كما كتبت من قبل فإن مناماتي صارت كلها من باب "حديث النفس" فلا هي رؤى ولا هي أضغاث أحلام! وحديث النفس عند الفقهاء هو "الصنف الثالث"، ويشبه جدا المثل السوداني الطريف "حلم الجعان عيش"، لأنه يأتي بسبب حياة الشخص وما يمر به من ظروف.
المنامات التي ذكرتها من قبل أخذت طابع المسلسلات.. فيها حبكة وأبطال وسيناريو ... تبدأ أحيانا من النقطة التي توقفت فيها بالأمس وكما قلت سابقا ... من رابع المستحيلات أن أذهب لطبيب نفسي، لأنه سيقول لي لديك حالة من "الميلاتوسيفيشيا"، والتي يمكن أن تتحول إلى "زولوتونسيا"، وهي مختصر للزول السوداني عندما يركب الطائرة التونسية، وبعدها يمكن أن تصاب بإكتئاب حاد وتنتحر وتموت ..!
المهم أن آخر أحاديث النفس، تلكم القصة الطويلة للصراع الأهلي أو القبلي الذي ذهب للقضاء السوداني ولم تفلح كل الأجاويد في انتزاع العفو من الأهالي وبدأت السلطات في تنفيذ الإعدامات.
رأيت نفسي في جلسة صلح فاشلة، وأحدهم تبدو عليه معالم المشيخة أو القضاء، يتحدث محبطا "والله نحن ما عارفين نعمل شنو، وما عارفين سبب الموضوع دا شنو، كل المساعي للصلح تم رفضها من الطرفين بصورة قاطعة، ومهما توسط الناس، من أصدقاء الطرفين ومن الشيوخ والعلماء، لم يحدث أي انفراج، ودي الجلسة الأخيرة وبعدها نواصل في التنفيذ".. وقام وخرج وتركهم واجمين!
دخلت عليهم، وقلت لهم، أريد أن أختلي بأكثركم تطرفا وتشددا في هذا الأمر، أكثر شخص رافض للتسوية من كل طرف، وتراجعت للوراء. اجتهد بعضهم في تعريف نفسه بالتشدد وحاولوا زيادة العدد فرفضت، وفي النهاية جائني من كل طرف شاب، الأول لونه "أخضر" ويعني شدة السمرة عند أهل السودان، والثاني لونه "أصفر"!
قلت للأول هل تعلم أنك بسبب تشددك هذا، سيموت ناس، هل أنت من ضمنهم؟ أم تتشدد ويموت غيرك؟! فقال لي "ومنو القاليك ما حا أموت، أنا من ضمن المحكومين"!
قلت للآخر وهل أنت من ضمن المحكومين أيضا؟! قال لي لا، ولكنني أعترفت على نفسي بضحية مجهولة القاتل وسأدخل مع الجماعة ولو ما حكمت على المحكمة بالإعدام، سأشنق نفسي في السجن!
قلت لهما موقفكم فيه تشدد وتطرف، ما هو الإنجاز الذي تكسبانه من موتكم ودفع جماعة من الناس للموت؟! قال لي الأول، أن نحيا وتحيا قبيلتنا واهلنا أعزاء أفضل من التنازل. التفت للثاني، فقال لي سأقول لك مثلما قال الأول "المسئلة عندنا شرف وما بنتخلى عنها"!
طلبت منهما الإقتراب من الحضور، وقلت لهما في لحظة واحدة ... أنا قررت أن تتقدما للموت ويتم العفو عن كل الآخرين، وتنتهي حياتكم أنتما فقط وتكونا قد نفذتما ما تريدان وكفيتما الآخرين شر الموت الجماعي ..!
لم أمهلهما ولا لحظة، قلت حكمي أمام الناس وطلبت منهم الموافقة فداءا لبقية الأنفس أو أن يجلس عقلاء القبيلتين ويحكمان علي الشابين بالحياة ويطويان القضية..!
خرجت فورا وجرى بعدي هرج ومرج وانتهى "المنام"، ولا أدري هل أواصله عندما أضع رأسي على الوسادة أم تدهمني قضية أخرى من وحي الصحافة والصراعات، وورش العمل عن فض النزاعات وعمليات بناء السلام في أفريقيا التي لم يعد في حياتي غيرها، مع كم هائل من الجدل الفكري والمصطلحي ... جدل يستمر لأيام وليالي أشعر معه بأن المشاركين معي فيه أشبه بفلاسفة أسبرطة واليونان الذي يرتدون ملابس أشبه بالإسكيرتات والميني جيب ويجلسون في مدرجات صخرية ويتناقشون عشرات السنين، عن أصل الكون هل هو التراب أم الماء أم الهواء؟!
مع "قشة العين" من النوم أو مسحها بالعربي الفصيح، واصلت التفكير - خارج السيناريو - وتوقعت أن ينتهي الهرج والمرج إلى الضغط على الشابين وإنهاء الأزمة، وربما ينتهي الحل بأن يزوج الأول أخت الثانية، والثاني أخت الأولى، وتتوحد القبيلتان وتنشأ بينهما العديد من المصاهرات.
وتصبحون على خير ..!
...............
makkimag@gmail.com
////////////