مساهمتي في يونيو 1989!! (الأخيرة)
19 July, 2009
(1)
قبل بداية الحكي أشير لملاحظتين إحداهما تتعلق بالقارئ، وأخرى تتصل بحكايات آخرين. القارئ اتهمني بممارسة خداعه، فعنوان المقال يشير لمساهمتي في الانقلاب، ولكن ما كتبته هو حكايات وذكريات عن الانقلاب، وليست مساهمة فيه. حمدتُ الله أنني سوف لن اُتهم يوماً ما بالضلوع أو المشاركة في الانقلاب، بدليل أنني ساعتها كنت في صف أحمل كيس عيش، وليس كلاشنكوف!! ثانياً وكما قلت للقارئ إنني كنت آنذاك مديراً لتحرير مجلة "سنابل"، ولذا جاء إسهامي صحافياً. ماذا تطلبون من صحفي غير أن يسعى من فجر الانقلاب وحتى بيانه الأول ليأتيكم بالأخبار والحكايات؟.أليس إبراز الحقائق وكشف المدّعين جزء من تدوين التاريخ. على العموم قمت بواجبي كصحفي، وهذه هي مساهمتي!!.
تدفقت كثير من المعلومات واستمعتُ للعديد من الروايات من أناس كثر، أغلبها تستحق التسجيل للتاريخ، وهي حكايات على طرافتها، غنية بالمعلومات، لو كان لي وقت كاف لمتّعتكم بها، ولكن للأسف لاتترك لنا المهنة وقتا فائضاً لسماع الحكايات الطويلة، لذا أقترح أن يقوم باحثون مجيدون لتدوين هذه الروايات الشفاهية، والمشاهدات التي عاشها أناس مختلفون، في يوم الثلاثين من يونيو، بالتأكيد ستكون ممتعة ومدهشة، توثّق للتاريخ بشكل حي، بدلاً من انتظار المدّعين ليطلوا علينا كل عام بأكاذيبهم!!
(2)
تركتوني أو تركتم الحلقة السابقة وأنا أعبر كبري كوبر باتجاه بحري، حيث رأيت أحمد سليمان جالسا أمام منزل الرشيد الطاهر بكر. ذهبت من سوق بحري حتى الختمية كدّاري بعد رفض قريبي أن يوصلني. لا أعرف لماذا ذهبت للختمية لاشك أن سببا ما قد جذبني الى هناك.
حينما اندلعت هوجة يوليو 1971 كنت بالختمية وعرفت يومها أن خالي محمد أحمد الريح كان مشاركا في الانقلاب رغم أنه لم يكن مع الرفاق. حدث بعد ذلك ماتعرفون، فلقد استُشهد الخال كما يفعل الرجال الحق فوق مدفعه (لم يجرِ ولم يلبد ولم يهرب). في مثل هذه الأيام من كل عام اتنسّم ذكراه، كان فيضا من الحنان والشهامة، كان بطلا بحق رحمة الله عليك ياخال.
فى الختمية عشت أجواء ذاك الانقلاب 1971 واليوم قادتني قدماي "صبحية" الثلاثين من يونيو 1989 الى ذات المكان الختمية حيث منزل جدّي محمود الشيخ الريح عم الشهيد محمد أحمد الريح. كانت الأوضاع عادية تخيّلت أن ابتهاجا سيجري بمناسبة سقوط نميري (قاتل) محمد أحمد الريح ولكن المنزل كان عاديا، غيّرت اتجاهي صوب الشارع الرئيسي فرأيت عربة أمامي مليئة بالجنود والضابط كانوا يبحثون عن منزل أحد القيادات، رأيت عجبا إذ وجدتُ أن من يقود المجموعة ويلبس لبس الضباط هو أحد كوادر الجبهة الديقراطية المشهورين في جامعة الخرطوم فاختلط عليّ الأمر، وحين اقتربت وأمعنت النظر هزّ رأسه وابتسم فلقد عرفني وعرفته، وتركني في حيرتي هذه ومضى!! ياربي الانقلاب ده بتاع الجبهتين (الجبهة الديمقراطية والجبهة الإسلامية) مع بعض حاجة تحيّر!!. بعد زمن طويل قابلته (عضو الجبهتين الانقلابي) فاستحلفني أن أترك هذا الأمر سرا للأبد فقد يُقتل إذا أفشيت هذه القصة، وها أنا أفعل!! ما عرفته أن هذا الرفيق كان (غوّاصة) للاتجاه الاسلامي داخل الجبهة الديمقراطية، وأظنه لازال كذاك داخل ذلك الحزب الشهير وخلّوها مستورة!!.
(3 )
غادرت الختمية الى نمرة 3 لمكاتب مجلة سنابل حيث كنت أعمل. كان غرضي أن أحمل ماخفّ وزنه وغلا ثمنه، واستنقذ بعضا من ثروتنا!!. أسّسنا هذه المجلة أنا والصديقان محمد محجوب هارون ودكتور خالد التجاني بعرق الجبين، رغما عن ذلك قالوا إنها "بتاعت" ناس الجبهة!!.
دخلت متسللا الى الداخل وإذا بي أسمع..... ثااااااااااااااااااابت!! ( قلبي انقطع) لاحول ولاقوة إلا بالله هل أنا بالقيادة العامة أم في دار المجلة. فعلا ثبتُّ وأنا (أرجف) ظهر واحد من العصبة المنقذة (مبسوط يافتحي الضو) في آخر الممر شاهرا سلاحه. علمت منه أن الدار تم الاستيلاء عليها بواسطة الثورة وغير مسموح بأخذ أي شيء حتى أغراضنا الشخصية... "مبروكة عليكم" قلت وتخارجت مسرعا!!. قبل يومين كنت في ضيافة السيد الصادق المهدي فقال لي إن الإنقاذ أخذت من دار الحزب حتى هواتف الاتصال، وقد طالب بإرجاعها ضمن أشياء أخرى، فتذكرت ممتلكاتنا التي صودرت ففكرت بالمطالبة بالتعويض "بالتراضي أيضا"!!
(4 )
غادرت نمرة (3) صوب منزلنا في امتداد ناصر إذ بلغ بي الجوع والتعب درجة لاتُحتمل. ثم إنني عرفت في الطريق أن بيان الانقلاب ستتم إذاعته بعد قليل.
(5 )
بعد زمن أكمل لي أحمد سليمان صورة بعض ماشهدت. قال إنه غادر المنزل فعلا بعد أن عرف من الطيّار قريب نعيمة زوجته أن انقلابا قد وقع يجهل هو هويته. قصد منزل الترابي فلم يجده فارتعب، وتأكد أن انقلاب الجبهة قد فشل، وأنه أمام انقلاب مختلف وقال: (فكرت أرجع البيت ولّا أتأهب للاعتقال ولكن خطرت لي فكرة أن أذهب الى قريبي الضابط -لا أعرف رتبته- الذي يسكن قريبا من منزل الترابي. عرفت لاحقا أن أحمد سليمان كان ينقل للترابي تقارير عن الأوضاع في الجيش من أصدقائه أهمهم كان هذا الضابط. الترابي لم ينسَ لقريب أحمد سليمان هذا الصنيع فكافأه بعدم تسريحه باكرا من الجيش, كثيرون كانوا مندهشين لفعل الترابي هذا لأنهم لم يكونوا يعلمون بأن للترابي مصادر معلومات متنوعة خارج أجهزة التنظيم الرسمية.
قال أحمد سليمان إنه وصل الى منزل الضابط المذكور وعرف منه أن الانقلاب قامت به الجبهة الإسلامية وحكى له قصص عن الذين اعتُقلوا من الضابط وكلهم مناوئين للجبهة ولكنه أضاف (لقد طلبوا مني البقاء في المنزل). خرج أحمد سليمان مبسوطا، فلقد كان رحمة الله عليه إذا لم يصنع الانقلاب يعرف روائحه ويسعد بتنسمها!!.
غادر أبوسلمون متسقطا الأخبار فعبر كبري برّي قاصدا منزل الرشيد الطاهر بكر لعل أحدا من الأصدقاء النافذين يأتي. اعتاد أبوسلمون لقاء الأصدقاء القدامى هناك، وخاصة حين تدلهم الأمور في البلاد. في الباب أدرك انه لايمكن أن يدخل في ذلك الصباح على أهل الدار بذلك العراقي الرهيف الذي كان يرتديه فطلب كرسيّا وجلس بالخارج بانتظار قادمين. في تلك الأثناء كانت العربات تعبر باتجاه سجن كوبر وهي ممتلئة بالمعتقلين فيزداد توهجا كلما رأى الوجوه المعلومة لديه بين يدي الانقلابيين وفي عرباتهم المصفحة، غير أنه انزعج حين شاهد مجموعة من قيادات الجبهة داخل إحدى العربات المتجهة لسجن كوبر!!.
(6)
جلست أمام التلفاز بعد ساعات منهكة قضيتها في التسكع في الشوارع منذ الساعات الأولى من الصباح (الغريبة أنني لم أقابل ود البلال في تلك الساعات ياترى أين كان؟). أطل العقيد عمر البشير من على الشاشة، كنت أسمع ولكن عيناي تسمرتا على الصورة التي أمامي، فهذا الاستديو الذي يتلو منه قائد الانقلاب بيانه كنت بداخله بالأمس، فهذا استديو منظمة الدعوة الإسلامية في الرياض، وبالأمس كنت أزور الصديق عوض جادين مدير الإعلام هناك!! يا إلهي كيف يذيع الانقلابيون بيانهم من هناك ويتركون الإذاعة والتلفزيون.؟. ياله من تخطيط ماكر وماهر. حكى عبد العزير أبارو أنهم كانوا في تلك الساعات ينتظرون قائد الانقلاب في استديوهات الإذاعة فإذا بأحدهم يُخرج من حقيبته شريطا به البيان الأول!!. انتهى