مصطفى سعيد لعنة الله عليك (2)

 


 

عادل الباز
28 February, 2009

 


عادل الباز
هكذا بدأ مصطفى سعيد، يطاردنى فى ازقة واحياء لندن. قررت ذات مساء، ان اتسكع «انصاص» الليالى فى شارع ادجوال رود، فى انتظار صديقى الشاعر الدبلوماسى، خالد فتح الرحمن . خالد شاعر يعشق ليالى لندن الموحية، وانا اهوى التسكع الليلى على ارصفة المدائن . التقينا انا وخالد وسرنا فى طرقات تلك المدينة العجيبة. لا أعرف اين نحن ولم يخطر ببالى ان اسأل. اخذنى الضحك والانس وذكريات قطبى وعبدالله حمدنا لله، (الذى لم افترِ عليه حتى الآن ولكنى سافعل)، و ذكريات وضحكات ونكات مصطفى البطل وعبد العزيز الهندى، وفوزي بشرى وفيصل الباقر، تتردد فى تلك الاجواء ونحن نمضى دون ان ادرى الى اين . قطعنا مسافات، فجأة قال لى خالد: هذه هى محكمة( الاولد بيلى) الاتذكرها؟. قلت لعنة الله عليك مصطفى سعيد، لماذا تهبط علىّ فى مثل هذه الاوقات .
الاولد بيلى، هى المحكمة التى شهدت محاكمات مصطفى سعيد لاتهامه بقتل جين مورس، وآن همند ومسز روبنسون.لقد اعترف مصطفى سعيد، بكل افعاله ولكن القضاة تعاطفوا معه، فقرروا سجنه سبع سنوات فقط. تذكرت كل شئ فى المحكمة، تذكرت كل شيىء وانا اتأمل مبنى عتيقا لايزال صامدا كأن بناءه اكتمل بالامس .
فى جامعة لندن، حيث درس مصطفى سعيد الاقتصاد، كنت يوميا اسرح وانا فى المكتبة وقاعات الدرس مع اطياف مصطفى سعيد ، لابد ان مصطفى سعيد كان طالبا واستاذا فى احدى هذه القاعات ، لابد ان مصطفى سعيد قد اصطاد آن همند على ضفاف هذه الكافتريا .اين وجد مصطفى سعيد وقتا لهذا العبث الذى اهدر فيه طاقاته العبقرية ؟. يكاد الزمن الذى نعمل فيه من الساعة التاسعة صباحا وحتى الخامسة مساءً لايكفى حتى لقراءة الصفحات الاولى من الصحف.
فى المحاضرة الاولى التى قدمتها فى جامعة لندن، واجهت جملة من الاكاذيب حول مايجرى فى دارفور. قالوا ان الحكومة العربية الاسلامية فى الشمال ابادت الافارقة باعتبار ان الصراع فى دارفور بين عرب وافارقة. فسألت احد المتداخلين فى الندوة عن المناطق التى يسكنها الافارقة فى السودان، فقال فى جنوب وغرب السودان، فقلت اذا قررت الحكومة العربية فى الشمال ابادة الافارقة فى السودان، لماذا توقع اتفاقا مع الافارقة المسيحيين فى الجنوب، وتذهب لتبيد الافارقة المسلمين فى الغرب؟ اليست هذه مفارقة؟ ثم ان بالخرطوم ثلاثة ملايين افريقى، فإذا كان هناك قرار بإبادة الافارقة، فلماذ تذهب الحكومة الى اقصى الغرب وبين ظهرانيها ثلاثة ملايين؟ .
حينما غادردت ردهات الجامعة، تذكرت الاكاذيب التى كان يؤلفها مصطفى سعيد حول الشرق، ويبثها بين ضحاياه، موقناً بأن من يتحدث اليهم جهلة بأوضاع واقدار العالم . يبدو ان مسيرة جهل الغرب، حتى طلبة العلم بأوضاع الشرق لاتزال متصلة .
لم يكن فى مخططى ولاحتى فى احلامى ان اقف يوما محاضرا فى جامعة اكسفورد . ولكنْ للزمن تصاريف واقدار لايدرك المرء كنهها . بعد يوم واحد من محاضرة جامعة لندن، اخبرتنى مديرة البرنامج بأن هناك رغبة من مجموعة من طلبة واساتذة جامعة اكسفورد للاستماع لوجهة نظرى حول الطريقة التى تعامل بها الاعلام فى السودان مع ازمة دارفور. رفضت الطلب اول مرة، معتذرا بأن لغتى الانجليزية المكسرة لاتمكننى من مخاطبة طلبة واساتذة جامعة اكسفورد، و رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه .امام الحاح الادارة واصرار زملائى فى الكورس، وبلاشك لحاجة فى نفسى، وافقت على تلبية الدعوة بشرط ان يكون معى آخرون للدعم والمساندة.
فى الطريق الى اكسفورد، اطل مصطفى سعيد . تذكرت تلك السفسطة التى كان يهذى بها لطلبته فى اكسفورد حول المدارس الاقتصادية . لقد قرر مصطفى سعيد مع سبق الاصرار والترصد، افساد اية لحظة يمكن ان استمتع بها فى لندن، و ذلك ليس غريبا عليه، فقد افسد من قبل حيوات اناس كثر، لعنة الله عليه .
كان اول ضحاياه راوى الرواية نفسه . لقد جعل من الراوى مجرد آلة تسجيل لحياته المضطربة . واصبح الراوى فريسة لخيالات واوهام مصطفى سعيد مثلى تماما، فلقد اصبحت اسيراً لتاريخ وحياة مصطفى سعيد فى لندن. فى اكسفورد، قبل بداية المحاضرة دعانى الزعيم الجنوبى، السيد بونا ملوال، الى غداء وجولة فى اكسفورد . بونا سودانى بمعنى هذه الكلمة، ضحكنا وتآنسنا كأن بيننا صداقة عشرات السنوات . كان سعيدا بوجودى فى اكسفورد. اخذنى الى مكتبه واصر على حضور المحاضرة ودعا اخرين فجاءوا .اثناء تجوالنا فى شوارع المدينة الجميلة، عمل بونا كدليل سياحى لى . لقد تعرفت على المدينة بشكل افضل . قال لى سيد بونا: فى هذه الكلية تخرجت تاتشر، وفى هذه درس رئيس وزراء بريطانيا السيد تونى بلير . وهكذا ظل يعرفنى بأسماء الاماكن والناس. بلامناسبة، وجدت نفسى اسأل واين عاش مصطفى سعيد ؟ . لحسن الحظ، لم يسمعنى بونا جيدا . وتخارجت من السؤال بسرعة.
هكذا احاط بى مصطفى سعيد حتى اننى خفت على نفسى منه لمعرفتى بطبيعة شخصيته العدوانية . مصطفى سعيد، ما اقترب من شخصية إلا احال حياتها لمأساة. حتى بعد ان اختفى من الدنيا احال حياة حسنة بت محمود الى مأساة . لاول مرة فى القرية تقتل امرأة زوجها وهو على فراش العرس . لقد كان ود الريس ضحية لمصطفى سعيد دون ادنى شك.
زهجت من المحاضرات ومطاردة مصطفى سعيد، فقررت ان اهرب بنفسى من هذه الاجواء . اخذت القطار لماربل اراش، ومنها لسينما اديون، لمشاهدة فِلم AVAITOR .
الفلم يحكى عن شخصية صنعت تاريخ الطيران فى العالم .عبارة جميلة جذبتنى للفلم تقول (هنالك رجال يحلمون بالمستقبل، هو صنعه)
(Some men dream the future.He made it). الشخصية الرئيسة شخصية مغامرة، اصرت على ارتياد آفاق السماء وفعلت ذلك فى النهاية. الفتاة التى احبته لسنوات تركته قائلة له ( انت رجل ذو عقل كبير ولكنك بلاقلب ). قلبت لي هذه العبارة الفلم رأسا على عقب، اذ انها تحديدا قيلت لمصطفى سعيد اكثر من مرة، بل اصبحت علامة له . قالتها له فى القاهرة مدام روبنسون، وقيلت له اثناء المحاكمات، وقالتها له احدى الضحايا لا أذكر من هى .بدأت اتابع افعال بطل الفلم . مصطفى نفسه او يخلق من الشبه اربعين . لقد افسد علىّ مصطفى سعيد الفلم كما افسد علىّ ايامى فى لندن. قاتله الله .
نواصل

 

آراء