مناخ ” العصيان”.. ورسالة “محبة” الى الدوحة والخليج
من الدوحة الى لندن
تحت عنوان " من الدوحة الى لندن" استأنف اليوم الكتابة بعدما غادرت قطر الى العاصمة البريطانية " مكرها" في أغسطس 2015، وكان النظام الديكتاتوري في السودان وراء مغادرتي الدوحة ، حيث تعددت أنواع الشكاوى التي قدمها أعداء الكلمة الحرة للمسؤولين القطريين وكرروها مرة تلو أخر ، احتجاجا على كتاباتي في صحيفة " الحياة" اللندنية ( أخبار وتقارير ومقابلات مع قادة المعارضة ) ومواقف أعلنتها بوضوح في ندوات ساخنة في الدوحة عن الوضع في السودان ، وقيل أيضا ( والعلم عند الله) أن التغطية التي أعتبرها مهنية متوازنة لبعض الأحداث في قطر والعالم العربي كانت وراء " المضايقات" المتعددة الأشكال والأنواع.
لست الآن بصدد سرد قصة المغادرة وتفاعلاتها ، أو الحديث عن " أبطالها" من الجانبين ، المهم أولا أن أؤكد أن أهل قطر- رغم ما أصابني من ظلم و ألم ثاقب ووجع شديد - كانوا وسيبقون " أحبابا" في القلب والعقل والوجدان.
في الدوحة عشت 31 عاما، واكبت مراحل سياسية مهمة في تاريخ البلد وتطوره اللافت السريع ، وتفاعلت بالخبر والتقرير والتحليل والتعليق المسموع ، وبقناعة راسخة مع تطورات ايجابية وتحولات تاريخية كبرى ، وكان وسيبقى أهل البلد وقادته الأفاضل ممن عايشت وعرفت عن قرب على مدى ثلاث مراحل تاريخية محل تقديري واحترامي ، ابتداء من مرحلة الراحل "الأمير الأب " رافع علم الاستقلال الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني رحمه الله ، ثم "الأمير الوالد" صانع الأمجاد والتحولات الكبرى والرجل الشهم المتواضع الشيخ حمد بن خليفة ، والآن الأمير الشاب الشيخ تميم بن حمد ، وأجدد ما قلته عنه في ندوة صحافية قبل مغادرتي الدوحة بأشهر ( نشرت صحيفة" العرب" القطرية التي نظمت الندوة " بعض" تفاصيل كلامي) إن قطر أهدت المنطقة والعالم قيادة جديدة بكل المقاييس، ويكفي قراءة مضامين خطابات ومقابلات وأفكار الشيخ تميم في أحاديثه مع الاعلام الدولي، أومضامين خطاباته الواقعية العصرية لدى افتتاحه دورات انعقاد " مجلس الشورى".
عايشت أيضا الدور الريادي للشيخة موزا بنت ناصر، ويعود لها الفضل في وضع المرأة القطرية على خارطة العمل على أوسع نطاق في المجتمع ثم الارتقاء بالتعليم النوعي من خلال ترؤسها مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع ، ولن أنسى شهادة التقدير التي تلقيتها من يدها في احتفال لتكريم بعض الشخصيات تقديرا لدعمي لأدواراللمجلس الأعلى للأسرة ، حيث جاء في الشهادة الشهادة " خير الله أنفعهم للناس"، كما تلقيت عددا من شهادات التقدير من الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي سعادة الأخ العزيز عبد الرحمن بن حمد العطية، وهو رجل و انسان ونادر الخصال، اضافة الى شهادت أخرى يصعب حصرها.
أقول باعتزاز إن خارطة علاقاتي الطيبة في قطر ممتدة وراسخة ، وتضم قائمة التقدير والاحترام مسؤولين كبار بينهم نائب الأمير الشاب الشيخ عبد الله بن حمد، وهناك رجل أحترمه واقدره هو رئيس الوزراء الشيخ عبد الله بن ناصر، وفي الخارطة شخصيات رائعة يضيق المكان هنا عن حصرها ، و هناك أحباب وزملاء مهنة من الجنسين، وأصدقاء العمر من كل لون وجنس ودين، لهولاء جميعا تحياتي وتقديري .
أما من "حبكوا الضغوط" و" نسجوا خيوط التضييق والتشريد " ، وتسببوا في أن أغادر قطر " مكرها"، فكانوا يتمنون أن أهاجم البلد والقيادة فور مغادرتي تحت مفعول الغضب وضغوط الظلم ، لكنني أفشلت بعون الله أهم أهداف " الحبكة السخيفة" ،ولهؤلاء ( الأشرار ، ضعاف النفوس وقصيري النظر) أقول إن محبتي لقطر وأهلها ليس جديدة وهي ( مكتوبة ومسموعة ومرئية ) على مدى سنوات ولن يغيرها تبدل المكان والزمان .
محبتي ليست على نهج الانتهازيين المنافقين اللاهثين وراء المال بأي ثمن، إنها محبة واعية لم تمنعني من كتابة حروف خضراء متوازنة عن قطر ، استنادا الى مشاهداتي ومعايشتي و قناعاتي ، ولم ولن تمنعني تلك " المحبة" من توجيه انتقادات لما رأيته سلبيا في قطر بالأمس، أو ما أرى أنه سلبي اليوم أو غدا ، وكنت عبرت عن آرائي حول شؤون قطرية في وسائل اعلام دولية أثناء فترة وجودي في الدوحة، ولم يخل بعضها من انتقادات واضحة في اطار عمل صحافي مهني لم يكن يرمي لتحقيق بغية أو حاجة.
راجعت على مدى عام كل ما كتبته عن قطر ، معظمه ايجابي و صب في مجرى الدعم للتطورات والتحولات المتسارعة في المجالات كافة ، والأهم أنه لم يكن من نسج الخيال بل كان نابعا من حقائق الواقع ، لكن من دفعهم الحقد الأعمي الى محاربة وجودي في الدوحة وجدوا من يستجيب لمخططهم الوضيع، إنهم بؤساء لم يروا النور في كتاباتي ، ولم يحسوا يوما بفلق الصباح .
لم أدفن رأسي في الرمال يوما عندما أطلت بقوة بعض التحديات المهنية ، ولتأكيد تمسكي الصارم بأهمية العمل المهني المتوازن أشير على سبيل المثال الى تقرير أصدرته في الدوحة منظمة " هيومن رايتس ووتش" عن حقوق العمال وتناول أوضاع الاعلام وحرية التعبير، و" نشرته" الحياة " في فبراير 2013 ، تحت عنوان " هيومن رايتس ": الدوحة ليست واحة لحرية التعبير"، وبالمقابل حرصت على نشر كل ما أصدرته الحكومة القطرية من اجراءات بهدف تحسين أوضاع العمال .
على سبيل المثال أيضا كتبت ( تحليلا ) نشرته صحيفة " الحياة" اللندنية في ابريل 2013 تحت عنوان " دلالات رسالتين كردفانية ودارفورية الى الحكومة السودانية والوسطاء"، تلك الحروف كتبتها من زاوية التقدير المبدئي للدور القطري تجاه السودان الوطن ، و لكن لفت الأنظار الى خطورة نهج الحكومة السودانية باستغلال مبادرة الدوحة حول سلام دارفور في اطار سياسة تجزئة الحلول للمشاكل السودانية ، ونبهت الى خطورة ما سيحدث من " استقطاب واستقطاب مضاد" كما هو الحال الآن( نص المقال منشور في " الحياة، وسودانايل) .
في حالات عدة كنت أمام اختبارات و تحديات الضمير المهني، سواء تعلق الأمر بالشأن السوداني أو القطري ، وأحمد الله أنني كنت منحازا لقيم المهنة وأخلاقياتها ، و ايضا لقيم المحبة الحقيقية لقطر وأهلها الكرام ، وهي قيم لم ولن تمنعني من الحديث عن ظلم وضرر حاق بي، أو الاشارة لانتهاكات صارخة لحقوقي في التعبير والكتابة الحرة ، أو حتى حقي المشروع في مقاضاة من تسببوا في إصابتي وعائلتي بأضرار معنوية وصحية ومادية في أي وقت أريد، فالحقوق لا تسقط بالتقادم ، أي أن الود والتقدير لا يحولان - بحسب قناعاتي- دون التمسك بالحقوق الانسانية المشروعة .
أخلص من دون الخوض في مزيد من التفاصيل الى وصولي لندن في 18 أغسطس 2015 قادما من الدوحة ، كانت المغادرة خطوة " اضطرارية" ، وفي ظروف مؤلمة، وكان ولا يزال أكثرها ايلاما تشتيت شمل العائلة حتى الآن ، لكنني وجدت الحماية والمظلة في المملكة المتحدة ، حصلت خلال فترة قصيرة على حق " اللجوء"، وبكل ما يوفره من سكن ومتطلبات العيش الكريم والرعاية، وأهمها الرعاية الطبية ، مع احترام الحقوق الانسانية والحريات كافة.
ولأن الدوحة ولندن تختزنان في قلبي وعقلي خلاصة الدروس والعبرالمستخلصة من الاشراقات والمرارات التي تحكي قصة تجربة صحافية امتدت لأكثر من ست وثلاثين سنة، وكانت بداياتها الأولى في صنعاء الحبيبة، فقد رأيت أن تشكل العاصمتان عنوانا ثابتا لحروفي ( من الدوحة الى لندن) التي تطل اليوم هنا ، وتحت العنوان نفسه سأكتب في القترة المقبلة ان شاء الله عن قضايا الساعة في السودان و الخليج والعالم .
حدث الساعة بكل ما تعنيه الكلمة من معان يكمن في تفاعلات وانعكاسات " العصيان المدني" في السودان في 27 نوفمبر 2016 ، على مدى ثلاثة أيام وجه الشعب السوداني صفعة قوية للنظام الحاكم المستبد، في خطوة رائعة شدت أنظار العالم ، بمبادرة شبابية ( من الجنسين ) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهاهي تداعيات وتفاعلات الحدث تتواصل ، وقد أكدت مجددا قدرة السودانيين على صناعة الفجر الجميل رغم قسوة الحكام ولؤمهم.
الدرس الأول وجهه شباب السودان من الجنسين بدعم من القوى السياسية الفاعلة للنظام المتسلط ، وهي تؤكد أن النظام الانقلابي فقد مقومات بقائه ، ولم يعد قادرا على خداع الناس وتخديرهم بشعارات زائفة مضللة، كما فعل ويفعل الآن مع دول عدة في المنطقة وخارجها.
لكن المدهش أن النظام رغم أن دول العالم كلها بفضائياتها ووسائل اعلامها شاهدت مظاهر " العصيان المدني" حية كحقيقة ملموسة على أرض الواقع الا أن حكومة الاستبداد والفساد والفشل قالت على لسان الرئيس عمر البشير إن العصيان " فشل مائة في المائة".
لا نستغرب الادعاء، فالنظام استولى على السلطة بانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة في 30 يونيو 1989 ، و بدأ يومه الأول بادعاءات وبتضليل واسع النطاق للداخل والخارج، ولا يزال قادته يمارسون يوميا هواية المغالطات والتضليل ، ورغم أنهم دمروا الوطن ومزقوا أوصاله وحولوه بسياساتهم الرعناء الى " دولتين" الا انهم يواصلون مسلسل المكابرة ونهج الطغيان وصناعة الوهم .
الرسالة الثانية المهمة ، أن المجتمع الدولي - وخاصة الأشقاء والأصدقاء في الخليج والدول العربية و الافريقية- أطلع من خلال " العصيان" على حقيقة الوضع في السودان بدون عمليات تجميل ، وأعتقد بأن الوقت مناسب للتأمل ومراجعة مسارات العلاقات، لدعم تطلعات الشعب السوداني في الحرية والاستقرار والسلام والعيش الكريم.
أرى أن لدول مجلس التعاون الخليجي دورا مهما في دعم استقرار السودان، ومناصرة شعبه وكنت كتبت أن علاقة السودان مع الخليجيين ينبغي أن تنطلق من استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة بين الدول لا بين الأشخاص، وقناعتي أن أمن الخليج من أمن السودان والعكس صحيح، وأعرف من خلالي فترة اقامتي في الخليج مدى تقدير الخليجيين للسودانيين العاملين في الدول الخليجية الست ، وقد سعى النظام كثيرا الى استهداف سودانيين مقيمين في تلك الدول ، وآن الأوان للانتباه الى خطورة مثل تلك المخططات ضد سودانيين يكنون التقدير والاحترام لدول الخليج وشعوبها ويهمهم دعم أمنها واستقرارها وبناء قاعدة صلبة لعلاقات استراتيجية تخدم المصالح المشتركة اليوم وغدا .
وها هي الظروف مواتية الآن لمراجعة مسار العلاقات وآفاقها المستقبلية حتى لا تفاجيء الأحداث صانعي السياسات الخليجية ، كي ينسجم مستقبل العلاقات مع تطلعات ومصالح الشعب السوداني الحقيقية والمصالح الخليجية ، و حتى لا يتم اهدار الدعم الخليجي وتوظيفه لصالح أصحاب " الجيوب الكبيرة" في الخر طوم ، وكي لا يتم أيضا استخدام المال الخليجي في ميادين القمع والحرب والدمار. أرى ايضا أن أهل الخليج - وهم أهل " فزعة" – قادرون بفطرتهم ادراك أن النظام في الخرطوم يلعب بكل الحبال، ويجيد الأكل من كل الموائد في وقت واحد ، وأحدث دليل يكمن في تقلبات علاقته بايران ، و سيستخدمها مجددا " كورقة ابتزاز" في ظل أزمة تمسك بخناق النظام .
رسالة " العصيان" تحتاج أيضا الى أن تعيد الدول العربية والافريقية والغربية قراءة تفاعلات الأحداث في السودان قراءة متأنية ، لأن وجود نظام ديمقراطي تعددي في السودان سيلبي تطلعات الشعب السوداني وسيوقف مسلسل الحروب وسرقة المال العام، و سينسجم اي نظام تعددي راشد مع روح وقيم العصر التي تصون حقوق الانسان و الحريات، وتشدد على توفير العيش الكريم، باعتباره حقا انسانيا غير قابل للتازلات والمساومات وأساليب المتاجرة الرخيصة بحقوق الشعوب المشروعة.
*مدير مكتب صحيفة الحياة اللندنية في قطر " سابقا "
modalmakki@hotmail.com