معالم في طريق استقرار الحكم في السودان (8)
محمد علي طه الملك
21 March, 2025
21 March, 2025
أ / محمد علي طه الملك
خبير قانوني وقاض سابق بالمحاكم السودانية
النظام السياسي
معنى مصطلح النظام السياسي
يسمي العلماء علاقة المجتمع بالسلطة الحاكمة ب ( النظام السياسي ) ، أي النظام الذي يبين ويفسر علاقة أفراد المجتمع بالهيئة الحاكمة والسلطة صاحبة السيادة ( الدولة ) ذلك وفق قواعد تبين أسس الحكم ، وتوزيع السلطات ، وطرق تداولها ، وشؤون الحكومة وشكلها ، بهذا المعنى فالنظام السياسي يقتضي وجود جماعات سياسية ، يعمل على تنظيمها ويبين القواعد التي تحكمها.
لقد تعددت تعريفات العلماء للنظام السياسي كل حسب منهجه الآيديولوجي ، غير أن أكثرها وضوحا في تقديري ما قال به الدكتور ثروت بدوي الذي عرفها ( بمجموعة القواعد والآجهزة المتناسقة المترابطة فيما بينها ، تبين نظام الحكم ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها وطبيعتها ومركز الآفراد منها وضماناته قبلها ، كما يحدد النظام السياسي عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على الجماعة ، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض ودور كل منها.)
ولعل أهداف السلطة ومجالات نشاطها ، لم تكن في تاريخها الماضي ذات أثر في التمييز بين النظم السياسية ، غير أن اتساع مضمون فكرتها ، أزال القيود عن نشاط الدولة وأطلق يد مؤسساتها ، فتدخلت في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، ولم ينجو حتى النشاط الثقافي والإعلامي من تبعات التوجيه والرقابة ، غير أن الرؤية تراجعت في عالم اليوم ، بعد أن غدت موضوعات شكل الدولة وطبيعة الحكم ، ضمن العناصر التي تُعَرف النظم السياسية المعاصرة ، لذا أصبح من الضروري عند دراسة أي نظام سياسي في الوقت الراهن
، البدء بتحليل التركيبة الاجتماعية في الدولة ونظمها ، بعبارة أخرى ـ لم يعد كافيا التعرف على الآجهزة التي يقوم عليها النظام السياسي ، والقواعد والقوانين التي تحكمها ، بل يتحتم التنقيب في ممارساتها وتطبيقاتها ، وقياس درجات توافقها وتفاعلها مع الظروف الاجتماعية في البلد ، لهذا أصبح المعيار لقياس نجاح أي نظام سياسي ، لا يتوقف عند حدود حفظ مركز التوازن بين السلطة والآجهزة ، إنما أيضا طبيعة الرابطة بين السلطة الحاكمة وقوى المجتمع الرئيسة. من واقع افرازات الساحة السودانية وصراعاتها ، تبين أن صراع السلطة والثروة أضحى الآكثر بروزا وإدماء للنسيج الاجتماعي من ذي قبل والمهدد الرئيس لتماسك الوطن وربما بقاؤه ، حيث تصدرت كيانات طرفية ووسطية للمطالبة بحقوقها ، بعد التنازلات التي أقر بها اتفاق السلام ومثيلاته خصما علي المركزية ، ومن زاوية تاريخية نجد أن جل النخب السياسية ، إن لم تكن كلها- نشأت وترعرعت في ظل مركزية الدولة ، مع ذلك عادت لتقر أن النظام المركزي لا يتلاءم مع حكم بلد في سعة السودان وتنوعه ، لقد تبدى لي من خلال قانون تنظيم الآحزاب ، عدم تطرقه لموضوع مركزية الآحزاب السياسية ، ولم يطرح أية رؤية تفضي بإعادة تنظيمها لتتسق مع مضمون الحكم الفدرالي ، الآمر الذي ظلت معه الفعاليات السياسية بذات صبغتها المركزية ، فإن كانت الإرادة الجمعية تبتغي الجدية والإصلاح لتجاوز ظلامات الهامش ، وبناء الوطن علي أسس تحقق العدالة ، فالاقتراح الآنفع يقضي بإعادة النظر في أمر مركزية النخب السياسية لكي تتلاءم مع مضامين الحكم الاتحادي ، وتصبح انطلاقة النخب السياسية من قواعدها الولائية ، واقعا يطابق مفهوم المشاركة الشعبية على نطاق الوطن ، ويكون ذلك بإقرار حق تكوين نمطين للأحزاب السياسية ، اتحادية واقليمية ، كحقوق دستورية أصيلة ، بمقتضاها تتنافس الآحزاب الاقليمية بمفردها أو مؤتلفة مع حزب اتحادي ، لانتخاب برلمان الاقليم /الولاية ، ومن ثم يأتي تشكيل حكومة الإقليم / الولاية من الحزب أو الآحزاب التي نالت ثقة مواطني الاقليم ، وفق برامجها التي ُطر ّحت إبان المرحلة الانتخابية .
بهذا الشكل يمكن لمواطني الآقاليم /الولايات المشاركة الفعلية في صناعة القرار الوطني وتنمية مناطقهم ، ومن ثم تحجيم الاحساس بالتهميش ، ودعاوى اقتسام السلطة والثروة التي علت في الآوان ، هذه الرؤية المبنية علي حق تأسيس الآحزاب اقليميا ، ترمي لاستيلاد النخب السياسية الاتحادية ، من رحم الآحزاب الاقليمية ، لا أن تأتي من القمة وفق روية أيديولوجية تستقطب وتخطب ود القواعد الاقليمية والولائية ، وهي رؤية تتقاطع بالضرورة مع الكيانات السياسية القائمة سواء كانت معارضة أو حاكمة ، إذ جميعها تأسست ونهضت مركزيا ، ثم مضت تبسط فروعها علي القواعد الشعبية في الآقاليم المختلفة ، وليت ذلك وفق برامج وخطط تعني بتنمية المجتمع بكلياته ، بل وفق أيديولوجيات ، وقدرية مطلقة في تسيير شؤون الحياة الدنيا ، أو فكر علماني يدغدغ أشواق القواعد المسحوقة ، منطلقا من إشكالية جدلية صراع طبقي ، لم تبلغة مجتمعات السودان ، لذا سرعان ما كان حصاد بلوغها سدة الحكم ، صراع حول كرسيه ومحيطه المادي ، فتحسمه إحداهن غاضبة بتحالف سري مع المؤسسة العسكرية ، بحسبانها المؤسسة الوحيدة التي جمعت تحت يدها قوة السلاح وقوة التنظيم المنضبط ، والقادرة علي العصف بمبدأ التداول السلمي للسلطة وتجيرها لصالحها والمتحالفين معها ، ولعل من إيجابيات هذه الرؤية ، الفكاك من دائرة الصراع الخبيث بين النظم الشمولية والتعددية السياسية ، التي استحوذت سنوات استقلال بلادنا من خمسينات القرن الفائت ، إن مظهر استسلام القواعد الشعبية ، واختفاء إرادتها المقاومة والمصادمة للبيان العسكري الآول ، لهو القرينة الابرز على ضعف صيغ المركزية السياسية ، وإخفاق نخبتها في الحفاظ على الديموقراطية ، ذلك بسبب غياب روح وحس القواعد الشعبية في تأسيسها ، فإن غاص الحكم تحت أقدام العسكر ، لن يأس عليه أحد ، أو كما قيل منسوبا لآحد قادة النخبة السياسية ( الديموقراطية دي لو جراها كلب مافي زول بقول جر ) ، كل ذلك لآن الكيانات السياسية تأسست فوقيا ، من خلال قيادات مركزية و لم ينبت جذرها من القاعدة الشعبية ، إن حصاد الممارسة المركزية السياسية لنصف قرن لبرالية كانت أم دكتاتورية أو شمولية ، لم تحبط قناعة الشعب وتخيب تطلعاته فحسب ، بل أضعفت الثقة بين القاعدة والقيادة السياسية ، فطفّت علي الساحة قوى أخرى طرفية تنازع المركز وتحاربه ، وسط هذا التجاذب والتخبط والاستقطاب الحاد بين النخب السياسية وصراع الآطراف لنيل استحقاقاتها من السلطة والثروة ، ولد اتفاق السلام بين الحكومة وأكبر الحركات الطرفية المسلحة ( الحركة الشعبية ) ، انتهى بانفصال الجنوب ، على العكس مما حقنته الاتفاقية من آمال السلام ، وطموحات الوحدة في نفوس المواطنين.
مع ذلك ـ كان من ايجابيات ذلك الاتفاق ، تقرير النظام الفدرالي كصيغة ُمثلى لحكم البلاد ولكن بانفصال الجنوب ، وذهاب ثلثي الثروة البترولية معه ، بلغ الاحتقان السياسي والشعبي والازمات الاقتصادية مرحلة التشبع ، فاهترأت وسقطت ورقة التوت ، وتدنت هيبة النخبة الحاكمة ، ولم يعد بين يديها من قوة سوى قوة القابضين على الزناد ، الاعتماد عليها يرمي بفلسفة الحكم إلى خارج منطق العصر ، ويدفع للمزيد من سقوط أطراف الوطن ، عليه يجب رد الحق لآصله الطبيعي( جماهير الشعب السوداني ) ، فهي قادرة على لملمت شعث الوطن ، وإعادة بناء كياناته السياسية ، ومن ثم تجاوز أزماته الحالية وسوف يضبطهم التدافع ، و تجبرهم ضغوط الحاجة لتبادل المنافع وتحقيق الاستقرار ،على بناء هيكل اتحادي تستظل بظله حكومات ولائية وإقليمية منتخبة من قواعدها الشعبية، تعمل على بناء ديموقراطية سليمة ، وتحت ابصارنا تجارب شعوب أسست دولها ، ونظمت نخبها السياسية انطلاقا من قواعدها الشعبية ، فتحقق لها الاستقرار والنماء والتطور.
لقد أنشئت الحكومة المركزية عددا من الولايات ، مارست صلاحيات حكم موجهة مركزيا اجتزأت الكثير من سلطاتها ، حتى بدا النظام الاتحادي مجرد نصب ( يشخبطون ) عليه عوار الممارسات الخاطئة ، فضلا عن مظهر التجييش الإداري الولائي الذي يسبب إرهاقا لميزانيتها ، ويعطل نموها وتطورها ، ولعله في حال حدوث توافق على تطبيق النظام الاتحادي بصورته المثلى ، سنواجه بمعضلة التمثيل في الهيكل الاتحادي ، لذا فلا مناص من الآخذ بالتوزيع الإقليمي ، بحسبانه الهيكل القادر على استيعاب هذه الآعداد الهائلة من الولايات .
في تقديري لكي يأخذ هذا الطرح جانبا عمليا ، من الضروري إجراء تعديلات دستورية، يتم بموجبها إعادة تقسيم البلاد جغرافيا إلى أقاليم كما جاء في هذا المقترح ، تحال إليها كافة
صلاحيات الحكومة المركزية ، ذلك دون المساس بالهياكل الولائية القائمة الآن ، على أن تؤسس الآحزاب اتحادية واقليمية كما أسلفت ، بحيث يشكل الحزب الفائز بالآغلبية مجلس الولاية التشريعي وحكومته ، ويتصاعد الاختيار بذات التراتبية لبرلمان الإقليم وحكومته الاقليمية ، ثم الحكومة الاتحادية على نطاق القطر ، من اللافت للانتباه إن مفهوم الممارسة الديموقراطية في مخيلة الغالبية لم تبرح معناها الموسمي ، المرتبط بممارسة حق التصويت لانتخاب شخص ما ، وبانتهاء مراسم الاقتراع تنقطع علاقة الفرد واهتماماته بالمسيرة الديمقراطية ، هذه الممارسة القاصرة هي إحدى العلل التي هزمت كل تجاربنا الديمقراطية لذا يتعين التفكر في إصلاحها وتقويمها ، بالنظر للأمم التي قطعت شوطا بعيدا في ترسيخ مبادئ الديموقراطية ، حيث نجدها زرعت أساليب الحياة الديموقراطية في مجتمعاتها بداية من تنظيم حقوق أفراد الآسرة ، وانتهاء بتنظيم مؤسسات الدولة ، وحددت سقفا لسلطات رب الآسرة وبينت حقوق أفرادها ، لذا أصبح السلوك الديموقراطي أسلوبا تربويا يبدأ وينطلق من جذر المجتمع ، هذا بالطبع لا يعني التأسي بالغرب ، لكوننا كمجتمعات شرقية مازلنا نعلي مفاهيم الترابط الآسري ، وندعمها بتقاليدنا المحافظة ومبادئنا الآخلاقية والعقدية ، لذا تصبح المطالبة بتفكيك الآسرة تأسيا بالآمم الآخرى ضرب من الهوس المكروه ، غير أن زرع مبادئ التربية الديموقراطية في الآسرة ، بالقدر الذي لا يتعارض مع مبادئ معتقداتنا وتقاليدنا وحقوق الإنسان ، قطعا سوف يجد قبولا واسعا.
medali51@hotmail.com
خبير قانوني وقاض سابق بالمحاكم السودانية
النظام السياسي
معنى مصطلح النظام السياسي
يسمي العلماء علاقة المجتمع بالسلطة الحاكمة ب ( النظام السياسي ) ، أي النظام الذي يبين ويفسر علاقة أفراد المجتمع بالهيئة الحاكمة والسلطة صاحبة السيادة ( الدولة ) ذلك وفق قواعد تبين أسس الحكم ، وتوزيع السلطات ، وطرق تداولها ، وشؤون الحكومة وشكلها ، بهذا المعنى فالنظام السياسي يقتضي وجود جماعات سياسية ، يعمل على تنظيمها ويبين القواعد التي تحكمها.
لقد تعددت تعريفات العلماء للنظام السياسي كل حسب منهجه الآيديولوجي ، غير أن أكثرها وضوحا في تقديري ما قال به الدكتور ثروت بدوي الذي عرفها ( بمجموعة القواعد والآجهزة المتناسقة المترابطة فيما بينها ، تبين نظام الحكم ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها وطبيعتها ومركز الآفراد منها وضماناته قبلها ، كما يحدد النظام السياسي عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على الجماعة ، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض ودور كل منها.)
ولعل أهداف السلطة ومجالات نشاطها ، لم تكن في تاريخها الماضي ذات أثر في التمييز بين النظم السياسية ، غير أن اتساع مضمون فكرتها ، أزال القيود عن نشاط الدولة وأطلق يد مؤسساتها ، فتدخلت في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، ولم ينجو حتى النشاط الثقافي والإعلامي من تبعات التوجيه والرقابة ، غير أن الرؤية تراجعت في عالم اليوم ، بعد أن غدت موضوعات شكل الدولة وطبيعة الحكم ، ضمن العناصر التي تُعَرف النظم السياسية المعاصرة ، لذا أصبح من الضروري عند دراسة أي نظام سياسي في الوقت الراهن
، البدء بتحليل التركيبة الاجتماعية في الدولة ونظمها ، بعبارة أخرى ـ لم يعد كافيا التعرف على الآجهزة التي يقوم عليها النظام السياسي ، والقواعد والقوانين التي تحكمها ، بل يتحتم التنقيب في ممارساتها وتطبيقاتها ، وقياس درجات توافقها وتفاعلها مع الظروف الاجتماعية في البلد ، لهذا أصبح المعيار لقياس نجاح أي نظام سياسي ، لا يتوقف عند حدود حفظ مركز التوازن بين السلطة والآجهزة ، إنما أيضا طبيعة الرابطة بين السلطة الحاكمة وقوى المجتمع الرئيسة. من واقع افرازات الساحة السودانية وصراعاتها ، تبين أن صراع السلطة والثروة أضحى الآكثر بروزا وإدماء للنسيج الاجتماعي من ذي قبل والمهدد الرئيس لتماسك الوطن وربما بقاؤه ، حيث تصدرت كيانات طرفية ووسطية للمطالبة بحقوقها ، بعد التنازلات التي أقر بها اتفاق السلام ومثيلاته خصما علي المركزية ، ومن زاوية تاريخية نجد أن جل النخب السياسية ، إن لم تكن كلها- نشأت وترعرعت في ظل مركزية الدولة ، مع ذلك عادت لتقر أن النظام المركزي لا يتلاءم مع حكم بلد في سعة السودان وتنوعه ، لقد تبدى لي من خلال قانون تنظيم الآحزاب ، عدم تطرقه لموضوع مركزية الآحزاب السياسية ، ولم يطرح أية رؤية تفضي بإعادة تنظيمها لتتسق مع مضمون الحكم الفدرالي ، الآمر الذي ظلت معه الفعاليات السياسية بذات صبغتها المركزية ، فإن كانت الإرادة الجمعية تبتغي الجدية والإصلاح لتجاوز ظلامات الهامش ، وبناء الوطن علي أسس تحقق العدالة ، فالاقتراح الآنفع يقضي بإعادة النظر في أمر مركزية النخب السياسية لكي تتلاءم مع مضامين الحكم الاتحادي ، وتصبح انطلاقة النخب السياسية من قواعدها الولائية ، واقعا يطابق مفهوم المشاركة الشعبية على نطاق الوطن ، ويكون ذلك بإقرار حق تكوين نمطين للأحزاب السياسية ، اتحادية واقليمية ، كحقوق دستورية أصيلة ، بمقتضاها تتنافس الآحزاب الاقليمية بمفردها أو مؤتلفة مع حزب اتحادي ، لانتخاب برلمان الاقليم /الولاية ، ومن ثم يأتي تشكيل حكومة الإقليم / الولاية من الحزب أو الآحزاب التي نالت ثقة مواطني الاقليم ، وفق برامجها التي ُطر ّحت إبان المرحلة الانتخابية .
بهذا الشكل يمكن لمواطني الآقاليم /الولايات المشاركة الفعلية في صناعة القرار الوطني وتنمية مناطقهم ، ومن ثم تحجيم الاحساس بالتهميش ، ودعاوى اقتسام السلطة والثروة التي علت في الآوان ، هذه الرؤية المبنية علي حق تأسيس الآحزاب اقليميا ، ترمي لاستيلاد النخب السياسية الاتحادية ، من رحم الآحزاب الاقليمية ، لا أن تأتي من القمة وفق روية أيديولوجية تستقطب وتخطب ود القواعد الاقليمية والولائية ، وهي رؤية تتقاطع بالضرورة مع الكيانات السياسية القائمة سواء كانت معارضة أو حاكمة ، إذ جميعها تأسست ونهضت مركزيا ، ثم مضت تبسط فروعها علي القواعد الشعبية في الآقاليم المختلفة ، وليت ذلك وفق برامج وخطط تعني بتنمية المجتمع بكلياته ، بل وفق أيديولوجيات ، وقدرية مطلقة في تسيير شؤون الحياة الدنيا ، أو فكر علماني يدغدغ أشواق القواعد المسحوقة ، منطلقا من إشكالية جدلية صراع طبقي ، لم تبلغة مجتمعات السودان ، لذا سرعان ما كان حصاد بلوغها سدة الحكم ، صراع حول كرسيه ومحيطه المادي ، فتحسمه إحداهن غاضبة بتحالف سري مع المؤسسة العسكرية ، بحسبانها المؤسسة الوحيدة التي جمعت تحت يدها قوة السلاح وقوة التنظيم المنضبط ، والقادرة علي العصف بمبدأ التداول السلمي للسلطة وتجيرها لصالحها والمتحالفين معها ، ولعل من إيجابيات هذه الرؤية ، الفكاك من دائرة الصراع الخبيث بين النظم الشمولية والتعددية السياسية ، التي استحوذت سنوات استقلال بلادنا من خمسينات القرن الفائت ، إن مظهر استسلام القواعد الشعبية ، واختفاء إرادتها المقاومة والمصادمة للبيان العسكري الآول ، لهو القرينة الابرز على ضعف صيغ المركزية السياسية ، وإخفاق نخبتها في الحفاظ على الديموقراطية ، ذلك بسبب غياب روح وحس القواعد الشعبية في تأسيسها ، فإن غاص الحكم تحت أقدام العسكر ، لن يأس عليه أحد ، أو كما قيل منسوبا لآحد قادة النخبة السياسية ( الديموقراطية دي لو جراها كلب مافي زول بقول جر ) ، كل ذلك لآن الكيانات السياسية تأسست فوقيا ، من خلال قيادات مركزية و لم ينبت جذرها من القاعدة الشعبية ، إن حصاد الممارسة المركزية السياسية لنصف قرن لبرالية كانت أم دكتاتورية أو شمولية ، لم تحبط قناعة الشعب وتخيب تطلعاته فحسب ، بل أضعفت الثقة بين القاعدة والقيادة السياسية ، فطفّت علي الساحة قوى أخرى طرفية تنازع المركز وتحاربه ، وسط هذا التجاذب والتخبط والاستقطاب الحاد بين النخب السياسية وصراع الآطراف لنيل استحقاقاتها من السلطة والثروة ، ولد اتفاق السلام بين الحكومة وأكبر الحركات الطرفية المسلحة ( الحركة الشعبية ) ، انتهى بانفصال الجنوب ، على العكس مما حقنته الاتفاقية من آمال السلام ، وطموحات الوحدة في نفوس المواطنين.
مع ذلك ـ كان من ايجابيات ذلك الاتفاق ، تقرير النظام الفدرالي كصيغة ُمثلى لحكم البلاد ولكن بانفصال الجنوب ، وذهاب ثلثي الثروة البترولية معه ، بلغ الاحتقان السياسي والشعبي والازمات الاقتصادية مرحلة التشبع ، فاهترأت وسقطت ورقة التوت ، وتدنت هيبة النخبة الحاكمة ، ولم يعد بين يديها من قوة سوى قوة القابضين على الزناد ، الاعتماد عليها يرمي بفلسفة الحكم إلى خارج منطق العصر ، ويدفع للمزيد من سقوط أطراف الوطن ، عليه يجب رد الحق لآصله الطبيعي( جماهير الشعب السوداني ) ، فهي قادرة على لملمت شعث الوطن ، وإعادة بناء كياناته السياسية ، ومن ثم تجاوز أزماته الحالية وسوف يضبطهم التدافع ، و تجبرهم ضغوط الحاجة لتبادل المنافع وتحقيق الاستقرار ،على بناء هيكل اتحادي تستظل بظله حكومات ولائية وإقليمية منتخبة من قواعدها الشعبية، تعمل على بناء ديموقراطية سليمة ، وتحت ابصارنا تجارب شعوب أسست دولها ، ونظمت نخبها السياسية انطلاقا من قواعدها الشعبية ، فتحقق لها الاستقرار والنماء والتطور.
لقد أنشئت الحكومة المركزية عددا من الولايات ، مارست صلاحيات حكم موجهة مركزيا اجتزأت الكثير من سلطاتها ، حتى بدا النظام الاتحادي مجرد نصب ( يشخبطون ) عليه عوار الممارسات الخاطئة ، فضلا عن مظهر التجييش الإداري الولائي الذي يسبب إرهاقا لميزانيتها ، ويعطل نموها وتطورها ، ولعله في حال حدوث توافق على تطبيق النظام الاتحادي بصورته المثلى ، سنواجه بمعضلة التمثيل في الهيكل الاتحادي ، لذا فلا مناص من الآخذ بالتوزيع الإقليمي ، بحسبانه الهيكل القادر على استيعاب هذه الآعداد الهائلة من الولايات .
في تقديري لكي يأخذ هذا الطرح جانبا عمليا ، من الضروري إجراء تعديلات دستورية، يتم بموجبها إعادة تقسيم البلاد جغرافيا إلى أقاليم كما جاء في هذا المقترح ، تحال إليها كافة
صلاحيات الحكومة المركزية ، ذلك دون المساس بالهياكل الولائية القائمة الآن ، على أن تؤسس الآحزاب اتحادية واقليمية كما أسلفت ، بحيث يشكل الحزب الفائز بالآغلبية مجلس الولاية التشريعي وحكومته ، ويتصاعد الاختيار بذات التراتبية لبرلمان الإقليم وحكومته الاقليمية ، ثم الحكومة الاتحادية على نطاق القطر ، من اللافت للانتباه إن مفهوم الممارسة الديموقراطية في مخيلة الغالبية لم تبرح معناها الموسمي ، المرتبط بممارسة حق التصويت لانتخاب شخص ما ، وبانتهاء مراسم الاقتراع تنقطع علاقة الفرد واهتماماته بالمسيرة الديمقراطية ، هذه الممارسة القاصرة هي إحدى العلل التي هزمت كل تجاربنا الديمقراطية لذا يتعين التفكر في إصلاحها وتقويمها ، بالنظر للأمم التي قطعت شوطا بعيدا في ترسيخ مبادئ الديموقراطية ، حيث نجدها زرعت أساليب الحياة الديموقراطية في مجتمعاتها بداية من تنظيم حقوق أفراد الآسرة ، وانتهاء بتنظيم مؤسسات الدولة ، وحددت سقفا لسلطات رب الآسرة وبينت حقوق أفرادها ، لذا أصبح السلوك الديموقراطي أسلوبا تربويا يبدأ وينطلق من جذر المجتمع ، هذا بالطبع لا يعني التأسي بالغرب ، لكوننا كمجتمعات شرقية مازلنا نعلي مفاهيم الترابط الآسري ، وندعمها بتقاليدنا المحافظة ومبادئنا الآخلاقية والعقدية ، لذا تصبح المطالبة بتفكيك الآسرة تأسيا بالآمم الآخرى ضرب من الهوس المكروه ، غير أن زرع مبادئ التربية الديموقراطية في الآسرة ، بالقدر الذي لا يتعارض مع مبادئ معتقداتنا وتقاليدنا وحقوق الإنسان ، قطعا سوف يجد قبولا واسعا.
medali51@hotmail.com