معلم الأجيال و التجليات الابداعية الجزء ٢/٢

 


 

 

بقلم: د. محمد حمد مفرح
حسبما ذهبت إليه في الجزء الأول من هذا المقال فان معلم الأجيال و المبدع الاستاذ محمد رشوان شاعر ظل ينظم الشعر معبرا من خلاله عن مختلف المواقف و الوقائع و المناسبات التي صادفته في حياته. اطلعت على نماذج من قصائده فوقفت على شاعرية متقدة تعكس انفعالا عميقا بالمناسبات و المواقف و الوقائع ذات الصلة بتلك القصائد. و بدا لي ان ذلك الانفعال نابع من إحساس صادق يتجلى عبره دفق الشاعرية الحقة. و قد ايقنت، حينها، ان الشعر، و وفقا لأحد تعريفاته هو بالفعل ( محاولة تحويل الدم الى حبر)، أي ان الشاعر ينفعل بموقف او موضوع ما حتى يجري منه مجرى الدم فيدفعه الى التعبير عن ذلك الموقف كتابة، اي القيام بتحويل الدم الى حبر. كما ايقنت بأن القصيدة، كما وصفها احد الشعراء، هي التي تكتب الشاعر و ليس العكس. و هذا يعني ان موضوع القصيدة يدفع الكاتب دفعا للتعبير عنه، أي عن ذلك الموضوع. و بذا.تقوم القصيدة، اتساقا مع هذا المعنى، بدور الفاعل بعد لحظات المخاض الشعري الغلاب.
و يعد التعريف و الوصف انفا الذكر، دون ريب، ابلغ بكثير من احد تعريفات الشعر في اللغة الانجليزية بأنه ( Best words in their best order) أي ( افضل الكلمات الموضوعة في افضل المواضع) أو ان شئت (مفردات منتقاة يتم ترتيبها ترتيبا مثاليا).
من جانب اخر فقد وقفت، من خلال اشعار أستاذنا المبجل، على البعد الانساني الذي تصطبغ به قصائده فضلا عن حب المكان و تجذره في نفسه. ذلك ان موضوعات هذه القصائد هي الانسان المتمثل في أفراد اسرة الشاعر و غيرهم، علاوة على انها تتضمن المكان بكل دفئه و حميميته.
و يتجلى ذلك من خلال نماذج شعرية كثر لشاعرنا الهمام منها
قصيدة نظمها في ابنه معتز المولود في العام ١٩٧٠ و المقيم بالدوحة بدولة قطر، تقول بعض ابياتها:
بني حياتي و كل المنا
حبيب إلى كسحر الدنا
حبيب إلى كبرق السيوف
غداة الجهاد و طعن القنا
حبيب إلى كباقة ورد
و ما الورد غير الجمال لنا
حبيب إلى كنشر الورود
ورود الليالك و السوسنا
حبيب إلى كيوم مطير
بغرب بلادي الجميل هنا
حبيب إلي كمسري الدعاش
يهدهد روحي إذا ما دنا
حبيب إلى كشعبي العظيم
كريم السجايا عريق البنا
حبيب إلى كأرض بلادي
فداها النفوس و أولادنا
و قصيدة أخرى نظمها الشاعر بمناسبة استقباله لابنته مها المولودة في العام ١٩٧٥م بمدينة النهود، و تقول بعض ابياتها:
و ذات صباح جميل
أطلت علينا مها
سمعت طيور الرياض
تغني وتشدو لها
و ورد الحديقة زاد
بهاءا بها و إزدهي
كما ان لشاعرنا مرثية رثى فيها والده الذي توفي في العام ١٩٧٣م، حيث كان وقتها منتدبا للتدريس بليبيا، و تقول:
النار تحرق مهجتي و فؤادي
والحزن في جنبي شوك قتاد
النور قد أضحى بصيصا خافتا
و القلب أصبح مضرب الأوتاد
ما بال عيني قد تحجر دمعها
وعهدتها تهمي كسيل الوادي؟
ما بال قلبي لم يذوبه الأسي
وعهدته - قدما- رفيق سهادي؟
ما بال يومي قد تكدر صفوه
و كسته أحزاني ثياب حداد؟
غاب "الأمين" عن الديار فما بدت
شمس المروءة في سماء بلادي
كان' " الأمين " لكل بيت بسمة
كان " الأمين" لكل ركب حادي
كان "الأمين"إذا مشي في ربعنا
غنت له فوق الغصون شوادي
كان " الأمين" لكل جرح بلسما
عز الدواء تمزقت أكبادي
ما كان مشاءا يشيع نميمة
بل كان زين محافل و نوادي
خبر التجارة لم يطفف وزنه
راجت موفقة بغير كساد
كان" الأمين " إذا تعهد زرعه
جادت سنابله بخير حصاد
لو أن كل القوم كانوا مثله
لغدت بلادي فوق كل بلاد
لو أن في الأمصار كثرا مثله
ساد السلام مكللا بوداد
لو أن هذا الموت كان منازلا
لحملت سيفي و أمتطيت جوادي
و أذقته من صارمي ماذاقه
الأعداء في شيكان من أجدادي
لكنني ما كنت يوما مشركا
أو ضالعا في موكب الإلحاد
ما مات من عاش الحياة كريمة
بل قد سما بمراقي إستشهاد
ستظل سيرتك التي أبدعتها
نورا يضيء مسالك الأحفاد
سيظل ذكرك-يا أبي - في قلبنا
ما قام بالبيت العتيق منادي
و كذلك لشاعرنا مرثية أخرى يرثي فيها شقيقته زينب التي تخرجت في كلية معلمات الأبيض وكانت من الرائدات اللاتي عملن في ريف دار حمر الحبيبة. و تقول المرثية:
أحكي لكم أحبتي من قلبي الحزين
عن شقيقتي العزيزة زينب الأمين
و لا نزكي أحدا علي ذي القوة المتين
غدت زينب في رحاب رب العالمين
هي جذوة وقادة من كرام طيبين
و وردة فواحة من رياض الصالحين
و غرسة أصيلة من الوداد و الحنين
و نسمة عليلة للروح والجبين رفيقة الطفولة و أنضر السنين
كريمة السجايا فهي ذات الدين
قدوتها على الدوام أمهات المؤمنين
و سورة البقرة حرزها المتين
و وردها اليومي و حصنها الحصين
دارها بهية بكل ما يزين
نفورة بطبعها عن كل ما يشين
و عطرها الأثير فل و ياسمين إدمها شهي و ثريدها سخين
و نهجها الإتقان و أداؤها رصين نذرت حياتها لتعليم البنات و البنين
لجارها وضيفها بشاشة في كل حين
إدخلها يا رباه مع غرك المحجلين
أسقنا جميعا من حوض سيد المرسلين
وإجعل يا ربنا كرامك الكاتبين يكتبون ما ينجينا من هول يوم الدين
تغشاك يا أختاه رحمات رب العالمين
كما جادت قريحة شاعرنا بالقصيدة التالية و موضوعها هو مدينة النهود التي غاب عنها لفترة طويلة من الزمن.ثم زارها بعد ذلك فدفعته اطلالتها الى نظم هذه القصيدة. و قد بعث بها للأستاذ ( المذيع وقتها البروف حاليا) عوض إبراهيم عوض و كان يوم ذاك في ذروة شبابه و مجده الإذاعي، و سعد ايما سعادة عندما سمعهاعلي أثير اذاعة أم درمان بصوته الشحي، حفظه الله. و تقول القصيدة:

حللت سعيدا بأرض الوطن
نضوت ثياب الأسى والشجن
فسحر النهود بديع بديع
تبذ " جنيفا" عروس المدن
بلاد الرجال الأباة الأولي
شقوا بظفر صخور الزمن
بلاد الشباب الوفي الذي
ألان بعزم قناة المحن
بلاد الشباب الأبي الذي
أقام وعلا صروح الوطن
بلاد الصبايا ذوات العفاف
بلاد الحرائر ، طوبى لهن
كم من محب براه الهوي
أراه صريعا بهن أفتتن
أحب الخريف ومسري
الدعاش
يهدهد روحي إذا الليل جن
أحب إخضرار الربي والمروج
سجع الحمائم فوق الغصن
أحب التبلدي وصمغ الهشاب
و أهوى سنابل عيش الدخن
إذا لم أغن بحب النهود
قل لي بربك أشدو لمن
و إليك، عزيزي القاريء، أبيات من قصيدة أخرى نظمها شاعرنا المجيد في العام ١٩٧٣ خلال العطلة المدرسية في ليبيا حيث زار كلا من إيطاليا و سويسرا و فرنسا و بلجيكا. و قد بدأ رحلته على متن طائرة كرافيل ليبية ثم سافر بالقطار من محطة روما عبر سويسرا إلى العاصمة الفرنسية باريس، و واصل رحلته برا إلى العاصمة البلجيكية بروكيا، وأخيرا زار ميناء انتورب البلجيكي. و قد نظم هذه القصيدة و هو على متن القطار قائلا :
فجر الحضارة في باريس مزدانا
و ليل الحضارة في باريس قد حانا
فمن روما عبرت جنوبها ثملا
من سحرها الأخذ نشوانا
و قطارنا المراح يجوب رحابها فرحا
في دفتيه حوي درا و مرجانا
قد كنت أحسبني والسحر
يأخذني
في قلب عدن وذاك الشعب رضوانا
بشوشا ودودا باسما أبدا
شيباوشبانا صبيات و ولدانا
من الواضح و الجلي ان أستاذنا الجليل محمد رشوان، و كما تعكس قصائده السابقة، ظل يحمل منطقة دار حمر في دواخله، معبرا عن حبه للمكان بكل ابعاده الجاذبة، و الانسان بكل سجاياه السمحة، و كذا الزمن الجميل. و كاني به يحاكي الكاتب الايرلندي جيمس جويس و الذي سأل، ذات مرة عن مدى شوقه لمدينته التي أحب (دبلن) بعد أن فارقها فترة من الزمن، فقال قولته الشهيرة: (أنني لم افارقها قط) معبرا بذلك عن انه يحملها في دواخله.

و بعد ...اثرت، من خلال المقال السابق المكون من جزءين ان اشرك معي القاريء الكريم في سيرة و مسيرة أستاذنا الجليل محمد رشوان، هذا المبدع و الشاعر المرهف و العاشق للتراث. و في حقيقة الأمر فهو، في الاصل، قد تواصل معي بغرض تزويدي بنماذح من التراث الغناني بدار حمر حتى اضيفه الى ما يتوافر لدي من مواد تراثية، لكنني عمدت الى استنطاقه و كانت محصلة ذلك هذه السيرة الباذخة و المسيرة الزاخرة بالابداع.

mohammedhamad11960@gmail.com

 

آراء