مصطفى سعيد لعنة الله عليك (3)
عادل الباز
28 February, 2009
28 February, 2009
عادل الباز
في لندن التقيت أول مرة في حياتي بأستاذنا الكبير، محمد الحسن أحمد صاحب التحليل السياسي العميق الذي كان يكتبه في صحيفته الأضواء. كان مقال الأستاذ مدرسة تعلمنا ولازلنا نتعلم منها طرائق التناول الموضوعي والتفكير المستقيم. لم يحصل لي شرف الالتقاء بالاستاذ طيلة فترة بقائه بالسودان. لاول مرة التقيه رأيته داخل استوديوهات قناة المستقله الفضائية. استضافني د. الهاشمي الحامدي، ومعي الصديق المحبوب عبد السلام والاستاذ محمد الحسن. فقلت للأستاذ إني مدين له بالكثير من دون أن تنشأ صلة مباشرة بيننا . قال لي انه متابع تجربة الصحافة وإنه يعرفني من خلال كتابات كثيرة. اعتبرت ذلك مجاملة تقتضيها ظروف مثل هذه اللقاءات وعادات السودانيين. حاول الأخ الهاشمي في اللقاء طرح مواضيع الافتاء فيها يمكن أن يدخلك جهنم وليس السجن إذا ماعدت للسودان . وبما اني عائد لوطني، فلقد كنت حريفا بشهادة الأخ المحبوب. بعد أن غادرنا الفضائية قلت للمحبوب (ياخوي إنت مطلوب بالانتربول ومستمتع بأجواء لندن الباردة دي تقول على كيفك. أما أنا فصحيفة جرائمي الموجهة ضد الدولة في الداخل كادت تمتلىء، وليست لدي أدنى رغبة في إضافة جرائم خارجية).
بعد يومين، اتصل بي الاخ المحبوب قائلا إن الاستاذ محمد الحسن يدعوني لغداء. قلت للمحبوب رغم أنني منذ أن جئت الى لندن اعتذرت عن كثير من الدعوات، ولكن دعوة الاستاذ لاترد، خاصة أن المقعد الذي أنا عليه (رئاسة تحرير الصحافة) قد بنى في صرحه طوابق. وإني حين أتذكر أن هذا المقعد جلس عيه الاساتذة محمد الحسن وفضل الله محمد وكمال حسن بخيت ونور الدين مدني، ومن قبل أستاذنا عبد الرحمن مختار طيب الله ثراه، فحين أتذكر هؤلاء العظام الذين أنا دونهم معرفة وتجربة وخبرة وعلما, حين أتذكر ذلك يصيبني نوع من القشعريرة، . المهم اتفقنا أنا والمحبوب على اللقاء في اكسفورد استريت، وذهبنا سويا الى حيث الدعوة. تواصل بيننا نقاش ممتد حول السياسية السودانية والآفاق الممكنة وموقف حزب المؤتمر الشعبي من مجمل الأوضاع. اختلفنا كثيرا واتفقنا ولكن رغم كل الخلاف كان المحبوب هو ذلك الأخ والصديق الذي عرفت. منذ أكثر من عشرين عاما، مثقفا من طراز فريد، يتفق معك أو يخلتف، لكنه لايتخذ منك موقفا عدائيا مثل بقية المهووسين الذين ابتلى بهم الله الحركة الاسلامية آخر الزمن. المحبوب وتلك الثلة الماجدة التي التقيناها في ساحات الحركة الاسلامية أواخر السعبنيات، ربتهم الحركة الاسلامية في منابر الحوار والثقافة, ربتهم على التسامح واحترام الآخر ودعوته بالتي هي أحسن . ولكن الذين هجموا على الحركة الاسلامية في أواخر الليل، أحالوها بضيق أفقهم وصدورهم لاشلاء تبحث عن نفسها فلا تجد. المعتاشون الجدد الذين وفدوا على الحركة من الاقبية المظلمة
مستوحشون بطبعهم, للأسف النظام الذي أرهف السمع لغثائهم .
في كورنر خلف شارع اكسفورد استريت، يقع مطعم تركي غاية في الاناقة تصميمة غاليري أكثر منه مطعم. وصلنا أنا والمحبوب ووجدنا الاستاذ محمد الحسن في انتظارنا. ونحن في انتظار الشواءات، قال لي الاستاذ محمد الحسن إنهم ذاهبون الى الخرطوم في أواخر شهر أبريل. فقلت له من معكم في الوفد؟. قال لي الطيب صالح وآخرون عدّدهم. في هذه اللحظة، أصابني توتر ما، من ذكر مؤلف شخصية مصطفي سعيد ! حاولت أن اتخارج من الجو بسرعة حتى لا يفسد علي مصطفى سعيد ومؤلفه هذا الغداء الذي تهيأت له تماما في هذا البرد القارس. حاولت ان احول الحديث لمنحى اخر، فأشرت الى بعض اللوحات في المطعم معلقا (هذا مطعم للفنانين بلاشك). قال الأخ المحبوب متداخلا أن هذا المطعم هو المكان الاثير للطيب صالح. عرفت أن الطيب صالح كان منذ أن قدم للندن، يرتاد هذا المكان. ياإلهى، إذن قد يكون هذا المكان تحديدا قد شهد ولادة مصطفى سعيد، قد يكون المؤلف أكمل بناء الشخصية هنا. هنا مسقط رأس مصطفى سعيد. لعنة الله عليه. كيف لم أنتبه الى أن أستاذنا محمد الحسن، هو صديق قديم لمؤلف مصطفى سعيد. لماذا يدعوني الاستاذ أحمد الى هذا المكان بالذات، وهو يعلم أن المدعو سعيد، قد ولد هنا وهو الذي يطاردني منذ اول يوم وطأت فيه أقدامي أرض لندن. للحظات خيل لي أن مصطفى سعيد أو مؤلفه سيطل ليفسد هذا الغداء البديع. الحمد الله، بعد لحظات عرفت أن الطيب صالح خارج بريطانيا وإلا لكان برفقتنا الآن. رغم شوقي للقاء الاستاذ الطيب، إلا أنني لم أكن على استعداد في هذه الايام لمقابلة أي شخص له علاقة بالمدعو مصطفى سعيد.
تآنسنا وضحكنا وقهقهنا واستمتعنا بالاكل، وهذه هي المرة الوحيدة التي أشعر فيها انني انتصرت على مصطفى سعيد. يبدو أن متعة الانس والجوع قد صرفا عني مصطفى سعيد الى حين . في الطريق سألت المحبوب ما إذا كانت الحكومة السودانية تراقب تحركات الزائرين للندن. قال لماذا؟. قلت بالامس كنت مع بونا ملوال واليوم معكم وغدا سأذهب أنا والصديق محمد جلال هاشم للأستاذ الشاعر فضيلي جماع، وبالامس كنت مع حسن حمراي, ثم انني التقيت توني بلير، من ورائهم وهذه كلها تهم يمكن أن تشكل جرائم موجهة ضد الدولة. ضحك المحبوب وافترقنا.
حذرني أكثر من صديق من مُبَاراة المثقفين، ولكني لم أكترث. جاء محمد جلال في مواعيده تماما. محمد الآن يحضر للدكتوراة في اكسفورد. قال لي محمد انه يعرف الطريق لمنزل فضيلي تماما، وأخذ الخريطة وانطلقنا وياليتنا لم نفعل. حُمنا لندن حارة حارة، ومحمد يقسم أنه يعرف المنزل دُخْنا ستين دوخة. المشوار لبيت الاستاذ فضيلي استغرق من الزمن بالضبط نفس الزمن من الخرطوم لأديس أبابا. جمعني بالشاعر فضيلي الأدب. عرفت فضيلي الشاعر قبل الانسان ولوقت قريب كنت أسأل الشاعر عالم عباس عنه. كان عالم عباس وفضيلي جماع وإبراهيم إسحق ولازالوا رموزا سامقة في الشعر والقصة .
المهم، وصلنا أخيرا لمنزل الاستاذ فضيلي ولم أستطع أن أحكي مادار في الطريق بسبب أنني سأرجع مع هذا النوبي، الذي يريد أن يتمرد هو الآخر، وكأننا ناقصين متمردين. العشاء فاخر. كان كرما كردفانيا صرفا، مطبوخا على الاصول التي أخذتها مدام فضيلي الفاضلة كابر عن كابر، الشئ الذي جعلني ألعن ماكدونالد التي أصابتني ساندوتشاتها بتورم في الكبد من شدة جفافها. لا أعرف كيف يعيش هؤلاء الانجليز من دون كسرة وويكة وأم رقيقة؟. انتهينا من كل ذلك بسلام وجلسنا بمزاج للأنس. سألت الاستاذ فضيلي الذي يحضر للدكتوارة الآن في جامعة لندن، عن موضوع بحثه كبداية لحديثنا، وليتني لم أفعل. قال لي أحضّر في الأدب المقارن، وبدأ يشرح فقال لي مثلا أدب الطيب صالح وشخصياته مقارنة مع روايات وشخصيات عالمية أخرى، وقال (لاشك أن مصطفى سعيد كشخصية أساسية.......) منذ أن طرق أذني اسم المتعوس مصطفى سعيد لم أعد أسمع شيئا مما يقولة فضيلي. أخذني نوع من الدوار . لقد قرر مصطفى سعيد أن يغتالني بلاشك كما فعل مع جميع ضحاياه. مصطفى سعيد سلاحه الأساس للقتل هو المطاردة. وهاهو يفعل، يطاردني بلاهوادة عليه اللعنة .
نواصل.