علق عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن أحد مقعدي ولاية الجبل الأخضر (فيرمنت) في مجلس الشيوخ الأمريكي (ال سينت) ، السناتور بيرني ساندرز ، حملته الانتخابية الرامية للحصول علي ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر المقبل لمنازلة الرئيس الجمهوري الحالي دونالد ترامب الذي سيخوض بدوره غمار الانتخابات للحصول علي دورة ثانية تمتد لأربع سنوات تبدأ في العشرين من شهر يناير من العام المقبل ٢٠٢١. والسناتور ساندرز مصنف في كشوفات عضوية مجلس الشيوخ بأنه عضو مستقل. صحيح أنه يصوت في الغالب مع النواب الديمقراطيين للتقارب الأيديولوجي الذي يجمعهم. وللمفارقة فهو أشبه في الالتزام الحزبي بالرئيس دونالد ترامب الذي ظل طرفاً مقدراً من عمره يصوت للحزب الديمقراطي ويدعم حملات أعضائه في الانتخابات التشريعية منها والرئاسية. السياسة الأمريكية ليست كالسياسة في القارة الأوروبية حيث الالتزام الصارم بالولاء شبه المطلق للبطاقة الحزبية. ففي أمريكا يكون الأمريكي أو الأمريكية محافظاً في الجانب الاقتصادي ليبرالياً في القضايا الاجتماعية كقضايا الإجهاض والحقوق المدنية. وبالتالي تتحكم في الادلاء بصوته القضايا المطروحة للتصويت لا البطاقة الحزبية فمثلاً زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ السناتور ميتشل مكلوم يمثل بالنسبة للديمقراطيين خاصة من هم علي يسار الحزب ، رمزاً قبيحا للمحافظ المتزمت لكنه كان من أقوي المؤيدين لحركة الحقوق المدنية كما أنه وهو صغير في السن قد شارك في مسيرة واشنطن عام ١٩٦٣ التي ألقي فيها الدكتور مارتن لوثر كنق جونيور خطبته الأشهر (لدي حلم) والتي أصبحت محطة هامة من محطات الكفاح المدني في تأريخ الولايات المتحدة الأمريكية ومثله بعض رموز الجمهوريين مثل الراحل (جاك كيمب) الذي كان عضوا في الكونقرس ووزيراً وكان يحظى بشعبية حيث أنه كان في شبابه رياضياً معروفاً. أذكر أني حرصت علي لقاء الرجل أول قدومي علي واشنطن ، رئيساً للبعثة فقال لي بأسي (ستواجه ظروفاً صعبة ومعقدة لكن ستجد أيضاً قلة من المتعاطفين مع السودان وكان يعني نفسه). شاهد آخر على مرونة الحزبية الأمريكية، ففي عهد الرئيس رونالد ريقان انحاز بعض الديمقراطيين المحافظين في الجانب الاقتصادي لريقان الذي يعد أيقونة المحافظين في الحزب الجمهوري وظلوا يصوتون له فأسموهم (ديمقراطيو ريقان)! لكن يبدو أن العالم قد سئم مؤخراً الهياكل والنظم المرعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فعلي النطاق الدولي ظلت العلاقات الدولية محكومة بالمنظمات السياسية والاقتصادية التي صنعها المنتصرون في تلك الحرب. وفي داخل البلدان الصناعية ظلت مؤسساتها السياسية والاقتصادية هي نفسها لم تتغير مواكبة للكثير الطارئ من المتغيرات أو فلنقل إن تلك النظم والهياكل قد شاخت وفقدت فاعليتها إذ لم تعد تلبي حاجات المجتمعات مع اضطراد وتطور تقانات النقل والاتصال وتزايد أعداد السكان والمخاوف من سطوة الآلة في المستقبل القريب وفقدان الوظائف وسبل كسب العيش. انقسم الناس إزاء مخاوف ما يحمله المستقبل المجهول إلي فريقين: فريق يشكل غالبيته الكهول والشيوخ وسكان الأرياف بات متوجساً من جرأة غير مسبوقة علي ما ورث من منظومة قيم وطرائق حياة معتادة ومرعية شاب عليها ، تقود تلك الحملة ضد هذا الفريق المحافظ ، الأجيال الناشئة من الشباب المتمردة علي القديم و المتخوفة من مستقبل مجهول تروم استعدادا له، تغييرات تفسح لها مكانا تحت الشمس . هذا الفريق من الكهول والشيوخ متخوف من قادم ينكره شكلاً ومضموناً تصنعه أجيال من جنسه وفي بلده، فيصوب الملامة والنقمة عليه إلي الليبراليين في الداخل الذين حولوا المؤسسات الصحافية والإعلامية ومراكز البحوث وبعض الجامعات ذات الصيت إلي أصنام تعبد فعزم هذا الفريق المحافظ محاربة هذه المؤسسية النخبوية، وهي كما ترون، هدف مشروع في حرب الرؤي هذه، لكن الحملة تخطت تلك الحدود فأنزلق ذلك الغضب علي (الغير) المختلف عرقاً ولوناً وثقافة وديناً فكانت هذه الشعبوية العنصرية البغيضة التي تجتاح العالم الغربي وبعض بلدان الشرق. وترامب أبعد في معظم الحيثيات المذكورة ، عدا عنصرية موروثة، عن هذا الفريق لكنه ركب الموجة التي أفضت به إلي العنوان ١٦٠٠ شارع بنسلفانيا ، عنوان البيت الأبيض البريدي ، ليصبح عكس كل التوقعات رئيساً لأغني وأقوي دولة في العالم. أما الفريق الآخر فهو الذي ساهم في فوز الرئيس باراك أوباما قوامه الشباب من كافة الألوان والأعراق والمعتقدات فلما حاولت هيلري كلينتون وراثته ووقفت مؤسسة الحزب الديمقراطي ممثلة في نواب الحزب في الكونقرس وفي حكام الولايات وفي المراكز البحثية معها ، ثار الشباب ضدها وبحث عن شبيه لأوباما يكون رمزاً للتغيير والتمرد علي مؤسسة الحزب ، فكان السناتور المستقل بيرني ساندرز وهو صاحب توجهات استهوت الشباب أهمها مناداته بالتأمين الصحي الحكومي لكل المواطنين ومجانية التعليم الجامعي وكسر سطوة (وول استريت ) علي الاقتصاد الأمريكي. وول استريت موجودة بالفعل كشارع يمتد لثمان مربعات في مانهاتن بنيويورك يضم أهم المؤسسات المالية ولكن السناتور ساندرز يرمز به لمجمل الاقتصاد الأمريكي الذي تتحكم فيه العشرة بنوك الكبرى وأسواق الأسهم المالية ومؤشراتها وشركات الأدوية والبترول وأصحاب المليارات ومن وراء ذلك كله بنك الاحتياط المركزي الذي يتحكم في أسعار الفائدة والذي يتهمه السناتور بمحاباة الأغنياء علي حساب الفقراء والطبقة الوسطي ويري أن طبقة أهل الحظوة التي تستأثر بالثروة ، لا تتجاوز واحداً في المائة ولا تدفع الضرائب . وهو يدعو كذلك للسعي الحثيث للتخلي عن الطاقة المنتجة من الوقود العضوي (البترول بمشتقاته المختلفة) لآثارها السالبة علي البيئة وزيادة حرارة الأرض ويعارض بشدة خصخصة إدارة السجون لشركات من القطاع الخاص. وفي السياسة الدولية يري دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم و يدعو للتعاون الدولي بديلا للتورط الأمريكي في الحروب. وبشأن الحق الفلسطيني فرغم أنه يدين باليهودية إلا أنه داعم قوي لحل الدولتين ولإنصاف الفلسطينيين وقد رفض تلبية دعوة اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة المعروفة اختصارا ب AIPAC وهي أقوي لوبي سياسي في الولايات المتحدة بعد اللجنة الوطنية لحمل السلاح. والمترشحون من الحزبين يتسابقون لخطب تأييد هذه اللجنة لتأثيرها القوي في الانتخابات ولتأكيد دعمهم لإسرائيل. ولعل هذه هي المرة الأولي التي يقحم فيها هذا التأييد لقضية فلسطين في سياق التيار الرئيس في الانتخابات الأمريكية وهو موقف سيكون له ما بعده. وهذا حراك شعبوي من نوع مناقض لشعبوية ترامب لكنه مثله يحاول الفكاك من سطوة النخب والخروج علي الراهنية الموروثة status quo. قلنا علق الرجل حملته الانتخابية معللا ذلك بأن الفارق بينه وبين منافسه نائب الرئيس السابق جو بايدن ثلاثمائة مندوب يتفوق بها بايدن عليه للفوز بترشيح الحزب في المؤتمر العام للحزب وأنه لا سبيل لردم تلك الهوة العددية وأنه كان في مقدوره الاستمرار في الحملة حتي قيام المؤتمر العام للحزب لكنه تقديرا لظروف البلد مع مرض كورونا والخسارة الاقتصادية المتوقعة جراء ذلك ومعاناة الأمريكيين نتيجة لذلك فإن ضميره لا يسمح له بإهدار الجهد وتشتيت الاهتمام فالبلد بحاجة لرئيس بديل يعي ذلك كله . يعني بذلك تصويب الرمية لإلحاق الهزيمة بترامب بالتعاون مع الرجل الذي يمكن أن يحقق ذلك وهو جو بايدن .فالسناتور يعلم رغم أنه يحظى بشعبية كبيرة إلا أن بايدن الواقف علي يمينه ايدولوجياً والمدعوم من مؤسسة الحزب ، أقدر منه علي منافسة دونالد ترامب وربما الفوز عليه استناداً إلي تفوقه بعدد المندوبين الذين سيختارون مرشح الحزب في المؤتمر العام و في بلد رأسمالي سيما وهو (ساندرز) موسوم بأنه(اشتراكي). والحق أن البعد الاقتصادي ليس وحده العامل في مواقف الناخبين الأمريكيين، فهذا بلد قام علي ولايات شبه مستقلة تخشي من تقوية حكومة الاتحاد (الحكومة الفدرالية) وتغولها علي الحريات الشخصية والأعراف المرعية في كل ولاية، فكثير من الفقراء والمنتسبين للطبقة الوسطي يعد التأمين الصحي الشامل الذي تنظمه الحكومة الاتحادية والذي يدعو ساندرز لإقراره من قبلها ، في مصلحتهم بلا ريب ،إلا أنهم يترددون في منحها هذا الحق. وكثير من أوساط الناس يريدون من الحكومة الفدرالية أن تحصر نفسها في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية وحماية خدمات البريد وأن تترك لولاياتهم وحكوماتهم المحلية تدبير شؤونهم كما يشاءون. وتلك مزية النظم الاتحادية الحقة. شكر الرجل داعميه عند إعلان تعليق حملته مشيرا إلي أن الحملة التي دعمها الفقراء والشباب بعيداً عن أباطرة الغني والمليارديرات حتي حققت إنجازات انتخابية كبيرة في ولايات كثيرة السكان (كاليفورنيا مثالاً)، وإن لم تبلغ غايتها بالفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، فقد حققت ما يلي قال: "لقد تمكنا جميعاً من إحياء الضمير الأمريكي نحو السعي لتحقيق أمريكا التي نريد أن تكون .لقد نقلنا معاً هذا البلد نقلة استراتيجية عبر نضال مستدام لا يتوقف إلي فضاء العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعدلية والبيئية ." ثم وصف ما تحقق والذي بدا مستحيلاً في البداية باقتباس من الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا ، الذي وصفه بأنه أحد أعظم المناضلين من أجل الحرية في تاريخ البشرية، " تبدو الأشياء مستحيلة إلي أن تتحقق." وأعني بذلك -قال-بأنه رغم العوائق الكبيرة والعراقيل في وجه التغيير الاجتماعي الذي تقف وراءه الشركات الضخمة والمؤسسة الحكومية لتحجيم رؤيتنا لما يمكن تحقيقه ولما نستحقه كبشر، فقد حققنا الكثير. إننا إن لم نؤمن بأننا نستحق تأميناً صحياً شاملا وأن ذلك من صميم حقوق الإنسان فإن ذلك لن يتحقق وإن لم نؤمن بأننا نستحق حداً كريماً أدني للأجور فإن الملايين منا سيظلون يعيشون في الفقر والمسغبة واننا إن لم نؤمن بأن التعليم الكامل حق يمكننا من تحقيق أحلامنا، فالكثيرون منا سيتركون حجرات الدراسة أو يكملوا (بالاستدانة) وعلي عواتقهم ديونا باهظة ،وإننا إن لم نؤمن بأنه من حقنا أن نعيش في عالم يتمتع ببيئة نظيفة لا تعصف به ظواهر تغيير المناخ فسنظل نعيش عالماً يعاني من الجفاف والفيضانات المدمرة وارتفاع مناسيب البحار وعالما تتعذر الحياة فيه. إننا إن لم نؤمن بأنه من حقنا أن نعيش في ظل العدالة و الديمقراطية والإنصاف وحقوق إنسان لا تعرف التمييز العرقي والديني والجنسي فسنظل في دوامة الفوارق الاقتصادية والتمييز والعنف وترويع المهاجرين وسيظل آلاف الأمريكيين يعيشون الفقر المدقع في الشوارع بلا مأوي في أغني بلد علي وجه الأرض. إن التركيز علي هذه الرؤية كان هو بؤرة اهتمام هذه الحملة خلال الخمس سنوات الماضية (أي منذ حملته الأولي في الانتخابات السابقة). ولقد كسبنا المعركة الإيديولوجية وفي جميع الولايات الحمراء والزرقاء والبنفسجية ( المؤيدة للديمقراطيين "زرقاء" و للجمهوريين "حمراء" أما البنفسجية فيتقاسم الحزبان التأييد فيها). واستطرد بالقول إنه وفقاً لاستطلاعات الرأي "فإن معظم الأمريكيين في الولايات التي جري فيها التصويت يؤمنون بأن الحد الأدنى للأجور ينبغي أن يرفع ل١٥ دولاراً في الساعة وأن الأكثرية في الولايات التي فزنا فيها و تلك التي لم نفز فيها ، تري أن التعليم الجامعي ينبغي أن يكون مجانا و يرون كذلك التوقف عن استخدام الطاقة المستخرجة من البترول حفاظا علي البيئة. وقال " إننا لم نكسب إيديولوجيا فقط بل تمكنا من اقحام هذه الرؤية التي كان ينظر إليها باعتبارها راديكالية معزولة ، في قلب السجال الرئيس العام بل بدأ تطبيق بعضها في بعض الولايات والمدن. أمر مبشر آخر قال " هو أن قوام حملتنا المستمرة من الشباب دون الخمسين ودون الثلاثين وذلك يعني أن المستقبل قمين بتحقيق هذه الرؤية علي أرض الواقع في هذا البلد الجميل. أما موضوع التأمين الصحي الحكومي الموحد فقد أثبتت الآن جدواه، جائحة فيروس الكرونا الذي يجتاح العالم وغدا ينظر إليه كحق من حقوق الإنسان لا مجرد مصلحة تحققها الوظيفة ." ونشير إلي أن بين الفريقين المذكورين من التباغض والكره ما صنع الحداد. لكن الدستور والنظم الراسخة القائمة عليه تنجح دائما في امتصاص هذا الاستقطاب الحاد وتنتصر للديمقراطية. أما في المجتمعات التقليدية التي لم يستقم عودها بعد ولم يجمع بين سكانها جامع قوي في معني الوطن الواحد، يوشك مثل ذلك الاستقطاب أن يضرب النسيج الاجتماعي الهش في مقتل فينتسب الناس للجهات والقبائل والانتماءات الصغيرة فينكشف ظهر الوطن للفتنة وللتدخلات الخارجية. حملني علي السعي لإشراككم في الاطلاع على هذا الموضوع، مثابرة هذا الرجل الذي يطرق أبواب الثمانين من العمر وهو يسعي بهمة الشباب وحماسته لغرس هذه المبادئ التي لا يشك عاقل في نبلها وإنسانيتها وإن اختلف معه في بعض جزئياتها أو رأي في بعضها (يتوبيا) عصية علي التحقق في ظل واقع خشن كثيف. وما أحسب أن الرجل منذ حملته في الانتخابات الماضية كان غافلاً عن صعوبة مسعاه في الوصول للرئاسة في بلد يعد حاضنة ورمز النظام الرأسمالي في العالم. لكن يقيني أنه كان يطمح في ترسيخ الرؤي ووضع اللبنات. لقد استشهد باقتباس لزعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كنق جونيور ، كان أثيراً أيضاً لدي الرئيس أوباما ، أن الغاية تتحقق رغم طول المسافة وأن السفينة تصل رغم الأنواء ، " إن قوس الكون الأخلاقي طويل، إلا أنه ينحني في اتجاه العدالة ." أي في نهاية الأمر. لقد خلد التأريخ العظماء الذين نذروا حيواتهم لغرس المبادئ والقيم النافعة بشجاعة ونكران ذات بل وقضي بعضهم وهو في شبابه الغض من أجل ذلك الغراس. ولعله من أكثر الآفات وأمَر المذاقات وأمَض الخيبات أن يصر السياسي علي تحقيق كل رؤاه في سنوات عمره المحدودة وإن تطاولت فإنها في أغلب الأحيان لا تتحقق وإن تحققت فلا تبقي بعده طويلاً. قصارى الجهد أن تثابر علي غرس فسيلة نافعة تثمر خيراً واستقرارا ونفعاً في حديقة الإنسانية ينعم الجميع بظلالها الوارفات وينالوا من ثمارها الدانيات على مر الأزمان.