ملامح (الجمهورية الثانية) وآفاقها
بعث الأستاذ علي عثمان في مؤتمره أول أمس بحزمة من الرسائل لمن يعنيهم الأمر داخلياً وخارجياً، وانطوت هذه الرسائل على إجابة عن تساؤلات ظلت لفترة من الزمان معلقة فى الهواء. جاءت حزمة الإجابات في زمانها الصحيح، فاختيار الرسائل وتوقيتها مهم كأهمية الرسائل نفسها. استوقفتني ثلاث قضايا في جوفها رسائل متعددة لعناوين شتى، إلى جانب رسائل أخرى تخاطب قضايا حاضرة في الداخل والإقليم.
ثلاث قضايا أسياسية أمسكَ بها خطاب النائب، هي: مرتكزات الجهمورية الثانية كما أسماها. في قضية الانفصال أنهى الأستاذ على عثمان جدلاً داخليا مطولاً حول موقف الحكومة. هل ستجري الحكومة الاستفتاء أصلا؟ ولما مضى الاستفتاء حسب ما هو منصوص عليه في اتفاقية السلام صعد سؤال آخر: هل ستسمح الحكومة بإكماله؟ وأخيراً هل ستعترف بنتائجه؟. كان العالم في حالة قلق مزمن ولا يكاد يصدق أي خطوة تقوم بها الحكومة طيلة المرحلة التي أعقبت نيفاشا. بالأمس بعث الأستاذ علي عثمان رسالة مهمة لمن يعنيهم الأمر داخلياً وخارجياً، بعدما نوه للطريقة الحضارية والسلمية التي تمت بها إجراءات الاستفتاء، وانتهى لما انتهى إليه، فأعلن بوضوح قبول الحكومة للنتيجة، ومضى أكثر متمنيا للجنوبيين بناء دولة متماسكة تساعد على استقرار السودان، بل أبدى استعداده للعمل الموجب معها. تلك رسالة للداخل وللدولة الجديدة وللمجتمع الدولي وهي الأهم.
الملمح الثاني تمثل في إعلانه رغبة الحكومة في إدراة حوار مسؤول حول قضايا الوطن، محددا بعض ملامح الحوار الذي سيتعلق بشكل الدولة وطرائق إدارتها، مبدياً استعداد الحكومة للاستماع للبدائل التي يمكن أن تطرح. يضيء هذا الملمح جانباً ظل معتما في خطاب الحكومة السياسي حول موقف الحكومة من إدراة حوار وطني حول القضايا الراهنة، الشيء الذي حصر الحوار في ركن قصي في دهاليز السلطة. الآن ينفتح أفق آخر لمخاطبة القضايا المختلف عليها، دون أن يغلق الباب على المشاركة في قسمة السلطة. الملاحظ في هذا الملمح هو تعدد مستوياته، بدءاً بالقضايا، نزولاً إلى آليات الحوار، نهاية بالمشاركة في السلطة. وأعتقد أن هذا الحوار يدور الآن وراء كواليس كثيرة.
القضية الاقتصادية والاجتماعية التي قصد السيد النائب حشد أركان حربه لها في المؤتمر شكلت ملمحا أسياسيا في الخطاب. أبرز ما لفت نظري هو إعلانه أن الموارد التي كانت تتوجه للأمن بسبب الحرب ومترتباتها ستتجه الآن للإنتاج. هذا التحول ليس سهلاً، إذ كان الاقتصاديون يشكون من أن أغلب موراد الدولة تتجه للصرف الأمني، مما أضعف قدرات الدولة الإنتاجية، وخاصة في القطاعين الصناعي والزراعي.
في وسط هذه الأجواء الملغومة إقليمياً بدا سؤال الحريات مُلحاً، ولا يمكن تجاوزه، ولذا عمد النائب لإيصال رسالة بشأنه حين أعلن أن النظام لا يخشى الحريات، مشيراً إلى أن أي نظام يضيق بالحريات سينفجر.
في وسط هذه القضايا التي تشكل طرائق التعامل معها في المستقبل ملامح الجمهورية الثانية أطل ملمح آخر خاص بالتغيير الذي سيطال قيادات وأشخاصاً في الحكم بكافة مستوياته، ليفتح الباب لتتنافس الأجيال. ويبدو أن ما يجري وراء الدهاليز من حوار حول تجديد القيادات وجد طريقه للعلن لأول مرة، ففي أعقاب يوليو المقبل يتم التخطيط لصعود قيادات جديدة على مستوى الحزب وعلى مستويات الحكم المختلفة.
يبدو أن الملمح الآن هو تسارع الخطى لتنزيل جوهر رسائل النائب لمستوى الخطط والبرامج والتنفيذ. وإن كانت رسالة الحكومة بالتزامها بإنفاذ متعلقات اتفاقية السلام قد وصلت للعالم بقبول الحكومة نتائج الاستفتاء فإن رسائلها الأخرى للداخل لا بد أن تجد ما يصدقها على مستوى الواقع في حياة الناس الذين سيحكمون على الجمهورية الثالثة على ضوء ما ستنجزه من وعودها على مستوى الواقع العملي.