معمر القذافي .. عقيداً دولياً وقرصاناً جوياً! (الحلقة التاسعة) .. حسن الجزولي

 


 

 


(القصة الكاملة لاختطاف طائرة الزعيمين السودانيين بابكر  النور وفاروق حمدالله عام 1971 بواسطة معمر القذافي وإشرافه)
* عدم إشارة العطا في خطابه لموكب المنظمات الجماهيرية بأمر الاختطاف ساهم في غياب التعبئة الجماهيرية الواسعة للدفاع عن 19 يوليو!.
* العطا لم يوجه بياناً إذاعياً بإسمه للجماهير يدعوها للخروج لحماية 19 يوليو وقد وصف الدعوة بالرعونة!.
* من هي الجهة التي وجهت بإذاعة بيان يدعو جماهير أكتوبر بالخروج لشوارع إكتظت بدبابات معادية لها؟!.
* جميع المحاكمات الايجازية بمعسكر الشجرة كانت أقرب إلى التشفي والانتقام من توخي العدالة!.
* المقدم صلاح عبد العال مبروك هو من حكم بإعدام بابكر النور خضوعاً لرغبات النميري خلافاً لجميع القضاة العسكريين الذين رفضوا ذلك!.
كتاب جديد بالعنوان أعلاه، دفع به كاتبه د. حسن الجزولي إلى المطبعة، والكتاب يوثق لأحد أشهر عمليات القرصنة الجوية التي بدأ بها عقيد ليبيا معمر القذافي حياته السياسية في فضاء التدخل والتعدي على السلام الدولي، عندما أمر باختطاف طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي كانت تقل كل من المقدم بابكر النور سوار الدهب، والرائد فاروق عثمان حمدالله، عند سفرهما من لندن في طريقهما إلى الخرطوم، كقيادات جديدة للنظام الذي أطاح بحكومة النميري في إنقلاب 19 يوليو عام 1971، ذالك الاختطاف الذي أدى إلى تسليم القذافي كل من بابكر وفاروق إلى النميري العائد إلى السلطة كالمسعور بعد إجهاض الانقلاب، ليبعث بهما إلى دروة الاعدام!،  الميدان تبدأ في تقديم مقتطفات من بعض فصول الكتاب في هذه الحلقات المتتالية، لتعريف الأجيال الجديدة، بتاريخ قديم لـ ” ملك ملوك أفريقيا) و ( عميد الحكام العرب) الذي يترنح نظامه الآن تحت ضربات الشعب الليبي البطل!.
د. حسن الجزولي
الخرطوم، الخميس 22 يوليو1971 الساعة العاشرة صباحاً:-
مباشرة ، بعد أن علم باختطاف، طائرة الخطوط الجوية البريطانية، بواسطة الليبيين وإجبار كل من بابكر وفاروق بالنزول منها، كما سبق وأن إستعرضنا، توجه الرائد هاشم العطا، إلى حيث إنتظم الموكب الضخم، المؤيد لإنقلاب 19 يوليو، ولقد إضطر لمخاطبة الموكب بدلاً عن رئيس البلاد الجديد، الذي أصبح مختطفاً الآن!، حيث لم يشر العطا في خطابه، إلى معلومة “الاختطاف”، لا من قريب أو بعيد، خلافاً لإعلان إذاعة أم درمان عن ذلك بطريقة غير مباشرة، بعد أقل من ساعة ونصف، من إنفضاض الموكب الجماهيري، من ساحة القصر الجمهوري بوسط الخرطوم، وهو ما ساهم ربما في غياب تعبئة الجماهير العريضة المؤيدة لـ19 يوليو والتصدي للدفاع عنها!.
فقد قطعت الاذاعة برامجها النهارية، لتذيع خبراً أثار غرابة، حول قتال يدور وتدخلاً أجنبياً يقع، ثم بدأت الاذاعة منذ تلك اللحظة، تردد النداءات تباعاً لجماهير “أكتوبر”، للخروج لحماية الثورة، وفيما بعد أضافت الاذاعة للبيان الذي نسبته لبيان العطا السابق ” أن قواتنا تقف الآن بصلابة في مواجهة التدخل الأجنبي وإنني أناشدكم – أيها المواطنون – للخروج للدفاع مع قواتكم عن ثورتكم”!، ولقد إتضح فيما بعد، أن الرائد هاشم العطا لم يوجه مثل ذلك النداء، ولم يوجه بإذاعة خبر عن تدخل أجنبي!.
فقد حدث – حسب إفادة الملازم أول مدني علي مدني – بأن “سلاح الطيران طلب أن تتدخل الطائرات، لتمنع الدبابات من التقدم باتجاه القصر، وأنا من أجبت على الاتصال، الذي وردنا من سلاح الطيران، وتحدثت إلى أب شيبة، ونقلت له ما قالوه، فأخذ أبشيبة سماعة الهاتف، وتحدث مع القاعدة الجوية، واتصل لاحقاً بهاشم العطا، عارضاً عليه الأمر، فأجاب هاشم العطا:-البيان الأرعن الذي يذاع في الخارج، والذي يدعو الجماهير للخروج لحماية ثورتهم، حمل المدنيين للخروج، واعتلاء الدبابات ظناً منهم أنها دبابات لحمايتنا، والدبابات مليئة الآن بالمدنيين، والطائرة سلاح منطقه لا يفرق بين المدني والعسكري، فلا مجال لاستخدام الطائرات وعلينا أن نتحمل مسئوليتنا لوحدنا”! (صحيفة الوفاق السودانية، أبريل 2008).
…………………
وهكذا تداعت الأحداث، سراعاً، فاستطاع النميري العودة إلى الحكم، بعد الاجهاز على إنقلاب 19 يوليو، الذي لم يستمر لأكثر من 27 ساعة، تلك العودة التي شكلت كثيراً من علامات الاستفهام، بسبب الغموض الذي اكتنف معظم وقائعها، الأمر الذي أهلها لأن تكون، في صدارة إهتمامات كثير من المتابعين، الذين ما يزالون يتراكضون خلف المعلومات، في محاولة لفك كثير من شفرات الغموض، الذي أحاط بها من كل جانب، وليجاوبوا على معظم الأسئلة، التي لم توجد لها إجابات بعد، بما فيها عملية القرصنة على الطائرة البريطانية!.
وعلى الفور شكل النظام العائد لسدة الحكم، محاكم عسكرية إيجازية، للاقتصاص من قادة المحاولة الانقلابية، وشهدت البلاد أكبر حملة من إعتقالات ومطاردات، طالت أعضاء الحزب الشيوعي السوداني والقوى المشايعة لهم.
ففي غضون أقل من أيام محدودة، من إجهاض الانقلاب، تم إعدام قادة المحاولة الانقلابية، والذين  كان في مقدمتهم هاشم العطا قائد الانقلاب، وجميع رفاقه، الذين شكلوا معه عضوية مجلس قيادة الثورة، إضافة لقادة عسكريين آخرين، كعبد المنعم الهاموش وأب شيبة ومحجوب طلقة، كما طال الاعدام كل من عبد الخالق محجوب سكرتير االحزب الشيوعي السوداني، والشفيع أحمد الشيخ رئيس نقابات عمال السودان، ونائب رئيس الاتحاد العالمي للنقابات، والقائد الجنوبي جوزيف قرنق المحامي  وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والحكم بالسجن طويل المدى على العشرات من العسكريين والمدنيين، فضلاً عن استقبال سجون العاصمة ومدن البلاد النائية، الآلاف من المعتقلين السياسيين تحفظياً، وقد جرى كل ذلك دون توفر، أبسط الحقوق أو توخي العدالة، في تطبيق القانون، فكانت المحاكمات أقرب إلى التشفي والانتقام، الأمر الذي ووجه بحملة عالمية وأقليمية واسعة، شجبت حمامات الدم التي جرت في البلاد، وطالبت النظام بغل أياديه، ودمغته بالدموية والمنتهك للحقوق الانسانية.
ولقد شكل معسكر الشجرة جنوب الخرطوم، معتقلاً ضخماً زُج فيه بالمئات من العسكريين والمدنيين، الذين تشكلت لهم محاكم عسكرية سريعة، لم تكن لتدوم أكثر من ربع الساعة، لتبعث بمحكوميها إما إلى دروة الاعدام، رمياً بالرصاص، أو إلى مشنقة سجن كوبر الكالحة بمنطقة الخرطوم بحري،وأما من  ينجو من الموت، فإن سجون السودان النائية تستقبله  بالأعوام طويلة المدى!.
ففي إفادته، يؤكد العميد حقوقي عبد المنعم عبد الله حسين، أنه التقى بمعسكر الشجرة، العميد تاج السر المقبول، الذي تم تكليفه برئاسة المجلس العسكري الايجازي، لمحاكمة المقدم بابكر النور، وتناقشا حول سير المحاكمة، وجرت الاشارة إلى أن إصدار حكم الاعدام، في حق كل من بابكر وفاروق، لا يمكن أن يصدر باعتبار أنهما ” لم يشتركا فى تفكير ولا تخطيط ولا تنفيذ، ثم يواصل موضحاً:- “كما لا أنسى بأني قلت له إن السابقة الوحيدة فى حكم الاعدام، بالنسبة للبكباشي علي حامد وأخوانه ( قاد محاولة إنقلابية عام 1959 ضد الحكم العسكري الأول للجنرال إبراهيم عبود وأعدم مع بعض رفاقه في أعقاب فشل المحاولة- الكاتب)، قد خلفت المزيد، من الأسى والندم والخسران، واتفقنا على التدرج بالحكم “!. كان العقيد حقوقي عبد المنعم، حريصاً على تطبيق القانون بصورة صحيحة وسليمة، ربما لأنه لمس غياب هذ القاعدة، منذ أن دلف إلى معسكر الشجرة بالخرطوم، وأحساسه بفداحة ما يجري ويتم، في هذا المعسكر (الرهيب)، عندما شاهد أحد الضباط مخفوراً، وبصحبته ثلاثة ضباط يمثلون مجلساً عسكرياً، وهم في طريقهم الى أحد المكاتب لمحاكمته، “فقلت وبصوت واضح أين الشهود في هذه المحاكمة؟، فرد علي النميري ساخراً” أنت لا تعرف مثل هذه المحاكمات، والشهود هم المحكمة نفسها تشهد على ما فعل هؤلاء!.

أصدرت المحكمة، التي ترأسها العميد تاج السر المقبول، حكمها على المقدم بابكر النور ب12 عاماً سجناً، رفض النميري نتيجة الحكم، وأعاد الأوراق مرة أخرى، ثم أُعيدت المحاكمة وصدر الحكم ب 20 عاماً، وعندما أعاد النميري الحكم للمرة الثانية، رفض العميد تاج السر أن يرأس المحكمة، ورفض كل الضباط الذين كُلفوا برئاستها، باعتبار أن نميري يريد فرض حكم الاعدام، حيث كان في كل مرة، يعيد أوراق الحكم قائلاً: ده رئيس مجلس ثورة تحاكموه كده؟!، ثم اتصل بالمقدم صلاح عبد العال مبروك تلفونياً، فجاء وتسلم أوراق القضية وحكم على بابكر النور بالاعدام!.(د. حسن الجزولي، عنف البادية، وقائع الأيام الآخيرة في حياة عبد الخالق محجوب، السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني، دار مدارك، الخردوم – القاهرة 2006)
hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]

 

آراء