معذبو الأرض في السودان ينتظرون حلاً! هل من مُعين؟

 


 

 



عندما تعاظمت معاناة الشعب الجزائري تحت نير الاستعمار الفرنسي، أصدر المفكر فرانتز فانون، كتابه الموسوم بـ "معذبو الأرض"؛ ليكون بياناً ضد الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية الأوروبية، حيث دعا شعوب العالم إلى الثورة والتحرر، محتجاً بأن القيمة الأبرز للشعب المحتل هي الأرض، التي يجب أن تُحرير من قبضة المستعمِر؛ ليؤمِّن المستعمَر خبزه وكرامته، ولذلك شجع فانون الشعوب المستعمرة على حتمية المقاومة المسلحة، بوصفها السبيل الوحيد للخلاص من الهيمنة الاستعمارية، وأن الاستعمار، ومن وجهة نظره، ليس له آلية تفكِّر، أو قرار يحكمه العقل، بل أداته العنف في أكثر أشكاله توحشاً، ولا يمكن أن ينكسر ذلك العنف إلا إذا واجه عنفاً شعبياً أقوى منه. فالشعب المستَعمَر لا يمكن أن يرى النور إلا بعد أن يصعد فوق جثث مستعمِريه المتفسخة. ولذلك يرى فانون دعوة أوروبا الاستعمارية إلى الإنسانية دعوة زائفة؛ لأن أوروبا لا تتورّع عن اغتيال الإنسان، كلما انتصب مدافعاً عن كرامته، سواء كان ذلك فوق أراضيها، أو في أي بقعة من العالم.
في ضوء هذه الرؤية النضالية تبلور كفاح أهل السودان، كغيرهم من شعوب العالم الأُخرى، لنزع استقلالهم الوطني من المستعمر الأوروبي، لكن بعد الاستقلال انجلت إليهم الحقيقة المُرَّة، التي تمثلت في فشل النخب الوطنية التي تسنمت سدة الحكم بعد المستعمِر، لاسيما العسكرية منها، التي عمدت إلى تعزيز وضعها المالي وجاهها السياسي بقوة الأدوات الأمنية السالبة لحقوق المواطن السياسية، والمتاجرة باسمه، ولذلك تبدلت الآمال العراض المرهونة بخروج المستعمر، ودور الحكومات الوطنية في تحقيق الرفاهية والتنمية المتوازنة، وعند هذا المنعطف اُختزلت الحكومات الشمولية في أشخاص الحاكمين والمطبلين لهم. وبموجب ذلك فقد المثقف السياسي في السودان وازعه القيمي والأخلاقي، وأضحى يضرب على دف الحاكمين دون حياء، بل يشاركهم الكذب في تبرير الفساد السياسي والمالي، وأكل أموال السحت، ثم تمكين ثقافة "نحن" و "هم"، واصفاً المعارضين بـ"المرتزقة"، و"الخونة"، و"الطابور الخامس"، و"المخربين" و"المتمردين"، مُجرِّداً بهذه النعوت الفاحشة الشعب السوداني من حقِّه السياسي المشروع، وراهناً ذلك الحقّ لفصيل حزبي واحد (المؤتمر الوطني) دون غيره، علماً بأن الفصيل نفسه جاء إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب سياسي. والطريف في الأمر أن من ضمن المطبلين الذين يطلقون مثل هذه النعوت الجوفاء، قد أُطلقت عليهم من قبل، عندما كانوا على خلاف مع السلطة الحاكمة (انظر سيرة  نائب رئيس الجمهورية  الدكتور الحاج آدم)، وبعد عودتهم إلى حظيرة الحكم، أضحوا هم أيضاً من أصحاب القداسة السياسية، حِفَاظاً على مصالحهم الخاصة، وتطلعاتهم الذاتية على حساب الوطن الجريح، والمواطن الذي أضحت أحلامهم كسراب بقيعة. ولذلك عندما سأل الأستاذ ضياء الدين بلال، رئيس تحرير صحيفة السوداني، سعادة رئيس الجمهورية، في المؤتمر الصحافي الذي عُقد في 22 أغسطس 2013م، عن مشكلة الخطاب الاستعلائي للحكومة، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ومحاسبة الذين جاؤوا بالسياسات الاقتصادية الخرقاء التي أفسدت الاقتصاد، وأدخلت البلاد في نفقٍ مظلمٍ، كان مصير أسئلته المحورية حزمة من المبررات غير المقنعة، والانتقادات المبطنة لجرأته الصحافية.

هل كان خطاب الحكومة خطاباً استعلائياً؟
نعم، عرض الخطاب الرئاسي كثيراً من المبررات المثيرة للجدل عن الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن التعليقات والنكات السياسية التي عكست طرفاً من مفرداته الاستعلائية تجاه المواطن السوداني، مستخفةً بعقله الجمعي في تحليل واستيعاب الواقع السياسي والاقتصادي في السودان، وغير مكترسةٍ أنَّ الخطاب كان مشاهداً ومسموعاً عبر القنوات الفضائية المحلية والإقليمية والعالمية، التي تملك القدرة على استنطاق ما بين سطوره السياسية، وتفكيك مفرداته الاقتصادية، وتحليل ثوابته المعيارية التي تحدد مدى شفافية الحكومة، وحسها الإعلامي المقنع للرأي العام في فضاءات المعارضة المنداحة يوماً بعد يوم، والتي أضحت قادرة على كسر حاجز الخوف أمام ترهيب آليات الأمن والشرطة. وهنا مربط الفرس، حيث سار بعض الإعلاميين والصحافيين مع تيار المنافقة الصحافية دون أدني اعتبار لمواقعهم المهنية، موثِّقين لسقوطهم الأخلاقي في وجه المعارضين. وعند هذا المنعطف يحضرني قول الأستاذ محمد محمد طه في حق بعض الصحافيين الذين خانوا أمانه المهنة: "نحن لا نستغرب سوء الفهم، وسوء النية من أي إنسان، بقدر ما نستغربهما ممن يحملون الأقلام، ويتصدون لتوجيه الرأي العام، ويجدون المداد والورق موفوراً لديهم؛ لأن الشعب يثق فيهم، ويقْبِل على ما يكتبون- يدفع ثمنه من حُرَّ ماله، ويَقْبِل عليه يقرأه، ويستظهره- من مثل هؤلاء يُستغرب سوء الفهم، ويُستغرب سوء النية، بل من مثل هؤلاء قد لا يُقبل صرف ولا عدل؛ لأن في عملهم خيانة لأمانة الثقافة، وخيانة لرسالة القلم، وخيانة لأمانة الثقة، الثقة الغالية التي أودعها الشعب في حملة الأقلام."
يكفي هذا النص رداً على أولئك الذين خانوا أمانة المهنة بتعلقياتهم الهزيلة في ذلك المؤتمر الصحافي المهم، وسبحوا مع التيار الذي يخدم مصالحهم الذاتية، دون أدنى مراعاة لحرمة الرأي العام، وتقدير فطنة المستمع والمشاهد السوداني، ويدفعنا ذلك المشهد الهزيل من زواية أخرى إلى تحليل التساؤلات التي طرحها بعض الصحافيين والإعلاميين على السيد رئيس الجمهورية بشجاعة وموضوعية، يحسدون عليها، بَيْدَ أن المنصبة تجاهلت الإجابة عن بعضها، وطرحت بعض المسوغات غير المقنعة للاستفهامات المباشرة.
ومخرجات الخطاب الرئاسي والمبررات اللاحقة له ليست مستغربة؛ لأنها من إنتاج حكومة "الإنقاذ الوطني" التي درجت على مخاطبة مواطنيها بنوع من الاستعلاء والاستخفاف؛ وذلك لضعف آلياتها الرقابية وحسها المحاسبي، وغياب أدبيات "من أين لك هذا"، وأخلاقيات "لو عثرت بقلة بأرض العراق لكنت المسؤول عنها"، وبموجب ذلك مال المطبلون إلى تآليه رموز السيادة السودانية، وغض النظر  عن سوءات سياساتهم الخرقاء التي شكلت الواقع البئيس الذي يعاني الشعب السوداني من تداعياته. وفي ظل هذا الواقع المأزوم سادت عبارات "الحسّ كُوعك"، و"موصها وأشربها"، و"الزارعنا غير الله اليجي يقلعنا". واستناداً إلى هذه الخلفية نهض الصحافي ضياء الدين بلال، واصفاً خطاب الحكومة السودانية بالخطاب الاستعلائي تجاه المواطنين والرأي العام. والاستعلاء له أكثر من صورة، ربما يتبلور في التبريرات السياسية غير الموضوعية بشأن بعض القضايا الساخنة، فمثلاً عندما أشار بعض المهتمين بالشأن السوداني إلى أن انفصال الجنوب ستكون له عواقب اقتصادية وخيمة آنذاك، كان رد الحكومة يتمثل في أن انفصال الجنوب سيخلق نوعاً من الاستقرار الاقتصادي في شمال السودان، والاقتصاد لا يتأثر كثيراً بانفصال الجنوب (انظر خطاب الرئيس في القضارف).
ويتجلى هذا النمط من الخطب الاستعلائية أيضاً في الاستخفاف بعقول المواطنين، والشاهد في ذلك تعليق الصحافي السعودي، يوسف القبلان، الذي نشره في صحيفة الرياض، بتاريخ 3 أكتوبر 2013م، قائلاً:
"من أغرب وأطرف الانجازات التنموية الحديثة ذلك الانجاز غير المسبوق الذي قدمه رئيس السودان لشعبه، وهو تعريفهم بطعام الهوت دوق الذي لولا براعته القيادية لما تحققت هذه المعرفة، أو هذا الاكتشاف العلمي الذي نقل السودان إلى مصاف الدول المتقدمة. يقول الرئيس السوداني عمر البشير: إنه صاحب الفضل في تعريف السودانيين بوجبة الهوت دوق، ويتحدى أن يوجد من سمع بها قبل حكومة الانقاذ. نستطيع القول بناء على ما سبق أن حكومة الانقاذ هي اسم على مسمى، فقد أنقذت الشعب السوداني من جهله بهذه الوجبة، وكيف يستطيع المواطن السوداني أن ينافس، وأن يتحاور مع مواطني ومسؤولي الدول الأخرى، وهو لا يعرف هذه الوجبة. الواجب يقتضي أن يتقدم الشعب السوداني بالشكر لرئيسه على هذه الثقافة، وهذا الانجاز، فقد أنقذه فعلاً، ونقله بهذه الوجبة إلى ميدان العمل ومراكز الأبحاث، ومشاريع التنمية الزراعية، والصناعية، وأصبح المواطن السوداني بعد هذا الاكتشاف أفضل حالاً، ولا يحتاج إلى التظاهر إلا ليقول شكراً للنظام."
تعكس هذه العبارات الساخرة من مقال القبلان عواقب الخطاب الاستعلائي، الذي لم يقدر قيمة مواطينه، الذين أقرَّ بوعيهم الصحافي السعودي نفسه، قائلاً في خاتمة مقالة: "المواطن السوداني على قدر كبير من الوعي، والثقافة السياسية، وقد اتضح له كما اتضح لغيره، إفلاس الخطاب الثوري الذي يجيد لغة الكلام، ولا يجيد لغة العمل، وإذا فشل في تحقيق الانجازات أسقط الأسباب على نظرية المؤامرة." ولاشك أن نظرية المؤامرة أضحت تشكل نسقاً نمطياً في مفردات الخطاب السياسي الحاكم في الخرطوم، وتتمثل فَزَّاعة ذلك النمط في تآمر دولة إسرائيل على دولة "المشروع الحضاري" في السودان. لذلك يجب على صاغة الخطاب السياسي الحاكم في الخرطوم أن يدركوا أنهم يتحركون في أكثر من فضاء سياسي، وأن خطابهم الاستعلائي يُبث عبر جملة من القنوات الفضائية إلى مجموعة من العقلاء، تقرأ ما بين السطور، وتدرك طبيعة الواقع الذي يعيشه أهل السودان، لكن هذه الثلة الخيرة، تعيش في ظل واقع يفتقر للبُعد الأخلاقي الغائب في أروقة النظام الحاكم، وبعض فصائل المعارضة ورموزها السياسية التي تؤثر الهجرة إلى خارج الوطن هرباً من مشكلات السودان الآنية؛ الأمر الذي أقعد الخيرين من أهل السودان عن أداء الدور المناط بهم، وجعلهم أسيري بيت أبي الطيب المتنبي "وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ عَيباً *** كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ."

ما علاقة الاستعلاء الخطابي بالفساد؟
قبل فترة مضت وصف الدكتور الطيب زين العابدين بعض العاملين في الدولة بأنهم يأكلون "ناقة الله وسقياها"، وذلك لكثرة فحشهم في أكل مال السحت، ويبدو أن قضية الفساد قد آثارت اهتمام كثير من الإعلاميين المهتمين بشأن الوطن، ومن ضمنهم الأستاذ ضياء الدين بلال الذي طرح هذا الموضوع عبر أكثر من وسيط صحافي، كما جاء في مقاله المنشور في سودانايل: أن الفساد لا يهزم عبر ما أطلق عليه "البرلمانيون مبادرة محاربة الفساد"؛ لأن المبادرة، حسب مبلغ ظنه، لا تتناسب مع ظاهرة وصفها البرلمانيون أنفسهم بـ"اللعنة"، ولا يقاوم الفساد ...

"عبر المبادرات العابرة، والنفرات المؤقتة، ولا عبر مفوضية، توكل لها المهمة بينما يجلس الجميع على مقاعد المتفرجين. محاربة الفساد تحتاج لإرادة سياسية قوية تتصدى لتقوية منظومة النزاهة داخل الحكومة والمجتمع. صحيح هناك من يستخدم الحديث عن الفساد كذراع سياسي لإسقاط الحكومة أو إضعافها،عبر الدعاية السياسية الفجة، وفبركة القصص والشائعات، الأكاذيب بضاعة سريعة التلف. لكن الأزمة الحقيقية أن اشتباه الحكومة في أحاديث الفساد أضعف حساسيتها تجاه المفردة، فأصبحت في بعض الأحيان تعتمد على سياسة استغشاء الثياب والنفي المطلق. القانونيون يقولون، النفي المطلق يقوي الاتهامات ولا يضعفها، لابد من وجود اعترافات وتحقيقات تضع الظاهرة في حيزها الموضوعي. اعترافات ليست كما فعل البرلمانيون أول أمس. وتحقيقات ليست  للتسويف، ومحاصرة القضايا في مساحات النشر. من الطبيعي وجود بكتيريا الفساد في أي دولة، ولكن يصبح الوضع خطيراً إذا بدأت الدولة في التصالح مع الفساد، أو التواطؤ في حمايته!!".

ويبدو أن استخفاف الجهات المسؤولة بانتقادات الأستاذ ضياء الدين بلال وملاحظاته المتكررة، قد دفعه إلى عرض المشكلة المستعصية على "رأس الدولة" نفسه في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بشأن الإصلاحات الاقتصادية ورفع الدعم عن المحروقات؛ إلا أن ملاحظات رئيس تحرير صحيفة السوداني، لم تكن أسعد حظاً من سابقاتها، بل وضعت صاحبها في خانة المغضوب عليهم، الذين حُرم بعضهم من الكتابة في الصحف السيارة بالخرطوم أمثال الدكتور الطيب زين العابدين، والطاهر ساتي، وفيصل محمد صالح. ولم يقف استعلاء الحكومة وغضبها عند أولئك الناقدين الذين يقفون على الرصيف، بل تعداها إلى أبناء ثورة الإنقاذ أنفسهم، فكان مصير الإصلاحيين الذين يتزعمهم الدكتور غازي صلاح الدين، الفصل من المؤتمر الوطني، أو تجميد العضوية، أو التحري المهين لكرامة الإصلاحيين؛ لدرجة جعلت بعضهم يعلن كفره الصُراح بالحزب الحاكم، ويخرج عليه ولسان حاله يقول: "وما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود"، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، عندما نقل قرار المكتب السياسي للمؤتمر الوطني على لسان قوم لوط، قائلاً:﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾.


لماذا أعتذر الأستاذ حسين خوجلي عن التعليق؟
ظل الأستاذ حسين خوجلي لفترة من الزمن يغرد خارج سرب نظام الإنقاذ الذي ناصره في بادئ أمرة، وخرج عليه خروجاً غير محمود العواقب، لذلك أضحى عاموده اليومي على الهواء يشكل فضاءً من فضاءات النقد الصُراح للحكومة وسياساتها ذات الثواب الفاسدة والمتغيرات المفسدة. ولذلك عندما طلب منه الوزير أحمد بلال أن يُعلَّق على خطاب الرئيس، لزم الصمت وجاهر بالاعتذار، رافضاً أن يكون دوره مشابهاً لدور الدكتور الباقر أحمد عبد الله، رئيس تحرير صحيفة الخرطوم، الذي جاهر بفِضَّة القول، جاعلاً سكوت الأستاذ حسين خوجلي سكوتاً من ذهب. ويبدو أن الأستاذ حسين كان له رأي مخالف لما جاء في خطاب الرئيس؛ لأنه في اليوم الثاني للمؤتمر الصحافي شناً هجوماً عنيفاً على سياسات الحكومة الاقتصادية، ووصف رموز عقلها الاستراتيجي بالعجز الفكري، وعدم الشفافية، والمراوغة السياسية التي قادت السودان من نفق مظلم إلى أنفاق ذات ليالٍ دوامس، دون أن يدرك أولئك النفر النصح بمنعرج اللوى. إذاً سكوت الأستاذ حسين خوجلى كان سكوتاً مستنداً إلى مبدأ مناهضٍ لسياسة الحكومة في إدارة الدولة، وصيانة حقوق الشعب السوداني، الذي يعاني من عقوق أبنائه الذين أفسدهم بطر السلطة وجاهها.
ويبدو أن كرس الحكم في السودان هو بيت النحس الحقيقي، الذي يبدل دوماً قناعات الحاكمين، الذين كانوا يصفون أنفسهم بالأمس القريب بـ "المارد الذي لا يكذب أهله"،لكن اليوم تبدلت قناعات بعضهم، بدليل أن بعض الذين ناصروا الإنقاذ في بادئ أمرها، أضحوا أكثر ضراوة في معارضتها، عندما خرجوا من دائرة تفكير النسق، أو قاسوا الأمور بنظائرها، وقيموها في إطار الكسب والخسارة المرتبطة بمصلحة الوطن، دون التخندق في دوائر الكسب الشخصي. وشاهدنا في ذلك كتابات عبد الوهاب الأفندي، والطيب زين العابدين، والتجاني عبد القادر، وخالد التيجاني النور، وعبد الرحيم عمر محيي الدين، وصديق محمد عثمان، والمحبوب عبد السلام، وغيرهم كُثر. إذاً هذا الواقع يقودنا إلى طرح سؤال محوري: هل قادة المؤتمر الوطني لاتعنيهم مصلحة الوطن، بل يهمهم كسبهم الشخصي؟ وهل يَصْدُقَ فيهم قول الأستاذ الراحل الطيب صالح: "من أين جاء هؤلاء الرجال"؟ أجاب أحد المحللين السياسيين عن هذا السؤال بالإيجاب، مستشهداً بحالة المهندس صلاح قوش، رئيس جهاز الأمن الوطني السابق، بحجة أن الرجل يعيش الآن في بحبوحة من الثراء الفاحش، الذي لم يرثه من أجداده وآبائه، بل من كسب الوظيفة العامة الحساسة التي شغلها في العشرين سنة الماضية؛ هل سألت الحكومة نائب دائرة مروي بالمجلس الوطني سؤال واحداً "من أين لك هذا؟". الفريق معاش صلاح قوش وغيره كُثر في المجلس الوطني، هل يتنظر الشعب السوداني من أمثال هؤلاء النواب أن يقودوا تغييراً حقيقياً وإصلاحاً سياسياً في السودان؟ إذا كان الجهاز التشريعي في الدولة غارقاً من رأسه إلى أخمص أصبعة في الفساد، فمن يكون رقيباً صادقاً على الأجهزة التنفيذية؟ويجيب عنهذا السؤال الاستنكاري النائب البرلمان الأستاذ مهدي عبد الرحمن أكرت في محضر حيثيات مثوله أمام لجنة محاسبة الإصلاحيين،واصفاً مسلك الحكومة بالمسلك الفاسد، وسدنتها بالمفسدين الذينيقودون الصلحاء منهم، والبسطاء المستمسكين بشعار "هي لله لا للسلطة ولا للجاه" إلى نار جهنم خالدين فيها أبداً.  

معذبو الأرض في السودان ينتظرون حلاً!
لم يكن الخطاب السياسي الاستعلائي حكراً على النظام الحاكم في الخرطوم، بل أصبح ظاهرة مرضية في السودان، بدليل أن رؤساء الأحزاب الكبيرة أضحوا يسلكون المسلك نفسه، دون أدنى مراعاة لقواعدهم السياسية، والنخب المثقفة التي تلتف حولهم. والشاهد في ذلك أن رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل هجر السودان على خلفية التظاهرات الاحتجاجية، دون أن يعلن موقفاً سياسياً واضحاً من سياسات الحكومة الاقتصادية، وتعاملها الفظ تجاه الآخر المعارض. وفي هذه الأثناء جاء قرار المكتب السياسي للحزب قاضياً بفض الشراكة مع حكومة الإنقاذ الوطني؛ إلا أن هذا القرار المجمع عليه حزبياً أضحى قيد التنفيذ؛ لأنه لم يحظ بمباركة السيد الحسيب النسيب، هل هناك استعلاء أكثر من ذلك؟ وهل هناك تسفيه لآراء النخبة الاتحادية المثقفة أبلغ من هذا التسفيه السياسي؟ وعلى النسق ذاته كان خطاب زعيم حزب الأمة القومي مُحبطاً للجماهير التي تجمعت بميدان الخليفة، رافعةً شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". لا جدال أن هذا الواقع يقودنا إلى وضع علامات استفهام كبرى خلف القيادات السياسية في السودان، وقدرتها على التغيير السياسي والإصلاح. ولعلنا في هذا الشأن نستأنس برأي ماكس فيبر (Max Weber)الذي يصف القيادة الكارزمية بأنها القيادة التي تمتلك رؤيةً ورسالةً، تجاهد في سبيل إرساء دعائمها دون خوفٍ أو وجلٍ، وعندما يثمر ذلك الكفاح تحوله إلى عمل مؤسسي، تتباه الأجيال الصاعدة التي نشأت في كنفها؛ لتفرض مستقبلاً زاهراً،يطوع مبادئ تلك الرؤية والرسالة لتواكب تطلعات العصر وتحدياته. ومن ثم يمكننا القول بأن القيادة السياسية التي لا تصنع جيلاً جديداً،وبديلاً لها، هي قيادة تفتقر للحس المؤسسي، لذلك يجب أن تُجبر على إفساح المجال لدماء جديدة، أكثر تأهلاً.ولو كان هنالك خيراً في بقاء القيادات السياسية في مناصبها أبد الدهر، لما جعلت الديمقراطيات الراسخة في الغرب سقفاً للترشيح وإعادة النظر الانتخابي في شاغلي المناصب السيادية العليا في الدولة والأحزاب السياسية على حدٍ سواء. لكن يبدو أن أزمة السودان تتجلى في النخب السياسية المثقفة، التي تفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية والحس الوطني الشفيف؛ لذلك ظل واقع حكوماتها ومعارضاتها، واقعاً بئيساً، لا يتجاوز دائرة النفاق السياسي. بدليل أن الذين أسسوا ثروات أموالهم ونسائهم من مال الحزينة العامة، يسرحون ويمرحون في شوارع الخرطوم دون رقيب أو حسيب، وأحياناً يتشدقون، من أجل الاستهلاك السياسي، بأن الدستور السوداني يكفل حرية التعبير، والتظاهرات السلمية، والاختلاف في الرأي، متناسين بأن مثل هذه التصريحات تناقض إفرازات المشهد السياسي المحتقن في الخرطوم، بدليل أن الاعتقالات السياسية والسجون مابرحت تطال أساتذة الجامعات، أمثال البروفسيور بلقيس يوسف بدري، والبروفسيور محمد زين عثمان، والبروفسيور بابكر محمد حسن؛ لأنهم عقدوا اجتماعاً "غير شرعي" حسب مواصفات الأجهزة الأمنية، بمنزل البروفسيور مهدي أمين التوم. كل هذا الواقع يعبِّر عن أزمة سياسية مستفحلة،وأن حلها السياسي لا يتحقق إلا بتحرك المثقفين السودانيين والمستنيرين حكومة ومعارضة، وفي مخليتهم مأثورة مارتن لوثر كينغ: "إن أسوا مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة". فالموقف الأخلاقي للمثقف الحقّ يجب أن يتمثل في الوقوف ضد الظلم الواضح،وفي المناداة بالحرية ضد الاستبداد البيّن، وفي الدعوة لمحاسبة الفاسدين والمفسدين في أجهزة الدولة،وفي المطالبة بالديمقراطية للحد من عسف الدكتاتوريات الحزبية الحاكمة والمعارضة، وفي الشفافية التي تقضي بتعيين الرجل المناسب في الوظيفة العامة المناسبة، بعيداً عن تغولات القوى الحزبية الضيقة التي لا تراعي حرمة المصلحة العامة في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، وفي صون حقوق الناس أجمعين.

Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء