مصطلح السامية: النشأة والإشكاليات والمستقبل
محمود عثمان رزق
4 May, 2024
4 May, 2024
محمود عثمان رزق
05/03/2024
مفهوم الشعوب السامية مفهوم قديم ظهر بعد إعادة كتابة التوراة التي جاء فيها أن تلك الشعوب او تلك القبائل تنسب إلى سام بن نوح عليه السلام وفقاً لسفر التكوين، ويقصد بالساميين بصورة أساسية الشعوب الساكنة في شبه الجزيرة العربية، كالعراق والاردن وسوريا ولبنان وفلسطين، وأضاف لهم علماء التاريخ الإسلامي الفرس والروم وهي شعوب تسكن خارج الجزيرة العربية. ومصطلح السامية كما هو واضح خبر توراتي بامتياز لا أصل له في القرآن الكريم ولا الإنجيل بالرغم من اتفاق هذه الأديان الثلاثة على مسألة الطوفان مع اختلاف علمائها حول تفاصيله.
وفي الحقيقة لم تنزل الكتب السماوية لتكون سجلاً لأسماء المواليد والأسر والأنساب والقبائل. فالأسماء التي ذكرت فيها مثل أسماء الأنبياء والطغاة ذكرت لضرورة قصوى لتوثيق قصص تاريخية متعلقة بقبول ورفض الرسل والرسالات وما يتبعها من صراع بين الحق والباطل، ولم يذكر أي اسم -إن كان اسم شخص أو قبيلة أو أمة - لغير هذا السبب.
ولهذا السبب نقول: إن خبر قصة أبناء نوح وأسمائهم وأسماء القبائل التي تنتسب لهم هو خبر لا إجماع عليه حتى بين الكتب الثلاثة والملل الثلاثة. وورود أسماء قبائل وأشخاص بهذه الكثافة في سفر التكوين دليل واضح على أنّها إضافة للأصل المفقود وليس منه، والدليل على ذلك أن هذه الأسماء وتلك القبائل غند فحصها لا تجد لها علاقة بموضوع الرسالة الموسوية في حد ذاتها، وبالتالي هي حشو لا فائدة منه، وتعالى الله عن الحشو واللغو علواً كبيرا. وسفر التكوين بالذات عليه كثير من الإنتقادات والملاحظات العلمية لأنّه يذكر أخباراً وحوادث حدثت بعد وفاة موسى بقرون وهذا شيء عجاب!. وعلى كلٍ، هناك خلاف كبير جداً في تفاصيل الطوفان بين علماء الأديان الثلاثة، فمنهم من قال كان في منطقة بعينها ولقوم بعينهم هم قوم نوح، ومنهم من قال شمل الطوفان كل الأرض وكل الأجناس؟ ولا أحد يدري الحقيقة.
فإذن خبر أن الشعوب البشرية انبثقت من أبناء نوح الثلاثة وانقسمت الى سامية وحامية ويافثية، هو خبر إنفرد به سفر التكوين في التوراة التي كُتبت بعد إنقضاء فترة السبي البابلي، وهي الفترة التي فقد فيها اليهود النسخة الأصلية من التوراة ثم عاود أحبارهم كتابتها من ذاكرتهم ومن بعض كُراساتهم وقُصاصاتِهم. وهذا الخبر من حيث هو خبر يخضع -وفقاً لقوانين حرية الرأي القانونية والدستورية- للفحص العلمي الأكاديمي لإثباته ومن ثمّ تأييده والبناء عليه، أو تفنيده ومن ثمّ رفضه وهدم كل ما يبنى عليه.
أما مصطلح "معاداة السامية" هو مصطلح أوروبي حديث إنبثق كرد فعل لكراهية ومناهضة شعوب أوروبا الغربية المسيحية في القرن التاسع عشر لليهود. وتعود أصول معاداة المجتمعات المسيحية لليهود الساميين لقصة صلب المسيح عليه السلام واضطهاد تلاميذه وفقاً لمعتقداتهم، ويستند المسيحيون في ذلك على إعتراف اليهود التاريخي أثناء محاكمته بقولهم: «دمه علينا وعلى أولادنا» مما يدل على قتلهم له. وفي الحقيقة اتهم المسيحيون اليهود بتهم كثيرة وتاريخية بعضها قديم والآخر حديث أكبرها محاولة الصلب كما ذكرنا. وبسبب هذه التهم تحرك اليمين الديني المتطرف في أورويا بطردهم من معظم دول أوروبا الغربية إلى دول شرق ووسط أوروبا وبعض بلاد المسلمين والعرب، كالمغرب واليمن وفلسطين وغيرها. ومن الغريب أن نفس اليمين المتطرف الذي طردهم بالأمس هو من يدافع عنهم اليوم!!
وبصورة أكثر دقة نقول قد ظهر المصطلح لأول مرة في ألمانيا في عام 1860 على لسان العالم اليهودي النمساوي المستشرق/ مورتيتز ستاينشنايدر عندما إجتاحت أوروبا عامة وألمانيا خاصة موجة عنيفة من الكراهية لليهود تستند على نظريات عنصرية تدعي العلمية لعبت دوراً هاماً في السياسات التي أدت لحروب ومذابح أوروبية عنيفة. وقد كان الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان أحد قادة هذه الحملات العرقية عندما صرح بنظريته التي تقول بتفوق الجنس الأري الأوربي على الأجناس السامية وغيرها من الأجناس في أنحاء المعمورة. كما قام أيضاً المؤرخ الألماني هنريك فون تريتشك بجهود كبيرة لتعزيز هذا المفهوم العنصريّ، فصاغ عبارة «اليهود هم مصيبتنا» التي اُسْتُخْدِمَها النازيون لاحقاً للتخلص من اليهود في المحرقة المعروفة..
وعندما وصل الحزب النازي للسلطة في عام 1933، قاد مقاطعة معادية لليهود وأمر بحرق كتبهم وسنّ قوانيناً معادية لهم ضيقت عليهم حلقة الحياة في ألمانيا. وفي عام 1935 شرعت النازية قوانين جديدة تحدد اليهود وفقاً لمفهوم الدم والعرق لتسهيل حصرهم ومن ثمّ فصلهم من الجنس «الآري» وبهذا تمّ تقننين مفهوم التفاضل العنصري في البلاد. وفي عام 1938، قام النازيون بحملة عنيفة ضد اليهود دمرت معابدهم ومتاجرهم وممتلكاتهم في كلٍ من ألمانيا والنمسا، وكانت تلك الحوادث العنيفة الإرهابية بداية الطريق للإبادة الجماعية وأصبحت معاداة السامية اليهودية شغل النازيين الشاغل.
و"على الرغم من أنّ المصطلح لم يكن مستخدماً بشكلٍ شائعٍ حتّى القرن التاسع عشر، إلّا أنّه ينطبق أيضًا على الحوادث التاريخية المعادية لليهود )بأثر رجعي(. ومن الأمثلة البارزة على الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود مجازر راينلاند التي سبقت الحملة الصليبية الأولى عام 1096، ومرسوم الطرد من إنجلترا عام 1290، ومذابح اليهود الإسبان عام 1391، وملاحقات محاكم التفتيش الإسبانية، وطردهم من إسبانيا عام 1492، ومجازر القوزاق في أوكرانيا من 1648 إلى 1657، ومذابح اليهود العديدة في الإمبراطورية الروسية بين عامي 1821 و 1906، وقضيّة دريفوس 1894-1906 في فرنسا، والمحرقة في أوروبا التي كانت خلال الحرب العالمية الثانية، والسياسات السوفيتية المعادية لليهود" { راجع قوقل}
وللأسف أصبحت النظريات العنصرية حول الإستعلاء العرقي والحضاري منتشرة على نطاق واسع جداً في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أضفى إليها الحزب النازي الذي أسسه هتلر عام 1919، بعدًا سياسيًا شجع الألمان على إخراج اليهود من ألمانيا بعد أن اتهمتهم "حركة الوحدة الألمانية" بأنهم أجانب غير ألمان يجب الحذر منهم. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، شكلت الأحزاب السياسية الأوربية التي نزعت نحو فكرة القومية الحديثة خاصة في ألمانيا وفرنسا والنمسا دورًا قويًا في ظهور معاداة السامية السياسية، حيث اتهم أعضاؤها اليهود بأنهم مواطنون غير مخلصين لأوطانهم، وذلك بعد نشر بروتوكولات حكماء صهيون التي عكست حجم المؤامرة اليهودية الدولية عليهم كما يقولون.
وحتى ثورة الإصلاح الديني البروتستانتي التي قادها مارتن لوثر قد فشلت في تغير وضعهم " تغيراً كبيراً في ظروف المعيشة لليهود في البداية. وفي بدايتها، اخذ مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية الرومانية اضطهاد اليهود، وكان يتمنى في الحقيقة تحويلهم إلى المسيحية لكنه فشل في ذلك فطلب من الأمراء طردهم. ونشر لوثر في1543 كتيب باسم “Von den Juden und ihren Lügen” والذي يحتوى على افتراءات العصور الوسطى ويدعو بوضوح لاستخدام العنف ضد اليهود واحراق معابدهم. فقامت فورتمبيرغ في 1551 وبراندنبورغ في 1573ودوقية براونشفايغ لونيبورغ في 1590 بطرد اليهود خارج اراضيهم. وفي نهاية القرن السادس عشر، لم يكن موجود في ألمانيا إلا ثلاثة مجتمعات كبيرة وهي "فرس" و"فورمز" التي يعيش بها 14000 يهودى وفرانكفورت" )قوقل(
وهكذا ظل اليهود يعيشون في ألمانيا تحت لوائح استبدادية وفرض ضرائب مختلفة وإصدار تشريعات قانونية لتقليص عدد الزيجات بينهم لتجنب الزيادة في عددهم. وفي العموم قد تسببت هذه النظريات العنصرية لليهود في مذابح وسجون ومضايقات شردتهم في جميع أنحاء العالم مما جعلهم يتزاوجون مع أهلها وبالتالي اختلطت دمائهم، فأصبح منهم الساميون السود كيهود الحبشة، والساميون البيض كيهود أوروبا، والساميون القمحيين كيهود الشرق الأوسط، وبالتالي زال عنهم النقاء العنصري القديم، وزال تشابه الملامح الذي كان يجمعهم وكان يجمع غيرهم. فالآن الفحص الجيني العلمي )ال DNA ( سيثبت لهم أصولاً غير سامية بلا أدنى شك، وسيكون لهم من الدم الحامي نصيب الأسد وكفى بيهود الحبشة دليلاً على صحة وجود الدم الحامي فيهم وهي حقيقة علمية لا يمكن إنكارها.
وهناك كثير من شعوب الشرق الأوسط تدعي أصولاً سامية )خوضاً مع الخائضين من غير دليل( منهم العرب والآشوريين والفينيقين والآرميين والفرس. وهذا يعني أنّ هناك ساميون يهود وساميون مسلمون وغير مسلمين، إلا أن المصطلح من الناحية السياسية التاريخية التوراتية احتكره اليهود فقط دون غيرهم، وهذا أمر يستدعي دراسة قانونية مُحكَمة تعيد إدخال هذه الشعوب مرة أخرى في المصطلح الواسع لينتفع من منافعه الجميع بالرغم من عدم ثبوته علمياً. فقد أصبح المصطلح يَستخدم بشكلٍ مرادف لكلمة «يهودي»، ثم أصبح حكراً تستخدمه الصهيونية لحماية مصالحها السياسية فقط، وليس مصطلحاً يسع مصالح مجموعة كاملة من الشعوب التي تدعي الأصول السامية التي لا تدين بالديانة البهودية.
ولقد أدى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين وما تبعها من تشريد ومجازر وفظائع بحق الفلسطينين الى انتشار العداء الشديد للصهيونية تحديداً في الدول العربية والإسلامية، والعداء في العالمين العربي والإسلامي ليس لليهودية كدين ولا للسامية كعرق، لأن الشعب الفلسطيني نفسه يدعي السامية ويقبل مبدأ تقسيم الأرض مع اليهود. وليس العرب وحدهم في هذا الخندق، بل هناك يهود ضد الصهيونية أيضاً وضد قيام إسرائيل من الأساس، وهذه الضدية مبنية عندهم على مبدأ ديني وليس سياسي، فلا يعقل أتهام هؤلاء بأنهم ضد اليهودية أو السامية وهم ببساطة يهود وساميون كابراً عن كابر. فالناس ببساطة ضد الظلم إن جاء من صهيوني أو يهودي أو مسيحي أو مسلم أو ملحد أو أبيض أو أسود ولا مجال لتحريف الكلم عن مواضعه واللف والدوران فهذا عهد قد انتهى في التاريخ الإنساني.
الإشكاليات التي تواجه مصطلح "الساميون":
مصطلح "الساميون" ليس لديه أي تفسير علمي ولا جذور علمية مادية تاريخية وإنما هو خبر جاءت به التوراة حصرياً وهو قابل للتفنيد والتشكيك في صحته من الناحية البحثية العلمية الأكاديمية.
بما أننا لا نجد سنداً علميا لمفهوم مصطلح الساميين او الحاميين أو اليافثيين، يمكننا فقط الحديث عن شعوب كثيرة تتكلم لغات متشابهة ومتقاربة من بعضها بعضاً، ومنها ما يسمى باللغات السامية. هذه المجموعات اللغوية موجودة فعلاً وحقيقة علمية وواقعية لا يمكن إنكارها، ولكن الشعوب التي تتكلم لغات مشتركة أو متقاربة قد تكون مختلفة تماماً وغير متجانسة عرقياً بدرجة عميقة وحادة. فمثلاً، بعض الشعوب التي تتكلم الفرنسية في أفريقيا ليس لديها صلة دم أو مورثات ثقافية أو تاريخية مشتركة مع الفرنسيين في أوروبا، فقد فرضت هذه اللغة الأوربية بالقوة عن طريق الإستعمار. وعليه، ليس كل من تكلم لغة سامية هو من أصل سامي بالضرورة، وهذه المعادلة تنطبق على اليهود كما تنطبق على غيرهم.
من لا يؤمن بالديانات السماوية أو كان ملحداً لا يمكن إلزامه بأي وجه من الوجوه بخبر جاء في التوراة أو القرآن أو الإنجيل لا يسنده سند علمي مادي غير قابل للتفنيد.
أيضاً لا يمكن إلزام المسلمين بهذا الخبر التوراتي الذي يقسم الشعوب لساميين وحاميين ويافثيين. وفي الحقيقة، القرآن الكريم لم يذكر شيئاً من ذلك بالرغم من ذكره لحادثة الطوفان. وكما أن القرآن لا يلزم اليهود، فكذلك ليس كل أخبار التوراة وتفاصيلها ملزمة للمسلمين والمسيحيين وإن كان بين الجميع مشتركات دينية كما هو معروف.
إدانة الجرائم أو السياسات التي يرتكبها عنصر من العناصر أو أصحاب دين من الديانات لا يمكن ولا يعقل أن تفسر أنها ضد ذلك العنصر أو تلك الطائفة أو ذلك الدين، وإلا سوف ندعم إفلات كل مجرم من المحاكم والعقاب بدعوى ورقة العنصرية.
قوانين معادات السامية إنكشف عوراها عندما خرج يهود في نيويورك وبريطنيا وغيرها من الأماكن يساندون القضية الفلسطينية ويعارضون دولة إسرائيل. فهل هؤلاء أيضا ضد السامية وضد اليهود؟؟؟
مستقبل المصطلح وما يتبعه من قوانين:
ليس هناك مستقبل لمصطلح السامية ولا للقوانين التي تتبعه لعدة أساباب هي الآتي:
أولاً، تنفيذ حل الدولتين إذا قبلت به إسرائيل سينهي الصراع الى الأبد وسينهي معه الحاجة لهذا المصطلح وما يتبعه من قوانين.
ثانياً، الدراسات العلمية التي تنفي علمية المصطلح بطريقة لا يتطرق لها الشك سيقود للكفر به ومحاصرته وتلاشيه تدريجياً.
ثالثا، إختلاط الدماء والألوان المختلفة بسبب الزيجات سيقلص من هذا المفهوم وسيضعف حجة المدعي صاحب الدماء المختلطة.
رابعاً، فحوصات ال DNA ستضغف من حجة الذين يدّعون النقاء العرقي.
خامساً، أي حملة مستقبلية ضد قوانين العداء للساميين قد تؤدي لإلغاءها وبالتالي تبديد المصطلح.
سادساً، تشبع الأجيال الحديثة بفكرة حقوق الإنسان ستشكل تحدياً كبيراً لهذا المفهوم وما يتبعه من قوانين.
سابعأً، ضعف اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا وأوروبا سيضعف المفهوم وما يتبعه من قوانين.
ثامناً، تخرج دفعات من القضاة والمحامين من أبناء المسلمين وغيرهم في الدول الغربية سيخلق تحدياً عدلياً للمفهوم وما يتبعه من قوانين.
تاسعاً، وصول أجيال من أبناء المسلمين للبرلمانات التشريعية في كل من أمريكا وأوروبا سوف تضعف من المفهوم وما يتبعه من قوانين وسياسات.
إذن المسألة مسالة وقت لنرى فيه بلورة هذه التغيرات المفاهيمية والقانونية على أرض الواقع، في الوقت الذي سنرى فيه التمسك بمدأ حقوق الإنسان ووحدة الإنسانية ورفض المظالم يتسع ويزداد قوة يوماً بعد يوم.
morizig@hotmail.com
05/03/2024
مفهوم الشعوب السامية مفهوم قديم ظهر بعد إعادة كتابة التوراة التي جاء فيها أن تلك الشعوب او تلك القبائل تنسب إلى سام بن نوح عليه السلام وفقاً لسفر التكوين، ويقصد بالساميين بصورة أساسية الشعوب الساكنة في شبه الجزيرة العربية، كالعراق والاردن وسوريا ولبنان وفلسطين، وأضاف لهم علماء التاريخ الإسلامي الفرس والروم وهي شعوب تسكن خارج الجزيرة العربية. ومصطلح السامية كما هو واضح خبر توراتي بامتياز لا أصل له في القرآن الكريم ولا الإنجيل بالرغم من اتفاق هذه الأديان الثلاثة على مسألة الطوفان مع اختلاف علمائها حول تفاصيله.
وفي الحقيقة لم تنزل الكتب السماوية لتكون سجلاً لأسماء المواليد والأسر والأنساب والقبائل. فالأسماء التي ذكرت فيها مثل أسماء الأنبياء والطغاة ذكرت لضرورة قصوى لتوثيق قصص تاريخية متعلقة بقبول ورفض الرسل والرسالات وما يتبعها من صراع بين الحق والباطل، ولم يذكر أي اسم -إن كان اسم شخص أو قبيلة أو أمة - لغير هذا السبب.
ولهذا السبب نقول: إن خبر قصة أبناء نوح وأسمائهم وأسماء القبائل التي تنتسب لهم هو خبر لا إجماع عليه حتى بين الكتب الثلاثة والملل الثلاثة. وورود أسماء قبائل وأشخاص بهذه الكثافة في سفر التكوين دليل واضح على أنّها إضافة للأصل المفقود وليس منه، والدليل على ذلك أن هذه الأسماء وتلك القبائل غند فحصها لا تجد لها علاقة بموضوع الرسالة الموسوية في حد ذاتها، وبالتالي هي حشو لا فائدة منه، وتعالى الله عن الحشو واللغو علواً كبيرا. وسفر التكوين بالذات عليه كثير من الإنتقادات والملاحظات العلمية لأنّه يذكر أخباراً وحوادث حدثت بعد وفاة موسى بقرون وهذا شيء عجاب!. وعلى كلٍ، هناك خلاف كبير جداً في تفاصيل الطوفان بين علماء الأديان الثلاثة، فمنهم من قال كان في منطقة بعينها ولقوم بعينهم هم قوم نوح، ومنهم من قال شمل الطوفان كل الأرض وكل الأجناس؟ ولا أحد يدري الحقيقة.
فإذن خبر أن الشعوب البشرية انبثقت من أبناء نوح الثلاثة وانقسمت الى سامية وحامية ويافثية، هو خبر إنفرد به سفر التكوين في التوراة التي كُتبت بعد إنقضاء فترة السبي البابلي، وهي الفترة التي فقد فيها اليهود النسخة الأصلية من التوراة ثم عاود أحبارهم كتابتها من ذاكرتهم ومن بعض كُراساتهم وقُصاصاتِهم. وهذا الخبر من حيث هو خبر يخضع -وفقاً لقوانين حرية الرأي القانونية والدستورية- للفحص العلمي الأكاديمي لإثباته ومن ثمّ تأييده والبناء عليه، أو تفنيده ومن ثمّ رفضه وهدم كل ما يبنى عليه.
أما مصطلح "معاداة السامية" هو مصطلح أوروبي حديث إنبثق كرد فعل لكراهية ومناهضة شعوب أوروبا الغربية المسيحية في القرن التاسع عشر لليهود. وتعود أصول معاداة المجتمعات المسيحية لليهود الساميين لقصة صلب المسيح عليه السلام واضطهاد تلاميذه وفقاً لمعتقداتهم، ويستند المسيحيون في ذلك على إعتراف اليهود التاريخي أثناء محاكمته بقولهم: «دمه علينا وعلى أولادنا» مما يدل على قتلهم له. وفي الحقيقة اتهم المسيحيون اليهود بتهم كثيرة وتاريخية بعضها قديم والآخر حديث أكبرها محاولة الصلب كما ذكرنا. وبسبب هذه التهم تحرك اليمين الديني المتطرف في أورويا بطردهم من معظم دول أوروبا الغربية إلى دول شرق ووسط أوروبا وبعض بلاد المسلمين والعرب، كالمغرب واليمن وفلسطين وغيرها. ومن الغريب أن نفس اليمين المتطرف الذي طردهم بالأمس هو من يدافع عنهم اليوم!!
وبصورة أكثر دقة نقول قد ظهر المصطلح لأول مرة في ألمانيا في عام 1860 على لسان العالم اليهودي النمساوي المستشرق/ مورتيتز ستاينشنايدر عندما إجتاحت أوروبا عامة وألمانيا خاصة موجة عنيفة من الكراهية لليهود تستند على نظريات عنصرية تدعي العلمية لعبت دوراً هاماً في السياسات التي أدت لحروب ومذابح أوروبية عنيفة. وقد كان الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان أحد قادة هذه الحملات العرقية عندما صرح بنظريته التي تقول بتفوق الجنس الأري الأوربي على الأجناس السامية وغيرها من الأجناس في أنحاء المعمورة. كما قام أيضاً المؤرخ الألماني هنريك فون تريتشك بجهود كبيرة لتعزيز هذا المفهوم العنصريّ، فصاغ عبارة «اليهود هم مصيبتنا» التي اُسْتُخْدِمَها النازيون لاحقاً للتخلص من اليهود في المحرقة المعروفة..
وعندما وصل الحزب النازي للسلطة في عام 1933، قاد مقاطعة معادية لليهود وأمر بحرق كتبهم وسنّ قوانيناً معادية لهم ضيقت عليهم حلقة الحياة في ألمانيا. وفي عام 1935 شرعت النازية قوانين جديدة تحدد اليهود وفقاً لمفهوم الدم والعرق لتسهيل حصرهم ومن ثمّ فصلهم من الجنس «الآري» وبهذا تمّ تقننين مفهوم التفاضل العنصري في البلاد. وفي عام 1938، قام النازيون بحملة عنيفة ضد اليهود دمرت معابدهم ومتاجرهم وممتلكاتهم في كلٍ من ألمانيا والنمسا، وكانت تلك الحوادث العنيفة الإرهابية بداية الطريق للإبادة الجماعية وأصبحت معاداة السامية اليهودية شغل النازيين الشاغل.
و"على الرغم من أنّ المصطلح لم يكن مستخدماً بشكلٍ شائعٍ حتّى القرن التاسع عشر، إلّا أنّه ينطبق أيضًا على الحوادث التاريخية المعادية لليهود )بأثر رجعي(. ومن الأمثلة البارزة على الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود مجازر راينلاند التي سبقت الحملة الصليبية الأولى عام 1096، ومرسوم الطرد من إنجلترا عام 1290، ومذابح اليهود الإسبان عام 1391، وملاحقات محاكم التفتيش الإسبانية، وطردهم من إسبانيا عام 1492، ومجازر القوزاق في أوكرانيا من 1648 إلى 1657، ومذابح اليهود العديدة في الإمبراطورية الروسية بين عامي 1821 و 1906، وقضيّة دريفوس 1894-1906 في فرنسا، والمحرقة في أوروبا التي كانت خلال الحرب العالمية الثانية، والسياسات السوفيتية المعادية لليهود" { راجع قوقل}
وللأسف أصبحت النظريات العنصرية حول الإستعلاء العرقي والحضاري منتشرة على نطاق واسع جداً في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أضفى إليها الحزب النازي الذي أسسه هتلر عام 1919، بعدًا سياسيًا شجع الألمان على إخراج اليهود من ألمانيا بعد أن اتهمتهم "حركة الوحدة الألمانية" بأنهم أجانب غير ألمان يجب الحذر منهم. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، شكلت الأحزاب السياسية الأوربية التي نزعت نحو فكرة القومية الحديثة خاصة في ألمانيا وفرنسا والنمسا دورًا قويًا في ظهور معاداة السامية السياسية، حيث اتهم أعضاؤها اليهود بأنهم مواطنون غير مخلصين لأوطانهم، وذلك بعد نشر بروتوكولات حكماء صهيون التي عكست حجم المؤامرة اليهودية الدولية عليهم كما يقولون.
وحتى ثورة الإصلاح الديني البروتستانتي التي قادها مارتن لوثر قد فشلت في تغير وضعهم " تغيراً كبيراً في ظروف المعيشة لليهود في البداية. وفي بدايتها، اخذ مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية الرومانية اضطهاد اليهود، وكان يتمنى في الحقيقة تحويلهم إلى المسيحية لكنه فشل في ذلك فطلب من الأمراء طردهم. ونشر لوثر في1543 كتيب باسم “Von den Juden und ihren Lügen” والذي يحتوى على افتراءات العصور الوسطى ويدعو بوضوح لاستخدام العنف ضد اليهود واحراق معابدهم. فقامت فورتمبيرغ في 1551 وبراندنبورغ في 1573ودوقية براونشفايغ لونيبورغ في 1590 بطرد اليهود خارج اراضيهم. وفي نهاية القرن السادس عشر، لم يكن موجود في ألمانيا إلا ثلاثة مجتمعات كبيرة وهي "فرس" و"فورمز" التي يعيش بها 14000 يهودى وفرانكفورت" )قوقل(
وهكذا ظل اليهود يعيشون في ألمانيا تحت لوائح استبدادية وفرض ضرائب مختلفة وإصدار تشريعات قانونية لتقليص عدد الزيجات بينهم لتجنب الزيادة في عددهم. وفي العموم قد تسببت هذه النظريات العنصرية لليهود في مذابح وسجون ومضايقات شردتهم في جميع أنحاء العالم مما جعلهم يتزاوجون مع أهلها وبالتالي اختلطت دمائهم، فأصبح منهم الساميون السود كيهود الحبشة، والساميون البيض كيهود أوروبا، والساميون القمحيين كيهود الشرق الأوسط، وبالتالي زال عنهم النقاء العنصري القديم، وزال تشابه الملامح الذي كان يجمعهم وكان يجمع غيرهم. فالآن الفحص الجيني العلمي )ال DNA ( سيثبت لهم أصولاً غير سامية بلا أدنى شك، وسيكون لهم من الدم الحامي نصيب الأسد وكفى بيهود الحبشة دليلاً على صحة وجود الدم الحامي فيهم وهي حقيقة علمية لا يمكن إنكارها.
وهناك كثير من شعوب الشرق الأوسط تدعي أصولاً سامية )خوضاً مع الخائضين من غير دليل( منهم العرب والآشوريين والفينيقين والآرميين والفرس. وهذا يعني أنّ هناك ساميون يهود وساميون مسلمون وغير مسلمين، إلا أن المصطلح من الناحية السياسية التاريخية التوراتية احتكره اليهود فقط دون غيرهم، وهذا أمر يستدعي دراسة قانونية مُحكَمة تعيد إدخال هذه الشعوب مرة أخرى في المصطلح الواسع لينتفع من منافعه الجميع بالرغم من عدم ثبوته علمياً. فقد أصبح المصطلح يَستخدم بشكلٍ مرادف لكلمة «يهودي»، ثم أصبح حكراً تستخدمه الصهيونية لحماية مصالحها السياسية فقط، وليس مصطلحاً يسع مصالح مجموعة كاملة من الشعوب التي تدعي الأصول السامية التي لا تدين بالديانة البهودية.
ولقد أدى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين وما تبعها من تشريد ومجازر وفظائع بحق الفلسطينين الى انتشار العداء الشديد للصهيونية تحديداً في الدول العربية والإسلامية، والعداء في العالمين العربي والإسلامي ليس لليهودية كدين ولا للسامية كعرق، لأن الشعب الفلسطيني نفسه يدعي السامية ويقبل مبدأ تقسيم الأرض مع اليهود. وليس العرب وحدهم في هذا الخندق، بل هناك يهود ضد الصهيونية أيضاً وضد قيام إسرائيل من الأساس، وهذه الضدية مبنية عندهم على مبدأ ديني وليس سياسي، فلا يعقل أتهام هؤلاء بأنهم ضد اليهودية أو السامية وهم ببساطة يهود وساميون كابراً عن كابر. فالناس ببساطة ضد الظلم إن جاء من صهيوني أو يهودي أو مسيحي أو مسلم أو ملحد أو أبيض أو أسود ولا مجال لتحريف الكلم عن مواضعه واللف والدوران فهذا عهد قد انتهى في التاريخ الإنساني.
الإشكاليات التي تواجه مصطلح "الساميون":
مصطلح "الساميون" ليس لديه أي تفسير علمي ولا جذور علمية مادية تاريخية وإنما هو خبر جاءت به التوراة حصرياً وهو قابل للتفنيد والتشكيك في صحته من الناحية البحثية العلمية الأكاديمية.
بما أننا لا نجد سنداً علميا لمفهوم مصطلح الساميين او الحاميين أو اليافثيين، يمكننا فقط الحديث عن شعوب كثيرة تتكلم لغات متشابهة ومتقاربة من بعضها بعضاً، ومنها ما يسمى باللغات السامية. هذه المجموعات اللغوية موجودة فعلاً وحقيقة علمية وواقعية لا يمكن إنكارها، ولكن الشعوب التي تتكلم لغات مشتركة أو متقاربة قد تكون مختلفة تماماً وغير متجانسة عرقياً بدرجة عميقة وحادة. فمثلاً، بعض الشعوب التي تتكلم الفرنسية في أفريقيا ليس لديها صلة دم أو مورثات ثقافية أو تاريخية مشتركة مع الفرنسيين في أوروبا، فقد فرضت هذه اللغة الأوربية بالقوة عن طريق الإستعمار. وعليه، ليس كل من تكلم لغة سامية هو من أصل سامي بالضرورة، وهذه المعادلة تنطبق على اليهود كما تنطبق على غيرهم.
من لا يؤمن بالديانات السماوية أو كان ملحداً لا يمكن إلزامه بأي وجه من الوجوه بخبر جاء في التوراة أو القرآن أو الإنجيل لا يسنده سند علمي مادي غير قابل للتفنيد.
أيضاً لا يمكن إلزام المسلمين بهذا الخبر التوراتي الذي يقسم الشعوب لساميين وحاميين ويافثيين. وفي الحقيقة، القرآن الكريم لم يذكر شيئاً من ذلك بالرغم من ذكره لحادثة الطوفان. وكما أن القرآن لا يلزم اليهود، فكذلك ليس كل أخبار التوراة وتفاصيلها ملزمة للمسلمين والمسيحيين وإن كان بين الجميع مشتركات دينية كما هو معروف.
إدانة الجرائم أو السياسات التي يرتكبها عنصر من العناصر أو أصحاب دين من الديانات لا يمكن ولا يعقل أن تفسر أنها ضد ذلك العنصر أو تلك الطائفة أو ذلك الدين، وإلا سوف ندعم إفلات كل مجرم من المحاكم والعقاب بدعوى ورقة العنصرية.
قوانين معادات السامية إنكشف عوراها عندما خرج يهود في نيويورك وبريطنيا وغيرها من الأماكن يساندون القضية الفلسطينية ويعارضون دولة إسرائيل. فهل هؤلاء أيضا ضد السامية وضد اليهود؟؟؟
مستقبل المصطلح وما يتبعه من قوانين:
ليس هناك مستقبل لمصطلح السامية ولا للقوانين التي تتبعه لعدة أساباب هي الآتي:
أولاً، تنفيذ حل الدولتين إذا قبلت به إسرائيل سينهي الصراع الى الأبد وسينهي معه الحاجة لهذا المصطلح وما يتبعه من قوانين.
ثانياً، الدراسات العلمية التي تنفي علمية المصطلح بطريقة لا يتطرق لها الشك سيقود للكفر به ومحاصرته وتلاشيه تدريجياً.
ثالثا، إختلاط الدماء والألوان المختلفة بسبب الزيجات سيقلص من هذا المفهوم وسيضعف حجة المدعي صاحب الدماء المختلطة.
رابعاً، فحوصات ال DNA ستضغف من حجة الذين يدّعون النقاء العرقي.
خامساً، أي حملة مستقبلية ضد قوانين العداء للساميين قد تؤدي لإلغاءها وبالتالي تبديد المصطلح.
سادساً، تشبع الأجيال الحديثة بفكرة حقوق الإنسان ستشكل تحدياً كبيراً لهذا المفهوم وما يتبعه من قوانين.
سابعأً، ضعف اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا وأوروبا سيضعف المفهوم وما يتبعه من قوانين.
ثامناً، تخرج دفعات من القضاة والمحامين من أبناء المسلمين وغيرهم في الدول الغربية سيخلق تحدياً عدلياً للمفهوم وما يتبعه من قوانين.
تاسعاً، وصول أجيال من أبناء المسلمين للبرلمانات التشريعية في كل من أمريكا وأوروبا سوف تضعف من المفهوم وما يتبعه من قوانين وسياسات.
إذن المسألة مسالة وقت لنرى فيه بلورة هذه التغيرات المفاهيمية والقانونية على أرض الواقع، في الوقت الذي سنرى فيه التمسك بمدأ حقوق الإنسان ووحدة الإنسانية ورفض المظالم يتسع ويزداد قوة يوماً بعد يوم.
morizig@hotmail.com