ملاحم المدن النايمة سنين: إطار نظري

 


 

 

 

منذ سنوات اهتم بالكتابة عن مستقبل لم أكن أعلم إذا كنت ساحضرة. ورغم أنني حلمت بهذا المستقبل لعقود طويلة، وكتبت عنه، بل وتجرأت على الكتابة عن فترته الانتقالية ورؤياه المستقبلية وكيف نعالج تنوعه الثري. أكرمني الرحمن وحضرتها وهي تصنع امامي وأشارك فيها أحيانا عملياً، لكن غالباً أتامل في أحداثها. رغم ذلك ترددت كثيرا في الكتابة، والعالم حولي يضج بالحماس والروح القتالية العالية، في أن اتناول موضوعاً شائكاً في عالم متحرك.


ثورة المدن النايمة سنين
كتب الكثير عن السمات العامة للثورة السودانية (أطلق عليها هذا الاسم حتى يتم الاتفاق على اسم يليق بمآثرها العظيمة) منذ اندلاعها في الدمازين يوم 13 ديسمبر 2018 وتواصلها حتى اليوم 7 فبراير 2019م. أصبح من المسلم به أن التغيير قادته " المدن النايمة سنين" والقرى والأطراف بجانب قوى العاصمة. هذه التكوينات تضم بين جنباتها كافة الاجناس، الفئات الاجتماعية، الأحزاب، المكونات المحلية وتعكس تنوعها الكبير. وخلافاً للاحداث السياسية الكبيرة السابقة في السودان يشارك اهل السودان جميعهم (نساءاً ورجالاً وأطفالاً) في هذه الثورة الشعبيه وهو ما لم يحدث في الاستقلال، ولا في الثورات اللاحقة.

أعطت هذه السمات الفرصة التاريخية لتجاوز العديد من الاشكالات التي استعصت علي الحل في السودان منذ الاستقلال: إنهاء اشكالية جدل الهوية (المركز، التعريب والتهميش) على الحدث السياسي والقرار السياسي ومن ثم التنموي وغيرها؛ إدارة التنوع، تدخل الجيش في السلطة السياسية وآخيراً مسألة السلطة.


تهاوي دعاوي النظام
قام النظام منذ تسلمه السلطة على هوية ايديولوجية إقصائية، بدأت بازاحة من لايماثلونه من الخدمة العامة، بتفكيك تكويناتهم النقابية، والتشريد بأسم الصالح العام ومن ثم مطاردتهم في أرزاقهم بعدها، كسر إرادة من يظهرون العداء أو حتى عدم الرضا، فشهدت بلادنا بيوت الاشباح، القتل، التعذيب والاعتقالات سنينا عددا وحتى الآن.

كانت السياسة المعتمدة "التعريب والتهميش". سوف تبلغ هذه السياسة مداها في حرب الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وجزئياً في الشرق والنوبيين شمالاً. الإستراتيجية كانت في فصل وعزل وتهميش المناطق وسكانها، التهجير القسري والاقتصادي وعن طريق السدود العشوائية، اشعال الفتن في داخل سكان المناطق وتغذية الخلافات والعزل. الغرض الكلي من هذه السياسات كان تذويب المحموعات السكانية قسراً في هوية جامعة تخضع لايديولوجيتها وسلطتها.

في نهايات ديسمبر 2018م اتهم النظام مجموعة طلاب من ضمنهم رئيس رابطة طلاب دارفور بجامعة سنار وعدد من طلاب الجامعات الدارفوريين، واجبرهم على الاعتراف بانهم خلية دربها الموساد ودخلت السودان للتخريب. ارتفعت الدعوات في وسائل التواصل الاجتماعي بتخصيص يوم 31 ديسمبر 2018 للرد على هذه الاتهامات. فكان أن ارتفع شعار ياعنصري ومغرور كل البلد دارفور. وفي الشرق كل الشرق دارفور وفي دارفور هتفوا كل دارفور عطبرة والقضارف وهكذا. كل البناء الذي عمل عليه النظام طوال ثلاثة عقود وري الثرى في ثلاثة مظاهرات في ظرف ثلاثة أيام.


شروق السرديات الكبرى الجديدة
ما جعل هذه الثورة ناجحة حتي في أسوأ سيناريوهات زوال النظام، وخارج إرادة النظام في الافشال والانتكاس والتفجير الداخلي: أولاً التمسك الصارم بالسلمية الكاملة؛ ثانياً التوحد الكامل حول إعلان الحرية والتغيير وحادي دربها التجمع المهني وثالثاً الانضمام الكثيف للمدن والقرى والمنظمات المختلفة والهيئات والتكوينات المختلفة.

في خضم التحركات الجبارة لشعب باكمله بتنوعهم الثقافي والمناطقي واللغوي والديني، انتقلت من شرارة مباشرة لآثر الأزمات المتعلقة بالخدمات والخبز والوقود، سريعاً ومنذ البداية، للكرامة والحرية والتغيير.

طرحت الثورة رويتها، وطرحت مفاهيماً جديدة بالكامل في أربعة إعلانات: لكي لا تسرق الثورة؛ الحرية والتغيير: إعلان التجمع المدني والبديل الديمقراطي. لقد خاطبت سرديات الثورة السودانية القضايا المؤجلة منذ الاستقلال واوجزها في: أولاً استكمال بناء الأمة وثانياً إصلاح الدولة السودانية.


استكمال بناء الأمة
رغم أطروحات الثورة النظرية والعملية في الإعلاء من شأن حسن إدارة التنوع، إلا أن ما يطرح كشعارات أثناء الثورات تجد مقتلها في الالتفاف عليها لاحقاً. لقد طرحت الثلاث إعلانات موقفاً واضحاً من دولة الديمقراطية، حسن إدارة التنوع، حكم القانون والعدل الاجتماعي، إلا أن تحويلها لممارسات وسلوك تحتاج لأكثر من الشعار.

أن تمثيل المدن والقرى على طول وعرض السودان كقوى الحرية والتغيير (مع الاحزاب، ممثلي التجمع المهني، التجمع المدني وحركات المقاومة السودانية وغيرهم) سوف يضمن أن مصالح جميع الشعب ممثلة، ولها صوت في صناعة القرار. سوف يمكنها هذا أن تنظر بعين "العدسة المكبرة للتنوع" لقضايا الدستور، الديمقراطية، قضايا المرأة، التنمية، الأرض، الثقافة واللغات، توزيع الثروة وغيرها.


إصلاح الدولة السودانية
قطعاً سوف نستلم دولة الانتقالية مضعضعة ومهللهلة وضعيفة ومفلسة، لكنها دولة علينا إعادة ترتيبها وإصلاحها. هناك العشرات من القضايا والمشكلات التي سوف يتم النظر فيها، من قضايا إدارة الدولة بشكل عام. لكن هناك قضايا مفصلية مطروحة، جزء منها عاجل: نظام الحكم؛ تنمية من نوع جديد، والآخر أقل: الإصلاح البيئي؛ اعتماد التكنلوجيا وصياغة رؤية وطنية سودانية. أسئلة نظام الحكم: لقضايا نظام الحكم ثلاثة أسئلة "من يحكم السودان" و "كيف يحكم السودان" و "لصالح من يحكم السودان".

من يحكم السودان: في كافة السيناريوهات سوف يجلس الفرقاء بشكل ما للتفاوض حول التسليم والتسلم.
1. الكيان الجديد (قوى الحرية والتغيير) هو المجلس السيادي الأعلى والحامي للثورة الشعبية، والتي ستستلم السلطة.
2. يشكل الكيان الجديد (قوى الحرية والتغيير) حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية لمدة أربع سنوات.
3. يستمر الكيان الجديد (قوى الحرية والتغيير) كجهاز تشريعي ورقابي طوال الانتقالية حتى اجراء الانتخابات.
كيف يحكم السودان: سوف تتوافق السلطة الجديدة بكل مكوناتها على كيفية حكم السودان وتضع الاساس الإداري والقانوني لها. أبناء السودان سوف يحددون كيف يحكم السودان.

لصالح من يحكم السُّودان: وتعرف أنها "أنها مدى استجابة النظام الحاكم لمتطلبات المواطن من الديمقراطية والحرية، الحوكمة الرشيدة، الأمن، الاستقرار، تأمين التعليم والصحة وعدالة توزيع الخدمات والتنمية وتصل حتى رفاهية وسعادة المواطن وغيرها". كيانات المدن والارياف سوف تضبط بوصلة الوطن لصالح جماهيرها في المدن والبوادي والارياف.

تنمية من نوع جديد: هنالك اتفاق واسع بأن السودان أصبح في أشدّ الحاجة إلى أفق سياسي وتنموي جديد، يحسن من إدارة البلاد، ويصون كرامة الإنسان السوداني، ويوفر له "لقمة العيش" والخدمات الضرورية للحياة، لاسيما بالنسبة لأفراد المجتمع الأكثر فقرا وتهميشا. هدف التنمية الاساسي هو "إزالة التهميش والفقر" حتى الوصول ل "دولة الرعاية الاجتماعية".

في رأينا أن فلسفة التيار التنموي الجديد سوف تتبلور في:
أولاً: مصادر ثروة السودان الزراعية والحيوانية والنفط والذهب تتركز في القطاع الرعوي الزراعي (التقليدي) الذي يعيش فيه 70% من السكان ويتواجد المنتجين الصغار. هذا القطاع ينبغي أن يكون قاطرة للتنمية وهو المدخل الطبيعي والصحيح. هذه الاستراتيجية تبدأ من دعم هؤلاء المنتجين لبدء حياتهم في مناطقهم، تقديم خدمات تعليمية، صحية، كهرباء ومياه، وأخيرًا وضع تصورات كلية، شاملة وعادلة حول نظام التوزيع. سوف تحتاج دارفور، جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق مشروعات إعادة إعمار وتنمية خاصة بها.

ثانيًا: التركيز على النمو التكنلوجي، وتبني تكنلوجيات صديقة، غير ملوثة للبيئة، متوفرة للجميع وملائمة لظروفنا واحتياجاتنا. التكنلوجيا تعد الأن وسائل انتاج ومحدد للنمو. نبدأ من تجارب الدول المتقدمة، والهند أفضلها لنا، ونركز على تغيير مناهج وهيكلية كافة الكليات التكنولوجية ودعمها بالأجهزة والمعامل والتدريب الخارجي وغيرها.

ثالثًا: مواصلة الجهود التصنيعية، عندما نفكر في التصنيع سوف نبدأ من حيث نقف ويقف العالم. التصنيع مرتبط بإصلاحات كبيرة في التعليم، توجهاته وتصميم للمناهج والأهداف والبنيات والتي أدلى فيها المختصون على طول السنوات. نبدأ من أولويات بسيطة فيما هو متوفر فورًا ولدينا بعض الخبرات المتراكمة.

رابعاً: ملكية الدولة في المشاريع الكبرى التي تعجز عنها القطاع الخاص لتكلفتها العالية وطول استرداد راي المال وقلة الأرباح مثل البنيات الأساسية من طرق، كهرباء ومياه، و تقديم خدمات تعليمية وصحية مجانية وغيرها.

الإصلاح البيئي: ما زالت الفرصة متاحة أمامنا للخروج من دائرة التهديد المناخي من تصحر، جفاف وسوء إدارة المياه. يحتاج السودان لبدء مبادرات لتحقيق الأمن الغذائي وتعزيز المقدرة على التأقلم لدى صغار المزارعين والرعاة، زراعة الأحزمة الخضراء لخلق مناخات محلية ملائمة، تقليل استهلاك المياه للوصول للاستدامة وحماية المزارع من الرياح والعواصف الرملية وغيرها.


صياغة رؤية وطنية سودانية:
عندما نبدأ في التفكير في رؤية سوف يكون أول سؤال سيتبادر إلى الذهن: أين نريد الذهاب؟. هذا السؤال مفصلي وهو ذو طبيعة فلسفيه، سياسية واجتماعية. بعكس الخطط التي يمكن لمجموعات الخبراء أن تضع بها أفضل الطرق، الآليات والوسائل ضمن إطار سياسي محدد وميزانيات معروفة سلفاً، فإن الرؤية إبحار في المستقبل، طرق لم نسر فيها سابقًا وتفكير خارج المألوف. الرؤية مشروع كلي يستهدف كافة فئات المجتمع، يلبي احتياجات كافة فصائل الشعب ويؤدي لتنمية شاملة لكافة القطاعات مع استهداف كفاءات أساسية تمثل ركائز هذه التنمية.

كيف سنصل للصورة الذهنية لسودان ما بعد عشرين عاماً، لنجد جوابًا على أين نريد الذهاب؟. ليس هناك كاتلوج جاهز نتبعه ونجد الإجابة. إن الاتفاق الجيد بمد الفترة الانتقالية إلى أربع سنوات، سيتيح أن تستطيع الدولة أن تحل قضايا الوضع الانتقالي وتتوجه لوضع رؤية اثنائها.


omem99@gmail.com

 

آراء