفضل في السودان. ولكن في الحقيقة، كانت هذه مجرد رغبة في رؤية هيكل حكم يناسب مصالحها، وليس مصالح السودانيين”، يضيف هادسون لـ”مصر 360”.
أفقدت تلك الخطوة مسارًا مصريًا آخر -يمكن أن يعدد من أدواتها- للتقارب مع القوى المدنية المؤيدة للديمقراطية، واكتسبت صورة ذهنية سيئة في مخيلة الشارع السوداني المُنتفض، والمطالب بعودة الجيش إلى الثكنات، ما مهد الطريق أمام المستفيدين من تقييد الدور المصري، لإزكاء التصورات السلبية عن مصر عبر نشر معلومات غير دقيقة.
والصورة السلبية تعمقت بفعل رغبة القاهرة في خلق مسار موازٍ للاتفاق الإطاري (على الرغم ما به من قصور في معالجة جذور الأزمة السياسية)، عبر استضافة ورشة القاهرة في فبراير/شباط الماضي، والتي ضمت الأحزاب والحركات المؤيدة لقائد الجيش البرهان. وهو المسار الذي لم يفضِ إلى نتائج حقيقية بفعل تأخر الخطوة، وضغط المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق لم تكن شروطه قد نضجت بعد.
الحاجة لتنويع الأدوات
“في الفترة السابقة، استعدت مصر للمكونات المدنية، وهي الأقرب لمصر. كان يمكن للقاهرة أن تدعم التحول الديمقراطي، وتعتمد على الرصيد الوجداني الكبير نحوها من كل النخب السودانية. لكن خطأ صانع القرار في الملف المصري، أنه انخرط في القضية السودانية والأزمة كداعم لطرف ضد طرف آخر، وهذه مشكلة استفاد منها الراغبون في تحجيم الدور المصري بالتأليب ضدها، وضد دورها”، يقول حاتم إلياس: الباحث المستقل في الشأن السوداني والخبير في العلاقات الدولية.
يرى إلياس -في حديثه مع “مصر 360”- أن واحدة من أسباب النقد للدور المصري أن “المعنيين بالملف السوداني مجموعة من البيروقراطيين من رجال المؤسسات الأمنية، ومقاربتهم للأزمة مقاربة أمنية واستخباراتية، ما يجعل الرؤية قاصرة على فهم المشهد”.
وفهم الملف السوداني يجب أن يستصحب معطيات كثيرة اجتماعية وتاريخية وثقافية، بحسب الباحث السوداني.
لدى القاهرة بعض الأدوات لتحقيق ذلك. “لكن من الصعب تخيلها تنأى بنفسها عن الجيش، وتضغط من أجل حكم ديمقراطي، عندما يعتقد الجميع أن ما يسعون إليه في السودان هو صورة طبق الأصل للنظام في مصر نفسها”، يشير ألبرتو ميجيل فيرنانديز، القائم السابق بأعمال السفير الأمريكي في السودان.
ولهذا “من الصعب أن تثق القوى المدنية السودانية بكلمات من مصر، فالأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال”، وفق تعبير فيرنانديز في تصريحاته لـ”مصر 360”. وهو ما يتفق معه محمد خير عمر، الباحث في شؤون القرن الإفريقي، ويظن أنه لاكتساب ثقة القوى المدنية يجب أن تكون مصر محايدة لجميع الأطراف، “لكنها ليست كذلك”.
والحاجة لبناء علاقات مع القوى المدنية السودانية، ربما يدفع البعض للتساؤل حول أهمية تلك الخطوة في ظل تهميش تلك القوى بعد اندلاع الصراع.
الحديقة الخلفية
لكن حاتم إلياس يظن أن تلك الخطوة استراتيجية: “لقد حدث تحول كبير في المشهد السياسي السوداني وهذا يحتاج لأدوات جديدة في التعامل معه. مصر يمكن أن تؤكد أنها مع التحول الديمقراطي ومع حكومة مدنية في السودان، فما لا تفهمه الإدارة السياسية المصرية أن الكارثة في السودان يمكن أن تحدث حال ضعفت القوى المدنية السودانية تمامًا، وليس ضعف الجيش هو الكارثة الأكبر كما هو متصور”.
ويوضح: “القوى المدنية هي القادرة على تشكيل وتوجيه الرأي العام وليس الجيش، فإذا ضعفت وانتصر الجيش انتصارًا ساحقًا فإن الخلايا الإسلامية في الجيش، والدمار الذي لحقه بعد ثلاثين عامًا من حكم (عمر البشير)، من الصعب جدًا الرهان عليه في ألا يتمحور أو يصبح تابعًا لأي من دول الإقليم، مع حالة الضعف والهشاشة. يعني يمكن اليوم يكون عنده ولاء تجاه الدعم المصري، وغدًا يتغير هذا الولاء، لأن تحالف بعض الإسلاميين في الجيش مع مصر الآن هو تحالف ضرورة، وليس مبنيًا على رؤية استراتيجية لعلاقة البلدين”.
“مصر تعتبر السودان حديقتها الخلفية، وترغب في العمل مع مؤسسة تعرفها، ولا يمكنها السماح لقوة شبه عسكرية بالعمل كجيش خاص يديره السودان. نعم قد لا ترغب في عودة الإسلاميين المتحالفين مع البرهان إلى السلطة، ولكن بالنظر إلى الخيارات بين الاثنين، فإنها ستفضل البرهان مع حلفائه الإسلاميين” يقول محمد خير عمر لـ”مصر 360″.
ويعتبر أن حاجة مصر إلى دعم السودان في قضية سد النهضة، سيجعلها تبذل قصارى جهدها كي يفوز الجيش السوداني في المعركة أو على الأقل ألا يتعرض للهزيمة.
الأزمة كفرصة تاريخية
يرى الباحث حاتم إلياس أن الأزمة فرصة تاريخية لمصر، لأن تتقدم وتكون أكثر الفاعلين في تحقيق السلام في السودان. “لكن هذا يتطلب تغيير الطاقم المعني باتخاذ القرار في الملف السوداني، وتقديم طاقم جديد قريب ومتفهم ومدرك للأحداث”.
وبحسب تصوره: “يجب أن تعيّن الحكومة المصرية لإدارة الملف السوداني أشخاصًا موثوق فيها للسودانيين ومن غير خلفيات عسكرية أو استخباراتية، بل دبلوماسيين يتم إعطاؤهم مساحة أكبر في صناعة القرار الرسمي المتعلق بالسودان”.
ومن جهة أخرى على المستوى الإعلامي: “لابد من خطاب وقنوات مصرية خاصة متوجهة للسودان.. ويمكن أن تدار من قبل سودانيين تهمهم علاقات مصر والسودان”، فالتواصل مع السودانيين، والبناء على المشترك هو أحد أدوات القوى الناعمة المصرية المفتقدة.
اقرأ أيضًا: “أليكس دوفال” الخبير البارز في الشأن السوداني يشرح جذور الأزمة ويفكك طبقات الصراع
يعود القيادي في قوى الحرية والتغيير، ليقول إن هناك حاجة ماسة لاستعادة قنوات التواصل مع الأكاديميين والمثقفين والمجتمع المدني المصري، أو حتى الوفود الشعبية “لأن هذا يساعد على فتح مجال لاتساع الرؤية المصرية حول الوضع في السودان”، بما يساعد صانع القرار على الاستجابة بشكل أفضل.
“الدور المصري الآن مهم. يجب ألا تترك مصر ملف السودان لأي محور إقليمي وعالمي؛ لأنه ملف حساس، ويتعلق بالعمق الاستراتيجي لمصر، لكن اختيار المدخل مهم”، وفق إلياس، الذي يضرب مثالًا -قاصدًا منه التدليل على الحاجة لفهم العوامل الاجتماعية والثقافية المُصاحبة للملف- “هل تصدق أن قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة حميدتي، كان بعضهم جزءًا من هجرة عربية قادمة من صعيد مصر، ومنطقتهم لازالت هناك ومعروفة بالرزيقات (في جنوب محافظة الأقصر)”.
المعالجة الإقليمية
عندما وقع العنف، وتم احتجاز عدد من جنود القوات المسلحة، الذين كانوا في مهمة تدريب مشترك مع الجيش السوداني، كنا بحاجة إلى “وسيط”، للإفراج عنهم، بحسب ما يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عماد جاد. كان هذا بالنظر إلى تموضع دولة الإمارات كداعم لحميدتي، تبعًا للمصالح الاقتصادية المباشرة معه، ومطامحها في مواني البحر الأحمر.
قوّض هذا الدعم الإماراتي من المصلحة المصرية، لكنه لم يمنع كذلك من تحرك مشترك لمحاولة الوساطة بين طرفي النزاع لوقف إطلاق النار، والحفاظ على سلامة الجنود المصريين.
“لا أعتقد أن مصر والإمارات ستتصادمان بشأن الصراع السوداني، لكن يمكن أن يكون لهما مواقف مختلفة، كل منهما ينظر إلى مصالحه. لا شك ستقف مصر مع الجيش بغض النظر عن موقف الإمارات”، يقول محمد خير عمر الباحث في شؤون القرن الإفريقي.
وبعدما اتضح أن حسم الصراع العسكري لا يلوح في الأفق لأي من الطرفين، تبدو الحاجة إلى الضغط عليهما للتفاوض مُلحة؛ للحفاظ على مصالح الجميع في السودان، وبناءً عليه الحاجة لتنسيق موقف مشترك بين القاهرة وأبو ظبي.
وهنا السؤال هو “ما إذا كان يمكن لمصر التحرك نحو سياسة أكثر توازنًا من خلال معالجة مخاوف أبو ظبي، على الأقل جزئيًا”، بحسب ألبرتو فيرنانديز. وكذلك على الجانب الإماراتي الذي يجب أن يعالج المخاوف المصرية.
يضيف الدبلوماسي الأمريكي السابق في السودان “من الصعب القيام بذلك، ولكن ليس مستحيلًا؛ لأن مصر لديها بعض التأثير على الجيش السوداني -على الأقل العناصر القومية وغير الإسلامية في الجيش (من غير الواضح من هو المسؤول بالفعل داخل الجيش)- لكن هذا سيتطلب دبلوماسية بارعة وقادرة للغاية”.
على الجانب الآخر، يمكن لمصر الاستفادة من التنافس السعودي الإماراتي، وصياغة رؤية مشتركة مع المملكة. إذ تقترب رؤية السعودية مؤخرًا من نظيرتها المصرية رغم التباينات، فبينما تؤكد القاهرة على ضرورة إنهاء الأزمة الحالية، ثم البناء على الاستقرار لاستكمال المرحلة، أكدت الرياض على ضرورة التهدئة؛ تمهيدًا لنقل الجيش سلطته لحكومة مدنية.
وهنا تلوح الفرصة لمصر من أجل الاقتراب من القوى المدنية، والاستفادة من الدعم الأمريكي للمبادرة السعودية، التي تراعي في ذات الوقت وجوب “مشاركة الجميع”، في التسوية السياسية اللاحقة، وهي ملاحظة تتسق مع الموقف المصري ورؤية عبد الفتاح البرهان التي سبق أن كررها انتقاد للمنحى الإقصائي للقوى الموقعة على الاتفاق الإطاري قبل 15 إبريل/نيسان، بحسب ما يلفت الباحث محمد عبد الكريم في تقديره للموقف (طالع: مصر والأزمة في السودان.. حتمية المصالح المشتركة في مواجهة المتغيرات الإقليمية والدولية).
يؤكد أليكس دوفال، الخبير البارز في شؤون السودان، -في حديثه مع “مصر 360”- أن الإمكانية الوحيدة للحفاظ على الاستقرار في السودان هي “استئناف عملية التحول الديمقراطي وتحقيق الإنقاذ الاقتصادي”، وبالتالي يجب على القاهرة أن تراعي خطواتها على المدى الطويل. لكن ذلك سيكون مقرونًا بمراجعة ذاتية وتغيير بنية النهج الإقصائي في شتى المجالات، وهو ما لم تلوح بوادره حتى الآن.
نقلا عن مصر 360