منطق المقاربات المُفخّخة
ناجي شريف بابكر
10 July, 2022
10 July, 2022
.
كثيرا ما يلاحظ الناس في المداولات التي تسود الوسائط الإجتماعية أو السوشال ميديا.. أن تيارا عريضا من الناس يعتمد على منطق المقاربة في تقريعه للمبادرات الإيجابية التي ينهض بها ناشطون، وذلك بتوبيخ الناس من خلال دمغهم بأنهم لم يقوموا بما يكفي في مواقف سابقة، أو في مواقع أخرى من العالم، كانت تستدعي قيامهم بمبادرات مماثلة.
لمزيد من التوضيح دعوني أسوق لكم أمثلة لتلك الوقائع.. فقبل يومين رفعت منشورا هنا عبرت فيه عن إمتناني لعملية إنقاذ لحيوان بريّ، نفذها ناشطون يعملون في منظمات غربية للرفق بالحيوان.. أثار ذلك حفيظة عدد كبير من الأصدقاء ليسلقونني بألسنةٕ حداد، تحقيرا لهذا المسعى، على خلفية أن هؤلاء الناشطين لا يبذلون ما يكفي لإنقاذ المهاجرين من العالم الثالث، أولئك الذين ينفَقُون على مشارف السواحل الجنوبية لأوروبا.
لم يتورع بعضهم في اعتبار ان المبادرة لا تعدو كونها وجه من اوجه النفاق والمداهنة الإجتماعية لأولاد جون. ويجزم آخرون دون أدنى قدر من الأدلة، ان العملية ليست لإنقاذ الحيوان، كما تبدو لنا، إنما هي لسرقته على متن باخرة تنتظره على ساحل البحر !!.. هكذا رجما بالغيب !. يحدث ذلك في نفس الوقت الذي يتناسون فيه, متعمدين، الأسباب المباشرة التي جعلت أولئك المهاجرين يفضلون الموت غرقا في مياه المتوسط من أن يواصلوا الحياة في الشرق الإسلامي.
بصفة راتبة فإنه في كل مرة نتحدث فيها عن مقتلة هنا، قام بها حكام فاسدون سفاكو دماء، ينبري كثيرون ليوبخونك أنك من قبل لم تذرف من الدموع ما يكفي أسفا على فلسطينيين قتلهم اليهود في غزة، أو مئات المسلمين الذين قضوا ظلما قبل عقدين من الزمان في ناحية من بلاد البلقان.. يجب علينا وفق منطق المقابلات السالبة هذا أن نُكتّم شهاداتنا وأن نقلع عن كل شئ، لأنهم لم يروننا من قبل نذرف الدموع تجاه ضحايا وتجاه قضايا هم يرون أنها أولى بالمبادرة من قضايانا ومن دمائنا.وكأن صمتنا اليوم سيعيد ما انسفك من الدماء، حول العالم، لمآقي الضحايا وأوردتهم.. علينا إذن أن نموت اليوم كالحملان بينما يسود الصمت، لأننا من قبل لم نصرخ حينما مات آخرون في ناحية أخرى من العالم.
الخواجات، لم يفعلوا ما يكفي لإنقاذ الناس، فلماذا تغمرنا السعادة حينما يخِفُّون لإنقاذ حيوان بري كوحيد القرن، وتخليصه من سماسرة كادوا أن يردوه قتيلا لكي يبيعوا قرونه للسياح.. لم يفعلوا ما يكفي تجاه الإنسانية، فلماذا ينقذون حيوانا، نحن لنا الوصاية في أن نملي على الآخرين كيف يكون البر والإنفاق وماهي أولوياتهما. كأنهم اذا ما كفوا عن إنقاذ ذلك الحيوان ستجف أنهار الدماء في دارفور، وسيتوقف موت المهاجرين على سواحل تموت حيتانها من وطأة البرد. لماذا ينقذون حيوانا بريّا بينما لايبذلون ما يكفي تجاه الإنسان.. يقولون ذلك بكل جرأة وكأنهم هم من اخترعوا الكينين والكلوروكوين، والفيسبوك.. أو كأن أليكساندر فيليمنغ ولويس باستير كانا بدويين يتسكعان في فيافي بحر أبيض..
في التسعينات وأنا موظف حديث السن بشركة شل كنت أقود سيارتي في شارع الميرغنية في اتجاه الشرق برفقة ابنة خالي، حينما دست فجأة على المكابح لكي أتفادي قطة كانت قد اندفعت في شارع الأسفلت.. بدا أن ذلك قد باغت سائق عربة الأجرة من خلفي فارتطم بسيارتي.. وتجمع يومها حشد من المارة.. أجمع معظم الحاضرين على توبيخي للتسبب في حادث سير من أجل انقاذ قطة. ماذا يعنى إنقاذ قطة والناس يموتون من الفاقة !!.. كان عليّ أن أدَعَها تموت دهسا.. فكأنما موتها كان شرطُ كفاية كيما يتحاشى الآلاف من أطفال الخرطوم ومشرديها الخلود لمخادعهم ليلا بأمعاء خالية..أو كأنهم لا يقرأون كتاب الله حين يقول "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ".. وإلا فأيُّ منطقٍ يقيم تلك المقاربة إذن.
منطق المقاربات السالبة منطق آثم ومتخلف، ولا يعدو كونه مكيدة للظلاميين لطمس كل معالم الإنسانية النابضة، رائحة الورود ولون السماء الأزرق والمبادرات الإنسانية الرائعة، التي تكفلنا أمانينا وأخيلتنا وتدفعنا للتمسك بحقنا في الحياة .
إنتهى..
nagibabiker@hotmail.com
///////////////////
كثيرا ما يلاحظ الناس في المداولات التي تسود الوسائط الإجتماعية أو السوشال ميديا.. أن تيارا عريضا من الناس يعتمد على منطق المقاربة في تقريعه للمبادرات الإيجابية التي ينهض بها ناشطون، وذلك بتوبيخ الناس من خلال دمغهم بأنهم لم يقوموا بما يكفي في مواقف سابقة، أو في مواقع أخرى من العالم، كانت تستدعي قيامهم بمبادرات مماثلة.
لمزيد من التوضيح دعوني أسوق لكم أمثلة لتلك الوقائع.. فقبل يومين رفعت منشورا هنا عبرت فيه عن إمتناني لعملية إنقاذ لحيوان بريّ، نفذها ناشطون يعملون في منظمات غربية للرفق بالحيوان.. أثار ذلك حفيظة عدد كبير من الأصدقاء ليسلقونني بألسنةٕ حداد، تحقيرا لهذا المسعى، على خلفية أن هؤلاء الناشطين لا يبذلون ما يكفي لإنقاذ المهاجرين من العالم الثالث، أولئك الذين ينفَقُون على مشارف السواحل الجنوبية لأوروبا.
لم يتورع بعضهم في اعتبار ان المبادرة لا تعدو كونها وجه من اوجه النفاق والمداهنة الإجتماعية لأولاد جون. ويجزم آخرون دون أدنى قدر من الأدلة، ان العملية ليست لإنقاذ الحيوان، كما تبدو لنا، إنما هي لسرقته على متن باخرة تنتظره على ساحل البحر !!.. هكذا رجما بالغيب !. يحدث ذلك في نفس الوقت الذي يتناسون فيه, متعمدين، الأسباب المباشرة التي جعلت أولئك المهاجرين يفضلون الموت غرقا في مياه المتوسط من أن يواصلوا الحياة في الشرق الإسلامي.
بصفة راتبة فإنه في كل مرة نتحدث فيها عن مقتلة هنا، قام بها حكام فاسدون سفاكو دماء، ينبري كثيرون ليوبخونك أنك من قبل لم تذرف من الدموع ما يكفي أسفا على فلسطينيين قتلهم اليهود في غزة، أو مئات المسلمين الذين قضوا ظلما قبل عقدين من الزمان في ناحية من بلاد البلقان.. يجب علينا وفق منطق المقابلات السالبة هذا أن نُكتّم شهاداتنا وأن نقلع عن كل شئ، لأنهم لم يروننا من قبل نذرف الدموع تجاه ضحايا وتجاه قضايا هم يرون أنها أولى بالمبادرة من قضايانا ومن دمائنا.وكأن صمتنا اليوم سيعيد ما انسفك من الدماء، حول العالم، لمآقي الضحايا وأوردتهم.. علينا إذن أن نموت اليوم كالحملان بينما يسود الصمت، لأننا من قبل لم نصرخ حينما مات آخرون في ناحية أخرى من العالم.
الخواجات، لم يفعلوا ما يكفي لإنقاذ الناس، فلماذا تغمرنا السعادة حينما يخِفُّون لإنقاذ حيوان بري كوحيد القرن، وتخليصه من سماسرة كادوا أن يردوه قتيلا لكي يبيعوا قرونه للسياح.. لم يفعلوا ما يكفي تجاه الإنسانية، فلماذا ينقذون حيوانا، نحن لنا الوصاية في أن نملي على الآخرين كيف يكون البر والإنفاق وماهي أولوياتهما. كأنهم اذا ما كفوا عن إنقاذ ذلك الحيوان ستجف أنهار الدماء في دارفور، وسيتوقف موت المهاجرين على سواحل تموت حيتانها من وطأة البرد. لماذا ينقذون حيوانا بريّا بينما لايبذلون ما يكفي تجاه الإنسان.. يقولون ذلك بكل جرأة وكأنهم هم من اخترعوا الكينين والكلوروكوين، والفيسبوك.. أو كأن أليكساندر فيليمنغ ولويس باستير كانا بدويين يتسكعان في فيافي بحر أبيض..
في التسعينات وأنا موظف حديث السن بشركة شل كنت أقود سيارتي في شارع الميرغنية في اتجاه الشرق برفقة ابنة خالي، حينما دست فجأة على المكابح لكي أتفادي قطة كانت قد اندفعت في شارع الأسفلت.. بدا أن ذلك قد باغت سائق عربة الأجرة من خلفي فارتطم بسيارتي.. وتجمع يومها حشد من المارة.. أجمع معظم الحاضرين على توبيخي للتسبب في حادث سير من أجل انقاذ قطة. ماذا يعنى إنقاذ قطة والناس يموتون من الفاقة !!.. كان عليّ أن أدَعَها تموت دهسا.. فكأنما موتها كان شرطُ كفاية كيما يتحاشى الآلاف من أطفال الخرطوم ومشرديها الخلود لمخادعهم ليلا بأمعاء خالية..أو كأنهم لا يقرأون كتاب الله حين يقول "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ".. وإلا فأيُّ منطقٍ يقيم تلك المقاربة إذن.
منطق المقاربات السالبة منطق آثم ومتخلف، ولا يعدو كونه مكيدة للظلاميين لطمس كل معالم الإنسانية النابضة، رائحة الورود ولون السماء الأزرق والمبادرات الإنسانية الرائعة، التي تكفلنا أمانينا وأخيلتنا وتدفعنا للتمسك بحقنا في الحياة .
إنتهى..
nagibabiker@hotmail.com
///////////////////