منمنمات على دفتر طلب لجوء سياسي لمصطفى سعيد وآخرين … بقلم: د. حسن الجزولي
18 June, 2009
تداعيات نثرية
(البساتين وسخت روحي بخمرتها
والمزيكا فخخت جسدي بالرقصات
وحبيبتي كذلك لوثتني بالصهيل
والوطن مغنطني
أواه يا اصدقائي .. اما من صباح جديد
يسمم مستقبلنا بالحرية؟!)
الشاعر السوداني ايوب مصطفى
في ظروف ضاغطة وجدت نفسي انتقل من بودابست بعد ان انهيت فترة دراستي العليا بها الى لندن حيث تقدمت الى المسئولين على مطارها بطلب لبعض ملاذ لديهم .. فتحولت اجراءات هذا الطلب العادل والمشروع فيما بعد الى مسألة شد وجذب بيني وبين قرار وزارة الداخلية البريطانية التي رفضت طلبي لاسباب قدرتها هي. المهم وصل استئنافي على القرار الى محكمة عليا موقرة نظرت فيه وحكمت لصالحي.
فيما بعد طلبت منى احدى شقيقاتي وزوجها من القاهرة هاتفياً ان اسرد لهم وقائع المحكمة للاطمئنان حيث كانا في غاية الانشغال بوضعي. فرويت وقائعها (بالبريد) لهما تماما كما نسجها خيالي بأن احكمت الشرطة منذ صبيحة يوم المحكمة سيطرتها على المداخل المؤدية الى قاعة المحكمة وكانت في ال NOTTING HILL GATE! وكانت طائرات الهليكوبتر تجوب فضاء المنطقة. حاول حشد من الصحفيين ورجالات التلفزة الاجنبية التسلل عبر الجانب الغربي الذي يؤدي الى مدخل المحكمة .. كان كوماندوز قمع الشغب قد استعدوا منذ الصباح الباكر وجلبوا معهم كل معدات الصد والخض، بما فيها سيارات المطافئ الضخمة ذات الخراطيم التي تدفع مياهها المتدفقة كجلمود صخر اعتى الاجسام فتجعلها تئن وترتج خطوة للامام وخطوتين الى الخلف!.. وكانت جماهير غفيرة قد انتظمت مواكبها التي فاقت جموع مارس/ ابريل المجيدة! .. وقد كانت تزحف نحو منطقة المحكمة وهي تحمل لافتات كتبت عليها شعارات بكل لغات الدنيا التي تتشكل منها ملامح اللاجئين السياسيين في بريطانيا، خاصة مدينة لندن .. المحلية السودانية كانت تمثلها لافتات باللغات الوليدة والعميقة والمهجنة من عربي جوبا وحتى (تيرمونولوجي) اولاد وبنات حي (ريد) في الموردة شمال بام درمان!. بالاضافة لرطانات قبائل الباري والدينكا ونوبة (دغيم) وعشائر المناصير والعبابدة ودهمشية البديرية! فاهل الجبهة كانت اريحيتهم طافية على ماعون استبدادهم وهم يوزعون منه على اجناس السودان! .. وقد كانت معظم الشعارات في ذلك الصباح امام المحكمة تحمل مضامين من نوع HUMAN RIGHTS MOVEMENT SHOULD SUPPORT EVERYONE .. الا ان هناك مجموعة من السودانيين المتشنجين اصروا على حمل لافتة كتبوا عليها شعارا اثار غرابة وبلبلة (نحو القصر حتى النصر)!.. امناء جدا هؤلاء السودانيين حيث ان لهم اصرارا دفينا على تحقيق كامل هتافات حناجرهم حتى وان تم ذلك في مدن الخيال الملبدة بالسراب، او حتى تلك التي (تموت من البرد حيتانها) .. أي قصر واي نصر هذا الذي يتنادون بالزحف نحوه؟!.. وقد فات عليهم ان (قصور) هؤلاء السادة لا دخل لها في حسم الصراع لمصلحة فريق على آخر .. (انهم علمونا التناحر حول السلطة ثم حسموا امر تداولها بشكل حضاري من مجرد تعدد الى مبدأ تداول) .. الا ان ناسنا قد تشابهت عليهم (القصور) .. المهم تدخلت الاجاويد وبصعوبة تم اقناعهم بعدم جدوى الشعار.
في العاشرة تماما بدأت المحكمة، وكانوا قد ادخلوني من بابها الخلفي بعدما لم تستطع السيارة التي تقلني وهيئة الدفاع ان تشق جموع الناس والصحفيين الذين تكأكأوا علي حتى استحضرت صرخة (افرنقعوا عني) .. اجلسوني في قفص الاتهام، قبالتي تماما جلست هيئة المحلفين الذين كانوا (اشتاتا من الناس، منهم العامل والطبيب والمزارع والتاجر والحانوتي، لا تجمع صلة بيني وبينهم، لو انني طلبت استئجار غرفة في بيت احدهم فاغلب الظن انه سيرفض، واذا جاءت ابنة احدهم تقول له انني ساتزوج هذا الرجل الافريقي فيحس حتما ان العالم ينهار تحت رجليه، ولكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسموا على نفسه لاول مرة في حياته، وانا احس تجاههم بنوع من التفوق)!.
كانت هيئة المحكمة تجلس في المنصة الرئيسية، على يسارها يرفرف علم بريطانيا العظمى وخلف القاضي امرأة نبيلة في وقارها، وكانت الحيدة والاستقامة تشعان من وجهها النضر .. كانت تجلس على (كرسي فكتوري مكسو بقماش من الحرير المشجر) وامامها منضدة ضخمة مستطيلة من الرخام الاخضر وعليها كتب ودفاتر ومحبرة ضخمة .. كانت هيئة المحكمة والدفاع والاتهام يرتدون الزي الرسمي لرجال العدالة في بريطانيا .. الروب الاسود المجلل بالهيبة وباروكات الشعر المستعار ذات الالوان البرونزية، وكأنك حينما تتأمل ملامحهم لبرهة تخال انك تتابع احدى مسرحيات ديكنز او شكسبير!، كانت قاعة المحكمة بشكل عام تحمل كل ملامح الهيبة والوقار (فالاحتفال مقام اصلا بسببي وانا فوق كل شيء مستعمر .. انني الدخيل الذي يجب ان يبت في امره .. حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد يرسف في الاغلال بعد أن هزمه في موقعة اتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الارض وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا، فليكن ايضا ذلك شأني معهم).
ظلت المحكمة منعقدة لساعات كان فيها الدفاع يدخل في تشابك من نوع (كظيم) مع الادعاء، وكان القاضي يفعل المستحيل لفض الاشتباك، وكنت بدوري قابعاً في مقعدي وكأن الامر لا يعنيني في شيء، وكنت اقول مع نفسي (نعم يا سادتي .. انني جئتكم غازياً في عقر داركم .. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ، انا لست عطيلا، عطيل كان اكذوبة)، انا ود نعمة بت الانصاري التي ناصر اهلها المهدي عليه السلام، وشارك والدها في معركة كرري التي جرح فيها جرحا بليغا لازمه مقعدا حتى غادر الدنيا لا مال ولا جاه سوى وجاهة التاريخ الذي كرمه وأكرمه حينما حكى عن رجال كرري وكيف انهم قاوموا جحافل الامبراطورية التي لا تغرب عنها شمس تسلطها على الفيافي والوديان بعد ان ادوا صلاة الصبح حاضرا في جامع الخليفة، وخرجت جموعهم من الباب الغربي وسارت ارباعا في شوارع العرضة وهي تكبر (لا اله الا الله .. جودوا الكفار فيشان الله) .. فعلوا ذلك في احد ايام الاربعاء اول سبتمبر من عام 1898، فاستحقوا عن جدارة تمجيد (كبلنج) شاعر الامبراطورية البريطانية:
(ايها الشحاذون السود ..
(البدويون العظماء ..
انتم كسرتم المربع البريطاني)!
اذن فقطعا انا لست بعطيل .. بل حقيقة .. وأبي هو العوض الذي طورد في رزقه بعد ان حوكم مرارا بمنطوق القوانين التي سنها الاستعمار البريطاني وقصد بها الحد من (النشاط الهدام) سنوات الجبهة المعادية للاستعمار برفقة حسن الطاهر زروق وعم بدري الشيخ وعبد الرحمن الوسيلة!
تمعن في ممثل الادعاء بنحو شديد من الغيظ وبثور (الزينوفوبيا) يحتقن بها وجهه وسألني شذرا عن الحكمة في ملاذي ببلاد العجم مع ان بلادي محاطة بساحات من الوحدة العربية التي ظل ينشدها شعراؤها منذ موسيقى (بلادي بلادي) وتتيقن من ثبوتها عرافات المستقبل العربي من المحيط الى الخليج، فتمثلت ابيات الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي:
(خيام .. خيام
تضيء الثريات فيها الاثاث الوثير
ويمرح فيها ذباب الكلام
وابوابها من نحاس تجر عليه السلاسل)!
لم يفهم (الخواجة) بالطبع فانتهرني طالبا الافصاح، الا انني لم اعلق بشيء فلجأ الى حيلة مرذولة حاول بها استفزازي حينما قال لي: انت يا مستر (جزولي) خير مثال على ان مهمتنا في افريقيا عديمة الجدوى فانت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لاول مرة، فتذكرت بعضا من قبائل ابناء العمومة البررة الذين عن حق خرجوا من الغابة، واليها عادوا بعد ان اكتشفوا بعملية حسابية بسيطة بساطة الحكمة عند سلاطينهم ان حاصل القسمة ليس عادلا من اصله وبالتالي فان واقع نصيبهم ليس مقبولا من فصله! .. ولانهم فعلوا ذلك لم يجد شياطين المدافع من وسيلة يعيدونهم بها الى الحظائر وهم (صاغرون) سوى تجنيد اليفع وهم يسرقونهم من (غبار الشوارع) ليمنونهم بالحسان من الحور العين، ويا ليت زفافهم اليهن يتم (بالعديل والزين المنقى) كما انشد شيخ شعراء الشعب محمد المهدي المجذوب، بل (بالخطاّب) ذوي العاهات المستديمة في منطقهم بركيك القول وفجاجة الحديث من امثال حامي الحمى عبد الباسط سبدرات!
بعد ان جال بخاطري كل ذلك رفعت رأسي وخاطبت المحكمة دون ان اعي سائلاً: انتوا الجابكم لينا شنو الأول؟! .. فنبهني القاضي الى احترام حرمة المكان والالتزام بعدم الخروج عن النص – فاعتذرت بادب جم وعدلت حديثي قائلا: (البواخر مخرت عرض النيل اول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد انشئت اصلا لنقل الجنود، وقد انشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم، انهم جلبوا الينا جرثومة العنف الاوروبي الاكبر الذي لم يشهد العالم مثله من قبل).
هنا انبرى ممثل الادعاء صائحاً (كل هذا دليل على انكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم اسطورة الاستعمار المستتر، يبدو ان وجودنا بشكل واضح او مستتر ضروري لكم كالماء والهواء).
وهكذا استمرت المحكمة لايام واسابيع ثم شهور، كنت خلال تلك الجلسات اجلس (لاستمع الى المحامين يتحدثون عني، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني امره .. كان المدعي العمومي سير آرثر هنغز مريعا .. اعرفه تمام المعرفة) الا انني لا اذكر كيف وأين ومتى! (رأيته يعتصر المتهمين اعتصارا. نادرا ما كان يفلت متهم من يده. ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم، بعد ان يفرغ من استجوابهم. لكنه هذه المرة كان يصارع جثة).
- هل قاومت احتلالنا لبلادكم؟
- لا ادري
- هل انت من مواليد 1956؟
- لا ادري
- هل قاومت حكما ديكتاتوريا من قبل؟
- لا ادري
- هل لك علم باحداث اكتوبر 1964؟
- لا ادري
- هل شاركت في انتفاضة مارس/أبريل 1985؟
- لا ادري
- هل تناهض حكم الجبهة الاسلامية الحالي؟
- نعم!
- تناهضه عمدا؟
- نعم
- حتى هنا؟
اعترضت هيئة الدفاع على صيغة السؤال الاخير، الا انني استفسرت عن المقصود بكلمة (هنا)، فأعاد السؤال بصيغة اخرى فاغتظت منه بدوري وباغته بحكاية روتها القاصة السودانية الفذة فاطمة السنوسي في السبعينات تقول (في بلاد بعيدة نظر الطبيب صورة لقلبي بالاشعة السينية .. قال بانزعاج .. هناك تشوهات بالقلب!.. قلت بغير انزعاج: .. ليس تشوها ولكن قلبي في الغربة يتشكل بخارطة الوطن .. استمع الطبيب مندهشاً وعكف على الخارطة يدرسها بامعان!).
اسئلة ومحاورات ومداولات لا تفضي الا الى مداولات. جلسات ترفع واخرى تؤجل لاسابيع .. ظللت على هذه الحالة لعدة اشهر تجاورني شقيقتي وزوجها وعيالهما المتشبثون بالسودان كعادة أهل السودان ذوي الضمائر النيرة في الملاجئ! ويناصرني الاصدقاء والصديقات والأهل والمعارف وقدامى اولاد الحي وابناء الدفع الدراسية .. الخالات والحبوبات .. الاعمام وأولى الامر فينا!.. فكل ام درمان هنا .. بل هنا كل السودان، محامون وقضاة شرفاء اقصتهم عصبة الترابي عن ساحات العدالة والاستقامة تشع من محياهم، فتجدهم يجوبون اسواق لندن المتواضعة بحثاً عن شرف اللقمة ونزاهتها، اسر وطنية لم تبخل بحرائرها ليحاربن جنبا لجنب مع الرجال في معسكرات التجمع الوطني الديمقراطي لينلن فيما بعد مجد (شريفة بت بلال) وربما ستصدح احداهن وتدندن لاحقاً:
(انا بت هلال
بت الناس العدال
انا الحاربت مع الرجال
سنة الجبهة والدقون الطوال
سنة الرغيفة قروشا بالشوال
انا الحاربت مع الرجال!)
كل السودان هنا اذن .. فأهل الجبهة كانت اريحيتهم طافية على ماعون استبدادهم وهم يغرفون منه على كل اجناس السودان! .. اطباء ذوو ضمائر لونها كأسرة مرضاهم ومفارشها، رجال مترعون بالغيرة على اوطانهم فاخضعوا علمهم بالعلاج المجاني لاطفال قرورة وتبرعوا بالمستشفيات الميدانية والحاويات بالمؤن للاراضي المحررة .. فطوبى لهم اذا قارنت فعلهم الجسور بسيرة اقران لهم جاءت بهم الجبهة
الاسلامية الى مستشفيات بريطانيا ليتخصصوا في التطبيب فضبطتهم مخافر اسكتلنديارد بجرائر التنكيل بالمعتقلين السياسيين في بيوت الاشباح – حسب (نبيشة) "الصنداي تايمز" لحالهم – واصابع اياديهم التي ادوا بهم قسم (ابقراط) ويمين البيعة لامامهم النميري ومأمونهم البشير ملطخة بدماء زميلهم على فضل! .. وفي سيرة التطبيب قيل ان طبيب الاسنان المصري الشهير كمال الابراشي حدث ان زاره السفير الاسرائيلي في مصر حينها نتنياهو بن اليسار سنوات السادات لعلاج اسنانه وعندما سأله السفير عن التكلفة بعد علاجه قال له الابراشي: 50 الف دولار ثم طلب منه كتابة الشيك باسم السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية!
كل السودان هنا اذن .. حتى احياء بكاملها لجاليات هندية عاشت في السودان لسنوات الا انها تحولت الى (اهل ذمة) فانتقلت الى هنا .. فانت حين تلتقي بوجوه منها تعرفك وتعرفها فانها لا تومي اليك بحي ناس (لاليت) في ام درمان عصرا بقدر ما تنقلك لسينما بانت او العرضة ذات خميس مسائي!
وفي لندن يحيا ناس السودان ويمارسون حياتهم التي اعتادوا عليها واعناقهم تشرئب نحو فضاء المدينة وهم يؤملون النفس من بين عتمة الضباب الضارب لمشاهدة (طائرة السيرة) التي ستقلهم زرافات ووحدانا الى البلاد التي انجزت الانتفاضة الثالثة! .. وكأن انجاز الانتفاضة قد اوكلوه لمقاول ما هناك لكي يشرف عليها ثم يقوم بتسليمها لهم (مشطبة) على رأي صديقنا الجليل خليل الياس!
يحيا ناس السودان في لندن اذن ويمارسون حياتهم التي اعتادوها .. يتزوجون وينجبون، يتصاهرون ويختنون اولادهم ويقيمون الافراح وليالي المولد وحلقات الاذكار، يرتلون القرآن ويطالعون صحف الصباح ثم يستمعون لنشرات الاخبار علها تنقل قائمة الوفيات في نشرات الثامنة مساء، فلا يتعرفون الا على اسم ديدي وصديقته البديعة ديانا والتي (وصل ما تم وضعه من زهور امام قصرها والاماكن التي كانت تمشيها الى ما قيمته 30 مليون جنيه استرليني) .. نعم .. فوحدهم الذين يعشقون هم الذين (يستطيعون ان يتحدثوا جيدا عن العشق)!.
يحيا ناس السودان في لندن ويمارسون حياتهم التي اعتادوها .. يحافظون بجهد على ناموسهم ويقرأون طالعهم في (اللوتري الانجليزي) لعل وعسى! ينشدون السلامة والاشعار السمجة، الا ان من بينهم يموت فجأة (عم شريف) الاتحادي الغيور وحيدا في شقته التي لاذ بها سياسيا، فيكتشفون رحيله بعد 12 ساعة من المغادرة! .. ومن لندن ترحل على صندوق خالتي التومة احمد ابراهيم التي قال في رحيل والدتها شقيقها صلاح وهو يرثيها:
(تترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا
لنا ذكر وذكرى ..
من فعال وخلق
ولنا ارث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
ولنا في خدمة الشعب عرق)
من لندن يرحل خالد الكد وعز الدين علي عامر فينشرح قلم مخابرات (الوان) فتصيغ الخبر بكل غبطة وتشف وهي تقول انهما عادا للوطن داخل صناديق بعد ان هلكهما الله! .. فيا الله أي اسلام هذا الذي يناطحون فيه حرمة موتاك؟! .. ولكنها (الوان) التي اشارت اليها صحيفة "الفجر" بأنها رائدة البذاءة في الحقل الصحفي، وذكر في رصيفاتها الصحفي المصري منير عامر بأن يديك حين تمسها حالما تتسخ من فرط رداءة طباعتها .. وما ان تقرأها حالما يتسخ عقلك من فرط رداءة سطورها!
اشهر طويلة كنت انتظر فيها الجلسة النهائية للنطق بالحكم في أمر لجوئي السياسي .. اشهر طويلة و(كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق وطير الوقواق يغني للربيع من كل عام .. قاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر .. مسرحيات برناردشو تمثل في الرويال كورت والهاي ماركت. كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ومسرح البرنس اوف ويلز يفيض بالشباب. والبحر في مده وجزره في بورتموث وبرايتون، ومنطقة البحيرات تزدهر عاما بعد عام، والجزيرة مثل لحن عذب).
اشهر عديدة من الانتظار (تعلمت فيها اشياء وغابت عني اشياء) .. طالعت كتباً واستمعت لالحان عذبة ونكات جديدة ضاحكة، صادقت اناسا جدد وقرأت شعرا ينضح حلاوة وطربا لحافظ خير:
(تضج الحدائق في راحتي
وتبذر في الصمود النبيل
يجيء الصباح ثقيلا على
وأواصل هذا الرحيل الطويل
وحدي ..
امارس هذا النزوع الجميل ..
وحدي).
ثم ادمنت مناحة رقية وراق في الصقيع بكندا شتاء عام 1994 فطفقت اردد معها:
(ووب يا ناس علي
والف سجم يسربل فمي ..
الثلج كالني والرماد!)
قرأت قصصا قصيرة في غاية التجويد والحكي الممتلئ امتاعا لاحمد المتوكل وفيروز معوض (انها قصص اجمل من ان تصدق) .. تابعت لغة السرد البسيطة في حكاوي شوقي بدري الامدرمانية .. وأما ام درمان ذاتها فان طيفها والله يعلن ويشهد في الخاطر (من فتيح للخور للمزالق .. من علايل ابروف للمغالق 0 فيا ويح قلبي المانفك خافق) .. وان كان ثمة حقيقة يمكن ان تقال فان (شفق المغيب الذي يلاحقنا من وادي النيل يحمل عطرا لن ينضب في خيالي ما دمت حيا).
اشهر عديدة مرت، استعدت خلالها ذكريات هوى قديم فاودعت البريد رسائل! .. وانشغل ذهني في حلي وترحالي بالخبر المفجع الذي اودع لي وانا بالقاهرة حول رحيل اخي وحبيبي رفيق الصبا والشباب عبد القادر حسن الشهير (بقاقا) عندما لعب لفترة وجيزة لفريق الهلال .. والشقيق الاصغر للاعزاء د. على قاقرين لاعب الهلال والفريق القومى السوداني ثم شقيقه الاكبر جعفر لاعب المريخ ابن الاهلي السوداني في ستيناته .. انشغل عقلي اذن بالبحث المضني عن صحة خبر الوفاة .. أيموت هذا الصديق؟! بحثت عن عنوان لاهله ولا عنوان .. الزوجة .. الجيران .. المعارف .. ضاعت للاسف المعالم .. راسلتهم مراسلة منكر ونكير فلا خبر ولا أثر .. (فيا ويح قلبي) .. هل هو حي ام ميت لا ادري؟!
تسكعت بعدها في امسيات لندن وضواحيها .. تعرفت على الطيب صالح في قاعة الكوفة الثقافية بقلب المدينة، وعندما قدموني له (لم يغب عني ادبه الجم) .. (عرفت حانات تشلسي واندية هامبستد ومنتديات بلومزبري) ثم تجولت في محطة تشارينغ كروس.
(الساعة تجاوزت الواحدة
ثمة ضوء ضئيل
ثمة ألم عظيم)!
اشهر عديدة تصفحت خلالها بعض ارتال من صحف ودوريات حكومية وشعبية .. قالت المعارضة في صحفها (كيف السبيل الى الانتقال من مجرد تعددية الى ترسيخ مبدأ تداول السلطة؟) .. فقالت الحكومة (الزارعنا غير الله يجي يقلعنا).
ثم انعقدت الجلسة الاخيرة .. وجاء كل اولئك القوم الذين ظلوا يجيئون في كل جلسة، وبدأوا يقرأون ارتالا من الاوراق. ومن جانبي كان الامر وكأنه لا يهمني في كثير او قليل .. ومازلت (ارجو ان تمنحني المحكمة ما عجزت انا عن تحقيقه) .. ان يرفضوا طلبي لحق اللجوء السياسي في بلادهم وبذا يتيحون لي فرصة ان لا أهاتي بآهات الخليل بعيدا عن الديار! .. الا انهم قطعا لن يفعلوا (كأنهم ادركوا قصدي فصمموا الا يعطوني آخر امنية لي عندهم) .. سيحكمون بحقي في البقاء عندهم .. وسنرى!.
كانوا يقرأون في ارتال من رزنامات موضوعة امامهم، وقد تشاغلت بصحيفة حكومية من السودان وقعت في يدي صدفة ذلك اليوم (زيادة جديدة في اسعار الكهرباء .. وزير الخارجية يؤكد ان قبول النظام لاعلان المبادئ لا يعني التخلي عن الشريعة الاسلامية .. البنك الاسلامي تأصيل للعمل المصرفي الاسلامي في السودان .. الهندي يدعو المعارضة لمراجعة مواقفها .. مشروع الشهيد الزراعي يحقق طفرة تنموية كبرى بالبلاد .. مقال بعنوان ليس بالجنوب وحده يسود السلام .. احتساب عدد من الطلاب بمناطق العمليات العسكرية ماتوا تأثرا بالملاريا .. احتساب عدد من الجنود والضباط بمناطق الملاريا ماتوا تأثرا بالعمليات العسكرية .. الجمعية العمومية للهلال تنعقد بثلث اعضائها .. مناشدة لاهل الخير .. احكام رادعة بحق مواطنين اختلسوا مبلغ 44 الف دولار لمصلحتهم .. وفرنا لك الخيار وعليك الاختيار لثلاجات 8 قدم و10 بوصة. الاعتصام وتبوك على كأس الانقاذ .. مقال يقول: الجبهة الاسلامية حلت نفسها فعلا وقولا بخلاف ما تقوله المعارضة ثم افرز الواقع دولة تستند على تيار تختلف همومه وتطلعاته ولكنه غير متنافر .. مطلوب للعمل عدد 4 اطباء تخصص و3 مهندسين والمؤهلات بكالوريوس آداب او مؤهل جامعي معترف به .. وزير الخارجية يؤكد ان السودان قد تخطى المطب السياسي في قمة الايغاد بالديبلوماسية الهادئة .. احدهم كتب يقول اننا نرقب بكثير من الامل المهرجان الثقافي الموعود الذي يقف عليه الدكتور (الشاعر) الطيب ابراهيم محمد خير وزير الثقافة .. (يقصد بالشاعر الطيب سيخة!) ثم مضى قائلا: الرجل غرسة شعر وفروسية ولمثل هؤلاء تستطيع على الاقل ان تهمس دون حرج بعبارة من هنا نبدأ! .. بهذا المقال الاخير في الصحيفة التي كنت اطالعها توقفت تماما عن المطالعة .. نحيتها جانبا وانا اردد مقولة الامريكية ويندي فاسرستاين (مسألة ان تكون مضحكا قضية في غاية التعقيد!).
ثم .. وفي نهاية المداولات اعلنت هيئة المحكمة رفع الجلسة ليتداول المحلفون امري .. على ان يصدر منطوق الحكم بين شهري (مارس وابريل) بعد مائة عام من العزلة .. فهاجت ذكرى مظاهرات الاحياء الشعبية ليلا في مارس وابريل في مهجتي، حينها نهضت من مقعدي وقلت لهم، للمحكمة وقاضيها وهيئة اتهامها .. للحاجب والكتبة حراس الابواب الخلفية .. لرجالات التلفزة وعربات النجدة والطوارئ، قلت لهم ما ذكره الاستاذ محمد محمود لمناسبة الانتفاضة (فكل ما تغلغل في مساماتنا من وجع الازدراء فانه انفجار اللحظة التاريخية القادمة وبذرة مارس ابريل الآتية .. بيننا وبينهم الهاوية وهي الموقع الأبدي الذي يترسم لمن يحدثون فعل القتل واسقاط التاريخ وحقائقه)!.
نقلاً عن الفجر – العدد 44 - 11 مارس 1998 elgizuli@hotmail.com;