مراجعة لمراجعات سلمان والطاهر حسن التوم (2-3)

 


 

 




محمود محمد طه ومياه النيل والحدود

مراجعة لمراجعات سلمان والطاهر حسن التوم

لا يا سلمان!! التأييد لاتفاقية المياه لم يكن بالإجماع المطلق!!

(2-3)

عبد الله الفكي البشير

abdallaelbashir@gmail.com






أشرت في الحلقة السابقة، إلى ضرورة أن يكون إجراء المراجعات للملفات والأحداث والوقائع والتاريخ... إلخ، خادماً للمستقبل، منفتحاً عليه، داعماً لفرص التغيير، لا خادماً للماضي بإعادة إنتاجه، فتكون بذلك المراجعات استمراراً وتمكيناً لحالة التغييب والتضليل، ومن ثم بتراً للمعارف وتجميداً لحركة التغيير. كما لفت الانتباه إلى ضرورة أن يكون إجراء المراجعات، خاصة مع الخبراء والمتخصصين والأكاديميين، بحكم ثقة الجماهير في علمهم وخبراتهم، بعلم وصدق ومسؤولية وحذر. ونبهت إلى خطورة ما يصاحب إجراء المراجعات في مجال ما، من بتر للمعارف وتجاهل لجهود الآخرين، والتسليم بما هو معلن من التاريخ، سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد، بوعي أو بغير وعي، بسبب نقص في المعلومة أو قصور في البحث، فهو، أي بتر المعارف، بلا شك من مقدمات بتر أراضي الأوطان ومن أسباب تعميق حالة التهميش والتمزق والتشظي. بل يزيد من خطورة الأمر، تأكيد الخبير على قوله بثقة مطلقة، دون أن يعطي اعتباراً لما لم يبلغه خبره، فيحتاط أو يحترز احترازاً يضمن الحد الأدنى من الشروط العلمية. ثم وقفت على الحلقات التلفزيونية التي كان الأستاذ الطاهر التوم صاحب برنامج مراجعات الذي يبث على قناة النيل الأزرق الفضائية، قد استضاف فيها الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، الخبير القانوني والباحث الأكاديمي في قوانين وسياسات المياه، والمستشار الأسبق لقوانين وسياسات المياه في البنك الدولي. جاء الحوار بين الطاهر التوم وضيفه سلمان في أربع حلقات، تحت مظلة مراجعات حول أسرار وخفايا اتفاقية المياه السودانية المصرية. تحدث سلمان من خلال محاور عديدة، وتناول اتفاقية مياه النيل التي وقعت بين السودان ومصر عام 1959م، كيف تمت؟...إلخ. وتناول سلمان موقف القوى السياسية والنخب من الاتفاقية؟ وقال سلمان بيقين تام وبثقة مطلقة، وأكد جازماً بأن كل القوى السياسية كانت مؤيدة لاتفاقية مياه النيل بالإجماع المطلق. وأكد سلمان بما لا يدع مجالاً للشك أو الاحتراز أن كل النخب والأفراد من المثقفين في السودان كانوا كذلك مؤيدين للإتفاقية تأييداً مطلقاً، عدا ميرغني حمزة الذي أبدى بعض الملاحظات. ثم قلت إن ما جاء به سلمان يحتاج منه لمراجعة وإعادة نظر. فقد كان الأستاذ محمود محمد طه ليس معارضاً ورافضاً للإتفاقية فحسب؛ وإنما كان مقاوماً لها. بدأ الأستاذ محمود مقاومته باكراً وكثف منها منذ فبراير 1958م، فنشر المقالات، وأصدر البيانات وقدم المحاضرات. دفعت في الحلقة الأولى ببعض مما قدمه الأستاذ محمود، موثقاً، في مقاومته للاتفاقية، وفي هذه الحلقة وهي قبل الأخيرة، استكمل ما بدأته.

ففي اطار مقاومته لاتفاقية مياه النيل، نشر الأستاذ محمود في يوم 25 أكتوبر 1958مبصحيفة أنباء السودان، العدد 165، مقالاً طويلاً عن اتفاقية مياه النيل. جاء المقال بعنوان: "الأزمة بين السودان ومصر: إتفاقية مياه النيل سنة 1929م".تناول الأستاذ محمود في مقاله هذا، قصة مياه النيل، فوقف عند اتفاقية عام 1929م وتاريخها وتتبع جلسات مباحثاتها واجتماعات لجانها منذ أن كانت الاتفاقية فكرة أولية عند البريطانيين ونمت في اطار الأهداف الاستعمارية والعلاقات مع مصر. وتحدث في مقاله عن بداية التفكير في اقامة مشروع لزراعة القطن في أرض الجزيرة وتناول تطور الفكرة ووضوحها في الأذهان حتى تقرر ري مساحة مائة ألف فدان وتطورت المساحة إلى ثلاثمائة ألف فدان. تناول الأستاذ محمود في مقاله تعهدات بريطانيا لحكومة مصر بألا تزيد المساحة من مشروع الجزيرة بدون التشاور مع حكومة مصر. ثم وقف على مقتل السردار السير لي أستاك وأثره على التطورات بشأن اتفاقيات مياه النيل، وما تبع ذلك من إنذار بريطانيا لمصر بأنها تخلت عن مبدأ التشاور معها بشأن زيادة المساحة الزراعية، وأن الزيادة في المساحة المزروعة في السودان ستتم دون التشاور مع مصر. رفض رئيس الوزراء سعد زغلول باشا ذلك، الأمر الذي أدى لتدخل الملك فؤاد الأول ومن ثم استقالة رئيس الوزراء. ثم قدم الأستاذ محمود تفصيلاً عن اللجان والتقارير والمراسلات التي تمت بين بريطانيا ومصر خلال الفترة ما بين 22 نوفمبر 1924م و26 يناير 1925م. أشار الأستاذ محمود في مقاله إلى تمسك مصر على الدوام بوجهة نظرها، في المفاوضات والمراسلات بشأن مياه النيل. فقد تمسكت مصر بأن مسألة تطوير الري في السودان يجب بأي حال من الأحوال ألا تكون بصورة تضر بالري في مصر أو تعوق مشاريع التوسع المرتقبة فيها والضرورية لتفي بحاجة السكان المتزايدين بسرعة شديدة.

ظل الأستاذ محمود على الدوام مشغولاً بمسألة مياه النيل، وداعياً لإقامة العلاقات مع مصر على العدل وحسن الجوار والاحترام المتبادل. إن الدارس والباحث يلاحظ أن الأستاذ محمود كثف من نشر مقالاته وإصدار بياناته وإقامة محاضراته العامة، عن مياه النيل في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وهو عقد الحراك بشأن اتفاقية مياه النيل التي وقعت في 8 نوفمبر 1959م. ففي يوم السبت 23/8/1958م نشر الحزب الجمهوري برئاسة الأستاذ محمود بياناً عن دعائم الميثاق القومي. تناول البيان رؤية الحزب للعلاقة مع مصر، ومواقفه من مياه النيل، يقول البيان: "لتحسين العلاقة مع مصر يجب تصفية المسائل المعلقة معها فوراً، مثل مياه النيل ومستعمرات الري المصري في الشجرة والجبل وملكال وذلك بوسائل المفاوضات أو وسائل التحكيم ويجب الا نترك هذه المسائل معلقة هكذا لأي فترة من الزمن بعد اليوم لأنها هي سبب سوء التفاهم المستمر فإذا ما تمت هذه التسوية فأن علاقتنا بمصر ستقوم على العدل وحسن الجوار والاحترام المتبادل".

أتبع الأستاذ محمود اهتمامه الشديد بمياه النيل بنقده للقادة والوزراء ومتخذي القرار. ففي يوم السبت 6/9/1958م نشر الأستاذ محمود بصحيفة أنباء السودان، العدد رقم 157، مقالاً بعنوان: "ماذا فعل الصحفيون بحريتهم؟"، قال فيه: "أبادر فاقرر هنا أن خطاب السيد وزير الداخلية الذى قرأه على الصحفيين في مؤتمره الصحفي فيما يخص مشكلة مياه النيل مع مصر لم يكن خطاباً لبقاً ولا كان موفقاً وليس الكيس من يأبى أن يقدم الوعيد والتهديد بين يدي الرجاء بالتعاون.. ثم أنه ما ينبغي أن يغيب عن بال رجل مسئول أن الشعب بجميع طبقاته بله الصحفيين غيور على حريته حريص على صيانتها.. وما جدوى الاستقلال إذا ما أمست الحريات سليبة؟". ثم أضاف الأستاذ محمود في نقده لوزير الداخلية الذي تحدث في مؤتمر صحفي عن مياه النيل، أضاف الأستاذ محمود قائلاً: "هل قرأتم ما جاء عن المؤتمر الصحفي الذى عقده وزير الداخلية عن مشكلة مياه النيل؟ لقد طلب الوزير من الصحفيين ألا ينشروا عن مشكلة مياه النيل من خبر الا ما يستقى من الحكومة ولا من تعليق الا ما يتوخى فيه توفير الجو الودي الذي يجب أن يسبق المفاوضات ليزيد فرص نجاحها وعند ذلك توجه إليه أحد الصحفيين بسؤال فحواه "هل طلبت مصر من صحافتها مثل هذا الطلب؟" فلم يجد الوزير بداً من أن يجيب "سنتوجه إلى مصر برجاء أن تطلب من صحافتها مثله" والآن فإن لهذا السؤال دلالة كبيرة. فهو يدل على أن بعض صحفيينا لا يعرفون فرقاً بين صحافة مصر وصحافة السودان ولا يقدرون مبلغ التفاوت في الحرية بينهما مع أن كل من يعرف شيئاً ولو يسيرا عن الحياة في مصر يعلم أن صحافة مصر لا تكتب شيئاً الا ما تمليه حكومة مصر إملاء. فإن لم يكن إملاء فهو لا يخرج عن ما اختطته الحكومة في روح سياستها من غير نقد او تساؤل. وهو يدل أيضاً على أن صحفيينا (بعضهم) حين يدافع عن حرية الصحافة لا يعرف حقيقة ما يريد وهو ليس لديه مانع من أن يعيش في حرية صحفية (كالحرية) التي تعيش تحتها الصحافة المصرية هل استعدي الحكومة على حرية بعض الصحف بقولي هذا ؟ كلا ؛ والحق لو إنى كنت مقتنعاً بأن حكومتنا رشيدة ذات فلسفة في الحكم ومذهب في التربية لطلبت إليها أن تجعل للحرية ثمناً هو حسن التصرف فيها أو تحمل مسؤولية سوء التصرف. فالناس أحرار ليفكروا كما يشاءون وان يقولوا كما يفكرون وان يعملوا كما يقولون على شريطة ان يقولوا صواباً وألا يعملوا عملاً يخل بحريات الأخرين". ثم ختم مقاله قائلاً: "فكم من صحفنا تقول الصواب؟ أم كم من صحفنا تعرف الصواب؟ حقاً ماذا فعل الصحفيون بحريتهم؟؟"


الأستاذ محمود والربط الباكر بين مياه النيل والحدود

ربط الأستاذ محمود باكراً بين اتفاقية مياه النيل والحدود. وقد ورد هذا الربط في المحاضرات العامة التي عقدها وفي المقالات التي نشرها. فبالإضافة لما وردت الإشارة إليه آنفاً، فقد قدم الأستاذ محمود محاضرة في مساء يوم 23/7/1958م بمدينة مدني، كانت بعنوان: "الموقف الدولي الراهن"، ونشرت المحاضرة بصحيفة السودان الجديد تحت عنوان: "الحكومة القومية خطرة وستضيع على السودان مياه النيل والحدود"، بتاريخ 7 أغسطس 1958م، تحدث الأستاذ محمود في تلك المحاضرة قائلاً: "الحكومة القومية خطيرة وستضيع على السودان مياه النيل والحدود.. فالحكومة القومية... خطرة لأنها ستأتي بأغلبية الموالين لمصر من الأحزاب وبالتالي تضيع المشاكل المعلقة بيننا ومصر وهي مياه النيل والحدود ولذلك يحبذ أن تكون في هذا الوقت حكومة حازمة من جهة مصر حتى تحل هذه المشاكل".

تناول الأستاذ محمود مسألة الحدود مع مصر ومشكلة مياه النيل، والمشاكل المعلقة مع مصر في مقال نشر يوم 3 مايو 1958م في صحيفة أنباء السودان، العدد 149، بعنوان: "نظرات في السياسة الخارجية والداخلية". تحت محور وسمه بـ "بيننا وبين مصر" كتب الأستاذ محمود قائلاً: "بلغنا أن حكومة السودان قد أستعدت بالوثائق التي تؤيد حقها في نزاع الحدود ولكنها لا تنوي أن تثير المسألة من جانبها وإنما تترك البدء لمصر ولقد تردد هنا أن مصر أيضاً لا تريد أن تبدأ بإثارة المشكلة من جانبها على الأقل في الوقت الحاضر". ثم أضاف الأستاذ محمود رابطاً بين نزاع الحدود ومشكلة مياه النيل فكتب قائلاً: "ولما كانت المسائل المعلقة بيننا وبين مصر لا تقف على مسألة الحدود فقط وإنما تتعداها إلى ما هو أهم منها مثل مشكلة مياه النيل التي لابد من حلها حلاً نهائياً حتى نستطيع ان نمعن في استغلال حصتنا من المياه". ثم أضاف الأستاذ محمود وهو يتحدث عن المسائل المعلقة مع مصر قائلاً: "ومنها مشكلة المستعمرات المصرية داخل بلادنا مثل ملكال وجبل أولياء وشجرة غردون ولعل المصريين لا يريدون إثارة مشكلة في الوقت الحاضر حتى يتمكنوا بمرور الزمن من استمالة سكان تلك المناطق بمختلف صنوف الدعاية والاغراء والرشوة، ذلك بأن الأخبار تردنا من منطقة حلايب بما يدل على أن أموراً من هذا تمارس هناك علانية وجهاراً". ثم نبه الأستاذ محمود حكومة السودان قائلاً: "والحزم يقضي على حكومة السودان بأن تثير هذه المسائل المعلقة منذ اليوم... ليس هذا فحسب بل إن حل هذه المسائل لا يجب أن يتعثر ويتعرض للتسويف كسابق عهده، ذلك بأنه من مصلحة مصر كما هو من مصلحة السودان أن تبنى علائقنا على [أسس] واضحة حتى ولو أقتضى ذلك اللجوء إلى هيئة الأمم لتشكل بيننا لجنة تحكيم يكون حكمها مرضياً من كلينا سلفاً"... إلخ. وكان الأستاذ محمود قد تحدث في بيان للحزب الجمهوري كان "حول السياسة الاقتصادية الرسمية"، صدر في يوم 10 نوفمبر 1955م، ونشر بصحيفة الاستقلال بتاريخ 17/11/1955م، وهو بيان طويل، تناول البيان استغلال مصر والسودان لمياه النيل، وتحدث البيان عن ضرورة أن تولي الحكومة جل اهتمامها بالتوسع الزراعي وإقامة المشاريع الزراعية في مختلف أنحاء السودان. كما تحدث البيان عن "إن مصر استغلت كل ما تملك من أراضي زراعية في حين أن السودان لم يستغل عشر أراضيه الخصبة".

أقف هنا ونلتقي في الحلقة الثالثة والأخيرة، لاستكمال الاستقراء في أدوات ومنهج الأستاذ محمود في مقاومة اتفاقية مياه النيل. وسأتناول في محور: مطالبة الأستاذ محمود بتنوير الرأي العام وتربية الشعب على الديمقراطية. كما سأقدم بعض الإشارات التي تبين مدى انشغال الأستاذ محمود بمياه النيل، وكيف أن اهتمامه بمياه النيل ظل حتى في آخر نص كتبه قبل تنفيذ الإعدام عليه في يوم 18 يناير 1985م. ففي آخر نص خطه يراع الأستاذ محمود أثناء فترة إعتقاله الأخير (9/6/1983م-19/12/1984م)، وأرخ لكتابته النص بتاريخ 30 أكتوبر 1984م، ووسمه بـ (الديباجة)، كانت مياه النيل حاضرة فيه.


 

آراء