بعد حياة حافلة بالعطاء المنضود، رحل في صمت يشئ بموت دنيا، العالم النحرير منصور خالد عبد الماجد. ويقيني أنه نظراً للفقد الجلل، فلسوف يتسابق الناس في ذِكر مآثره ومحاسنه وما أكثرهما. كذلك فإن محبيه وعارفي فضله سوف يوجهون كتاباتهم عن الفقيد في مجالي الفكر والسياسة، وهما المجالان اللذان ملأ فيهما الدنيا وشغل الناس. لكن في واقع الأمر تعجز الأوصاف والنعوت عن الإحاطة بحيوات منصور العامرة، وله اسهاماته التي لا تخطئها العين، فهو كالغيث أينما هطل نفع، وقد كان موسوعي المعارف، مثقف عضوي بالمعنى الذي اتخذه غرامشي مثالاً، لا سيِّما وأن منصوراً سخَّر ثقافته وعلومه لقضايا وطنه الذي أحبه كما لم يحبه أحدٌ من قبل!
غير أنني بحكم صداقتي الطويلة معه سوف أشير إلى ما لا يعرفه سوى القليل من الناس عنه، أي غير تلك الجوانب التي ورد ذكرها بعاليه. فمنصور كان رجلاً محباً للفن وشغوفاً بالأدب، وقد جعل من الخصيصتين منظاراً يرى بهما فلسفة الحياة بوجهها الميتافيزيقي، وفي الأصل هو محبٌ للحياة حتى النخاع. كما أنه في سبيل ذلك لا يتوانى مطلقاً في أن يبني لنفسه مدينة فاضلة يعيش تفاصيلها حلماً عندما يعز عليه وجودها على أرض الواقع. وفي هذا هو متصالح مع نفسه بشجاعة أدبية منقطعة النظير. سواء تطابقت رؤيته مع من حوله أو تباعدت للدرجة التي يسهر الخلق جرائها ويختصموا!
ثمة ثلاث متشابهات كان منصور لا يطيق لهم ذكراً، النكد والتشاؤم والقبح بنصفيه المعنوي والحسي، حتى يخيل للمرء أن إيليا أبو ماضي خصه في قوله: (والذي نفسه بغير جمال/ لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً). ولأجل هذا كان منصور صفوياً في علاقاته بالدرجة التي تضمن تحصين النفس من بعض آفات الزمان. وهو لا يُحب أن يهدر وقته فيما لا طائل يُجنى من ورائه، لكأنما الحياة عنده بمقدار من المهد إلى اللحد. ومنصور يبحث دائماً عن الاستزادة في المعرفة، أو في أي من معارج الدنيا التي تشكل السِيَرَ والعِبر. فقد كانت تغمره السعادة - كطفل وديع - كلما رأى الدنيا فرائحية حوله. فالضحك يشرح قلبه حتى الثمالة، ويجعله يشهق الحياة ملء صدره ويزفر تلك السلبيات الثلاثة التي لا يطيقها. ولهذا تجده يحب المِلَح والطرائف حباً جماً، ويحفظ الكثير من ضروب الأدب والأشعار الخالدة، بشقيها القديم والحديث. وفي ذلك يتكئ على ذاكرة متوهجة دوماً، ويعضدها بقصص شيقة تأخذ بألباب سامعيها. فلا يملك الرائي إلا أن يتساءل كيف تسنى له حمل كل هذه الأثقال في قلبه وعقله معاً؟
فمنصور ذرِب اللسان، حاضر البديهة، متقد الذهن، رتب حياته بدقة (الساعة السويسرية) كما يقولون. فلم يجعلها تخضع لقانون السببية، ولا خطل العشوائية، ولا مفارقات الصدفة، فلا تعرفه متى ينام ومتى يصحو. ولم أر مثله في الصبر على الكتابة ودقتها من قبل، والتي يحلو له أن يمارسها بالورقة والقلم، فهو يجلس الساعات الطوال حتى تكاد تشفق عليه، لكنه يعتبر تلك غاية متعته الروحية. فقد رأيته في أسفاره الكثيرة، يحمل دوماً حقيبتين، واحدة لأغراضه الخاصة والثانية لمعينات الكتابة من كتب ومراجع وغيرهما. وقد قال لي مرة إنه يحب الكتابة في الفضاءات، ولأجل ذلك يضرب لها أكباد الطائرات. لكأنما عناه المتنبي بقوله: وخير مكان في الدنا سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب.
ما سمعت منصوراً يحمل ضغينة على أحد، بل لا يحب أن يَطرح صديق بين يديه مقته وغضبه على أحد. وحين يصيبه رذاذ ذوي الأهواء الضارة، تجده من الكاظمين الغيظ، وسرعان ما يلقي بغيظه في غياهب النسيان. ولهذا يمكن للمرء أن يقول عن منصور إنه كائن اجتماعي، وهي صفة لا يقوى على حملها إلا من لا تُمل صُحبته، وتلك أيضاً لا تتأتى إلا لمن له قُدرة على تبادل الرؤى والأفكار في الأنس بصورة تبعد السأم والضجر، وكان منصور بذلك قمينٌ. ولهذا لم يكن غريباً أن يكون لمنصور أصدقاء أين ما وطأت قدميه مكاناً في هذا الكون العريض، وهو حفي بأصدقائه وشديد الحرص على أن يحيط نفسه بعقد فريد منهم، رغم تعدد الأمكنة واختلاف الألسن. ويعتبرهم ثروته في الحياة الدنيا، وها هو يمضى إلى رحاب ربه وهو لا يملك من حُطامها شروى نقير.
أما ما يعرفه كل الناس عنه في مجال الفكر والسياسة فقد أصبح كتاباً مفتوحاً بعد أن تعددت وتنوعت مؤلفاته. إذ تراوحت بين اللغتين العربية والإنجليزية، واللتين يُعبِّر بهما كتابة ونطقاً إلى جانب لغات أخرى يندر ما يسمعه الناس يتحدثها تواضعاً، وهذا لعمري من شيم العلماء. وسيظل ما خطَّه يراعه نبراساً يضيء الطريق للأجيال القادمة. وكلنا يعلم أن لا أحد بذَّه في الكتابة عن قضايا السودان الأزلية، وقد برع في تجسيرها وتابعها مؤلفاً ألمعياً وسياسياً حصيفاً، لا غرو فقد حمل قضية وحدة السودان وهناً على وهن. بل لن نجد من جسدها هموماً على الورق مثلما فعل في كتابه ذائع الصيت (السودان/ أهوال الحرب وطموحات السلام) ليس في مضمونه فحسب، وإنما حتى في عدد صفحاته التي ناهزت الألف وضربت رقماً قياسياً. وبالطبع ذلك جهد لا يستطيع أن يَقدِم عليه إلا من حباه الله بذاكرة فولاذية وشغفٍ بالقراءة والكتابة مثلما كان منصور يفع!
التقيته للمرة الأولى في منزله في أديس أبابا بعد نحو شهر ونيف من انقلاب العصبة ذوي البأس في السودان. وتحديداً في أغسطس 1989 إبان أول جوله للمحادثات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ووفد من النظام الانقلابي بقيادة العقيد محمد الأمين خليفة. كانت الحركة قد اشترطت عدم تصوير تلك الجلسات (فيديو) من قِبل إعلام النظام، بدعوى أنهم سوف يتلاعبون في مادتها. سألني منصور بُعيد انتهاء الجولة ما إذا كنت قادراً على حمل تلك (الشرائط) إلى الخرطوم، والتي سوف أغشاها قبيل عودتي للكويت. وبالطبع كانت الحركة تطمح في انتشارها على نطاق واسع داخل السودان.
ذكَّرني منصور بما أعلمه أصلاً، وهو خطورة الأمر مع نظام أسفر عن نواياه منذ اليوم الأول، ورغم ذلك وافقت ونجحت المخاطرة بعد أن كاد يحدث ما لا يُحمد عقباه. كان منصور قد طلب مني أن أعطى نسخة لصديقنا المشترك الواثق كمير، والذي التقيته في نادي أساتذة جامعة الخرطوم، وأعطيت نسخة لصديقنا الآخر محمد سيد أحمد عتيق، طالباً منهما نسخها ونشرها على الملأ. وكذلك فعلا، وفاضت مجالس الخرطوم بتلك النُسخ المُسربة، الأمر الذي اضطربت له أوصال النظام وطفق يبحث عن ما سمَّاهم الطابور الخامس للحركة الشعبية بلا جدوى. وتلك قصة أسردها كتابة للمرة الأولى، وهي التي عضدت العلاقة بيني ومنصور لسنين عدداً، تعددت فيها الأمكنة بين القاهرة وأسمرا. ولعل الأخيرة كنت فيها الأكثر قرباً منه. إلى أن باعدت بيننا الجغرافيا في السنوات التي قَطعت فيها المحيط جبراً، وزهد هو في سفر المسافات الطوال طوعاً.
برحيل منصور رحلت دنيا كاملة عن حياتنا، لا يستطيع أن يوثقها سوى منصور نفسه، وقد فعل في سفر الذكريات الذي صدر العام الماضي، وقد نُشره في أربعة أجزاء، كأنه يقول لنا بها: اليوم أكملت عليكم رسالتي ورضيت لكم السودان وطناً!
آخر العزاء: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.cim