أوصاني (عزازيل) الملحق الإعلامي بدبي محمد محمد خير الذي أهداني هذه الرواية البديعة, أوصاني أن أتوقف طويلا عند غوايات اوكتافيا، ولكن لم أجد غوايات اوكتافيا إلا عند الصفحة الثمانين. يالها من غوايات! كيف لا ومحمد خير مبدع في الغواية والرواية معا. ولن تدرك عزيزي القارئ إبداع هذا الملحق الغاوي إلا عندما تتخيل مشية اوكتافيا على شاطئ البحر، وترى تموّج جسدها منغّما على إيقاع الموج حين يرتطم بصخور الشاطئ، فتنشي اصطخابا بداخل القس هيبا، فيصنع من ذلك نشوته العليا. يقول هيبا بطل الرواية (لطالما أحببت الأشياء التي تتم, فقط, في داخلي ويريحني أن أنسج الوقائع في خيالي وأحيا تفاصيلها حينا من الدهر، ثم أنهيها وقتما أشاء.. كانت تلك طريقتي التي تعصمني من ارتكاب الخطايا). ولكن لم يكن للقس هيبا عاصم هذه المرة من غواية اكتافيا وسحرها وغنجها، فسلّم لها نفسه فاسلمته الى خدر لذيذ.. فعل معها مالم يفعله أحد من قبل أو من بعد كما قال.
على أن الذي فعله معنا الدكتور لام أكول أيضا لم يفعله سياسي من قبل، ولا أظن أن أحدا سيفعله من بعد. كان السياسيون حينما كان الزمان سمحا إذا ما اختلفوا شتموا بعضهم في البرلمان بأقذع الشتائم، حتى إذا ما أرخى الليل سدوله تجمعوا على مصطبة ذلك السياسي الشهير، فأداروا فيما بينهم كؤوس الجِن والشري أبو تركتر والبيرة أم جمل، وتآنسوا وضحكوا، ومضوا مغسولين من كل حقد.
لم أسمع أن سياسيا جرجر صحفيين فى ذلك الزمان على بلاط السجون، كما أن شح أنفسهم لم يقُدهم للتكسب من عرق الصحفيين وإن كانوا مخطئين!!. لا أدري مادفع لام أكول الذي لاشك في ذكائه على أن يخوض هذه المخاضات المقيتة في صراع كان يكفيه فيه أنه انتصر بإصدار القاضي حكما لصالحه وإدانة المسئولين والكاتبين والصحيفة!!.
هنالك احتمالان: أن يكون الصراع السياسي المحتدم داخل أروقة الحركة الشعبية والذي يمضي لنهاياته الآن، قد أوغر صدر دكتور لام فعماه أن يرى أية قيمة أخرى، وقرّر أن ينتقم من الذين اعتقد أنهم يظاهرون الطرف الآخر في الصراع. وكنت في بداية المحكمة أشيد بنهج الدكتور وزير الخارجية آنذاك، الذي كان يأتي للمحكمة ويقف مدافعا عن حقه، وكان هذا سلوك حضاري طالما طالبنا به المسئولين، فعِوضا عن زجّنا في السجون دون محاكمات، من الأفضل أن يتقدموا للقضاء فيحكم لهم أو عليهم بما هو حق. وحين تقدم الأمن بشكوى للقضاء ضد الزميلين عروة ونور الدين، أشدت بالخطوة التي أقدم عليها جهاز الأمن، وقلت كلما حسمنا اختلافاتنا بالقانون كنا أقرب للحق والعدل. لم ولن أغضب لأن دكتور لام قد أخذ مايعتقد أنه حقه عبر القضاء، ولكن مايصيب المرء بالحزن أن لام قد أهدر قيم التسامح والعفو عند السودانيين!! هي أنبل وأسمى من كل انتقام.
الاحتمال الثاني أن الدكتور لام أكول فى حاجة الى المبالغ التي سددناها له؟. ولكن هذا احتمال ضعيف، فالمبلغ المطلوب لايُسيل لُعابا، ولا أظن أن الدكتور بلغت به الحاجة ليلهث وراء ملايين لاتغني ولاتسمن. التفسير الأقرب الى الحقيقة، هو أن الدكتور في خضم صراعاته الممتدة مع أجنحة داخل الحركة الشعبية، سمّى لنفسه غاية واحدة وهدف هو إراحة نفسه بفعل انتقامي يصيب من يصيب من الكُتاب والصحفيين. على أن من شيم السياسيين الكبار لجم سوءات أنفسهم وشحها وتدريبها على العفو والتسامح حتى محبة الخصوم.
أيها السياسيون لكم في الصادق المهدي والترابي أسوة حسنة، فما قيل عن الرجلين في تاريخ السودان لا قِبل لبشرٍ به، ولكنهما كانا دائما أكبر من كل إفك، فلم يجرجرا الصحفيين والكُتاب لأقبية السجون، ولم ينتقما من شائن، ولا حدثتهما أنفسهما بأخذ أموال الصحفيين بالباطل أو بالحق. وظل معدنهما أصيلا لامعا منذ سبعين عاما، ولايزالان جمرت تجاربهما صبرهما على الأذى، وترفعهما عن الصغائر، وزانها خلق ودين.. مد الله في أيامهما، وألهم السياسيين، شماليين وجنوبين شيئا من حكمتهما.
اليوم نوصد ملف أكول وغداً نفتح ملف تيتاوي .