منظومة بريكس الجديدة.. هل توقف الهيمنة الاقتصادية للغرب الرأسمالي؟
د. محمد عبد الله تيراب
17 December, 2023
17 December, 2023
ماهية تأثيرها على تجاذب التعددية القطبية الدولية، والمجموعة الأفرو-عربية (١-٣)
بقلم د. محمد عبد الله تيراب
متخصص في العلاقات الدولية
السياسات العامة، وإدارة النزاعات
ميريلاند- الولايات المتحدة الأمريكية
تلعب الدول النامية دوراً حاسماً في الاقتصاد العالمي، وكذا في ديناميكيات العلاقات الدولية، حيث تواجه هذه الدول التي تتسم كثيراً بانخفاض مستويات تنميتها الاقتصادية، وتصنيعها، تحديات جمة. وفي الوقت ذاته تلوح أمامها فرصٌ فريدة في سعيها لتحقيق، النمو والاستقرار.
في السنوات الأخيرة، أضاف ظهور منظومة بريكس BRICS الناشئ عن تحالف كل من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، بعداً جديدا لديناميكية العلاقات الدولية، حيث قدم مجالات لإمكانية نهوض الدول النامية، وتجاوز اسئلتها الكبرى المتعولمة المتعلقة بتحقيق التوازن بين علاقاتها مع كل من الغرب والقوة الاقتصادية الناشئة لمجموعة البريكس.
اكتسب نظام بريكس مكانة بارزة على ساحة العلاقات الدولية، وأضاف بعض عناصر التعقيد للمشهد الاقتصادي والسياسي. فقد تحدت هذه الدول، باقتصاداتها المتنامية، ونفوذها المتزايد، النظام العالمي الأحادي القائم الذي تهيمن عليه القوى الغربية. كذلك أدى صعود منظومة البريكس إلى تحول في ميزان القوى، وبداية بروز تعدد الأقطاب في العلاقات الدولية ما أدى ذلك لخلق تأثير عميق على المشهد الاقتصادي، والسياسي الدوليين.
فالواقع أن دول البريكس مجتمعة تمثل حصة كبيرة من سكان العالم، وكتلة اليابسة، والناتج المحلي الإجمالي. وبانضمام ست دول جديدة، اعتبارا من العام المقبل، إلى نادي كبرى الاقتصادات الناشئة التي تضم أكبر التكتلات السكانية. بريكس تسعى أيضاً إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الأحادي القطب بشكل حتمي، وهناك كثير بوادر تشير إلى هذا التحول، كما أوردت في حلقات المقالات السابقة. فالتقديرات تشير إلى أنه، وبعد أن كان حجم اقتصاد مجموعة بريكس نحو 26 تريليون دولار - بما يمثل قرابة 25.6 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي في 2022- سيصبح بعد انضمام الدول الست الجديدة نحو 29 تريليون دولار، وهذا يعادل 29 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي.
وفي الحين ذاته، ومع ارتفاع عدد دول مجموعة بريكس إلى 11 دولة سيصبح مجموع سكان دول المجموعة ما يفوق ال 3 مليارات و670 مليون نسمة، أي ما يقارب نصف سكان العالم بينما كانت هذه النسبة عند نحو 40 بالمئة قبل انضمام هذه الدول.
إن نمو هذه المجموعة الاقتصادي السريع، والتصنيع، والتقدم التكنولوجي، قد وضعهم كلاعبين رئيسيين على ساحة العلاقات الدولية. لقد تمكنت دول البريكس من الاستفادة من مواردها الهائلة، وأسواقها الاستهلاكية الكبيرة، والقوى العاملة الماهرة، لدفع النمو الاقتصادي والتنمية. لقد تحدى نفوذهم المتزايد في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة الـ 20، ذات هيمنة القوى الغربية التقليدية.
المنظور التاريخي لعلاقات الدول النامية:
للدول النامية تاريخ طويل، ومعقد، شكل مركزها الحالي في الاقتصاد العالمي. إذ إن استيعاب هذا المنظور التاريخي أمر بالغ الأهمية من أجل فهم التحديات التي تواجهها هذه الدول في تحقيق التوازن في علاقاتها مع كل من الغرب، وكذا منظومة بريكس الناشئة. تعود جذور ارتباطات العلاقات الخارجية - كما هو معلوم - للدول النامية إلى عصر الاستعمار. فخلال تلك الفترة أنشأت القوى الأوروبية مستعمرات عدة في أجزاء مختلفة من العالم، مستغلة الموارد الطبيعية والبشرية لتلك المناطق لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة بها. وقد ترك هذا الاستغلال تأثيرا دائما على التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، لهذه البلدان، حيث جُردت من مواردها الطبيعية، وخضعت لأنظمة حكم قمعية.
يأتي هذا التطور الاقتصادي الجديد في وقت ما يزال إرث الاستعمار يشكل أس العلاقة بين الدول النامية والغرب، ويشكل الإستغلال الاقتصادي والابتزاز السياسي وضعا قائماً حتى تاريخ اليوم برغم الاستقلال السياسي لهذه الدول. إذ لا تزال العديد من تلك الدول النامية تكافح في دفع شرّ تبعات الحكم الاستعماري، بما في ذلك التبعية الاقتصادية، وغياب الاستقرار السياسي، وعدم وجود المساواة الاجتماعية، وكذلك استمرار الدكتاتوريات في الحكم، واستمراء حفاظها على الأوضاع الاستبدادية. تساهم هذه العوامل مجتمعة في تعقيد، وتجذير، التحديات التي تواجهها الدول النامية في موازنة علاقاتهم مع الغرب لصالح المصالح الوطنية لها، وكذا الدفع نحو سعي الدول إلى نظام عالمي أكثر إنصافا.
لقد زادت حقبة الحرب الباردة الأولى من تعقيد ديناميكيات العلاقات الدولية للدول النامية، حيث تم تقسيم العالم إلى كتلتين أيديولوجيتين، حين قادت الولايات المتحدة الغرب الرأسمالي، و راد الاتحاد السوفيتي الشرق الشيوعي بقبضةٍ من حديد . فقد وجدت الدول النامية نفسها حينذاك عالقة في قلب عاصفة التجاذب، والابتزاز، وكذلك الضغط للتوافق مع إحدى القوى العظمى. وقد زادت حقبة الحرب الباردة من تعقيد مشهد العلاقات الدولية، وكذا أشكال العلاقات الخارجية للدول النامية، حيث أدى الانقسام الأيديولوجي بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي إلى ظهور صراعات بالوكالة في مناطق مختلفة، وبلغت تلك الصراعات مدىً متطرفاً. وغالبا ما كانت الدول النامية عالقة في وسط ذاك الصراع، والضحية الأولى فيه. وفي ذات السياق دعم الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، الأنظمة المناهضة للشيوعية وتدخل في الشؤون الداخلية للدول النامية لحماية مصالحها الاستراتيجية. كذلك كان بروز حركة عدم الانحياز هو ردة الفعل لذاك التجاذب، واستجابة معاكسة للضغط، وبرز الحراك كمنصة للبلدان النامية لتأكيد استقلالها، والسعي إلى تحقيق مصالحها الخاصة. وهدفت حركة عدم الانحياز إلى تعزيز التعاون بين الدول النامية ومقاومة نفوذ القوى العظمى. وتوفر منتدى لهذه الدول للتعبير عن شواغلها، والدعوة إلى نظام عالمي أكثر عدلا، وإنصافا لتلك الدول على الأقل.
وقد شهدت أواخر القرن ال 20 - بإنهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة – شهد مسرح العلاقات الدولية تحولا نحو العولمة، وتحرير الاقتصاد في إطار الأحادية القطبية، مما أتاح فرصا وتحديات للدول النامية. فمن ناحية فتحت العولمة أسواقا، وبعضاً من الفرص الاستثمارية الجديدة التي مهدت لهذه الدول لتشهد نموا اقتصاديا سريعا. ومن ناحية أخرى، فإنها عرضتها أيضا لتزايد المنافسة، والتعرض للصدمات الخارجية حيث لم يخل ذلك من التحديات في كيفية إدارة علاقاتها الخارجية. وقد لعبت الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، دورا مهما في تشكيل قواعد الاقتصاد العالمي خلال هذه الفترة. إذ عبر هذا النهج شرعت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في ممارسة نفوذ كبير، وضغط على الدول النامية، وغالبا ما فُرضت برامج التكيف الهيكلي التي أعطت الأولوية للإصلاحات الموجهة نحو السوق وسياساتها.
suanajok@gmail.com
////////////////////
بقلم د. محمد عبد الله تيراب
متخصص في العلاقات الدولية
السياسات العامة، وإدارة النزاعات
ميريلاند- الولايات المتحدة الأمريكية
تلعب الدول النامية دوراً حاسماً في الاقتصاد العالمي، وكذا في ديناميكيات العلاقات الدولية، حيث تواجه هذه الدول التي تتسم كثيراً بانخفاض مستويات تنميتها الاقتصادية، وتصنيعها، تحديات جمة. وفي الوقت ذاته تلوح أمامها فرصٌ فريدة في سعيها لتحقيق، النمو والاستقرار.
في السنوات الأخيرة، أضاف ظهور منظومة بريكس BRICS الناشئ عن تحالف كل من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، بعداً جديدا لديناميكية العلاقات الدولية، حيث قدم مجالات لإمكانية نهوض الدول النامية، وتجاوز اسئلتها الكبرى المتعولمة المتعلقة بتحقيق التوازن بين علاقاتها مع كل من الغرب والقوة الاقتصادية الناشئة لمجموعة البريكس.
اكتسب نظام بريكس مكانة بارزة على ساحة العلاقات الدولية، وأضاف بعض عناصر التعقيد للمشهد الاقتصادي والسياسي. فقد تحدت هذه الدول، باقتصاداتها المتنامية، ونفوذها المتزايد، النظام العالمي الأحادي القائم الذي تهيمن عليه القوى الغربية. كذلك أدى صعود منظومة البريكس إلى تحول في ميزان القوى، وبداية بروز تعدد الأقطاب في العلاقات الدولية ما أدى ذلك لخلق تأثير عميق على المشهد الاقتصادي، والسياسي الدوليين.
فالواقع أن دول البريكس مجتمعة تمثل حصة كبيرة من سكان العالم، وكتلة اليابسة، والناتج المحلي الإجمالي. وبانضمام ست دول جديدة، اعتبارا من العام المقبل، إلى نادي كبرى الاقتصادات الناشئة التي تضم أكبر التكتلات السكانية. بريكس تسعى أيضاً إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الأحادي القطب بشكل حتمي، وهناك كثير بوادر تشير إلى هذا التحول، كما أوردت في حلقات المقالات السابقة. فالتقديرات تشير إلى أنه، وبعد أن كان حجم اقتصاد مجموعة بريكس نحو 26 تريليون دولار - بما يمثل قرابة 25.6 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي في 2022- سيصبح بعد انضمام الدول الست الجديدة نحو 29 تريليون دولار، وهذا يعادل 29 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي.
وفي الحين ذاته، ومع ارتفاع عدد دول مجموعة بريكس إلى 11 دولة سيصبح مجموع سكان دول المجموعة ما يفوق ال 3 مليارات و670 مليون نسمة، أي ما يقارب نصف سكان العالم بينما كانت هذه النسبة عند نحو 40 بالمئة قبل انضمام هذه الدول.
إن نمو هذه المجموعة الاقتصادي السريع، والتصنيع، والتقدم التكنولوجي، قد وضعهم كلاعبين رئيسيين على ساحة العلاقات الدولية. لقد تمكنت دول البريكس من الاستفادة من مواردها الهائلة، وأسواقها الاستهلاكية الكبيرة، والقوى العاملة الماهرة، لدفع النمو الاقتصادي والتنمية. لقد تحدى نفوذهم المتزايد في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة الـ 20، ذات هيمنة القوى الغربية التقليدية.
المنظور التاريخي لعلاقات الدول النامية:
للدول النامية تاريخ طويل، ومعقد، شكل مركزها الحالي في الاقتصاد العالمي. إذ إن استيعاب هذا المنظور التاريخي أمر بالغ الأهمية من أجل فهم التحديات التي تواجهها هذه الدول في تحقيق التوازن في علاقاتها مع كل من الغرب، وكذا منظومة بريكس الناشئة. تعود جذور ارتباطات العلاقات الخارجية - كما هو معلوم - للدول النامية إلى عصر الاستعمار. فخلال تلك الفترة أنشأت القوى الأوروبية مستعمرات عدة في أجزاء مختلفة من العالم، مستغلة الموارد الطبيعية والبشرية لتلك المناطق لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة بها. وقد ترك هذا الاستغلال تأثيرا دائما على التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، لهذه البلدان، حيث جُردت من مواردها الطبيعية، وخضعت لأنظمة حكم قمعية.
يأتي هذا التطور الاقتصادي الجديد في وقت ما يزال إرث الاستعمار يشكل أس العلاقة بين الدول النامية والغرب، ويشكل الإستغلال الاقتصادي والابتزاز السياسي وضعا قائماً حتى تاريخ اليوم برغم الاستقلال السياسي لهذه الدول. إذ لا تزال العديد من تلك الدول النامية تكافح في دفع شرّ تبعات الحكم الاستعماري، بما في ذلك التبعية الاقتصادية، وغياب الاستقرار السياسي، وعدم وجود المساواة الاجتماعية، وكذلك استمرار الدكتاتوريات في الحكم، واستمراء حفاظها على الأوضاع الاستبدادية. تساهم هذه العوامل مجتمعة في تعقيد، وتجذير، التحديات التي تواجهها الدول النامية في موازنة علاقاتهم مع الغرب لصالح المصالح الوطنية لها، وكذا الدفع نحو سعي الدول إلى نظام عالمي أكثر إنصافا.
لقد زادت حقبة الحرب الباردة الأولى من تعقيد ديناميكيات العلاقات الدولية للدول النامية، حيث تم تقسيم العالم إلى كتلتين أيديولوجيتين، حين قادت الولايات المتحدة الغرب الرأسمالي، و راد الاتحاد السوفيتي الشرق الشيوعي بقبضةٍ من حديد . فقد وجدت الدول النامية نفسها حينذاك عالقة في قلب عاصفة التجاذب، والابتزاز، وكذلك الضغط للتوافق مع إحدى القوى العظمى. وقد زادت حقبة الحرب الباردة من تعقيد مشهد العلاقات الدولية، وكذا أشكال العلاقات الخارجية للدول النامية، حيث أدى الانقسام الأيديولوجي بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي إلى ظهور صراعات بالوكالة في مناطق مختلفة، وبلغت تلك الصراعات مدىً متطرفاً. وغالبا ما كانت الدول النامية عالقة في وسط ذاك الصراع، والضحية الأولى فيه. وفي ذات السياق دعم الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، الأنظمة المناهضة للشيوعية وتدخل في الشؤون الداخلية للدول النامية لحماية مصالحها الاستراتيجية. كذلك كان بروز حركة عدم الانحياز هو ردة الفعل لذاك التجاذب، واستجابة معاكسة للضغط، وبرز الحراك كمنصة للبلدان النامية لتأكيد استقلالها، والسعي إلى تحقيق مصالحها الخاصة. وهدفت حركة عدم الانحياز إلى تعزيز التعاون بين الدول النامية ومقاومة نفوذ القوى العظمى. وتوفر منتدى لهذه الدول للتعبير عن شواغلها، والدعوة إلى نظام عالمي أكثر عدلا، وإنصافا لتلك الدول على الأقل.
وقد شهدت أواخر القرن ال 20 - بإنهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة – شهد مسرح العلاقات الدولية تحولا نحو العولمة، وتحرير الاقتصاد في إطار الأحادية القطبية، مما أتاح فرصا وتحديات للدول النامية. فمن ناحية فتحت العولمة أسواقا، وبعضاً من الفرص الاستثمارية الجديدة التي مهدت لهذه الدول لتشهد نموا اقتصاديا سريعا. ومن ناحية أخرى، فإنها عرضتها أيضا لتزايد المنافسة، والتعرض للصدمات الخارجية حيث لم يخل ذلك من التحديات في كيفية إدارة علاقاتها الخارجية. وقد لعبت الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، دورا مهما في تشكيل قواعد الاقتصاد العالمي خلال هذه الفترة. إذ عبر هذا النهج شرعت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في ممارسة نفوذ كبير، وضغط على الدول النامية، وغالبا ما فُرضت برامج التكيف الهيكلي التي أعطت الأولوية للإصلاحات الموجهة نحو السوق وسياساتها.
suanajok@gmail.com
////////////////////