من الارجنتين الى السودان مهنية عالية وضربات موجعة !!

 


 

 

أنعى لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
ومفردات العهر والهجاء
والشتيمة
أنعى لكم كلامنا المثقوب
كالأحذية القديمة
نزار قباني
تستهويني قراءة التاريخ في كل ضروبه ومحطاته ولكن تبقى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وما تلى ذلك من انشاء جهاز الموساد الاسرائيلي الذي يعتبر أكبر وأخطر أجهزة الاستخبارات في العالم حيث امتدت أنشطته المتقنة الصنع والتي تؤكد على مهنية عالية من العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس غربا الى بورتسودان شرقا حينما أغارت طائرات إسرائيلية على قوافل سيارات في طرق غير معبدة في خاصرة الجبال السوداء النائية الرابضة في عمق ولاية البحر الأحمر قبل اصطيادها بالصواريخ سيارة أتوس صغيرة قادمة من عطبرة على الشارع العام في قرية كلناييب (5 كيلومترات جنوب بورتسودان ) ثم مواصلة الاغتيالات باستهداف مباشر لسيارة برادو بعد متابعة دقيقة للضحية المطلوبة واثناء توجهه الى مكان عمله بالسوق بعد توصيل أبنائه للمدارس .. تعتبر الحرب العالمية الثانية أكبر نزاع عسكري شهدته البشرية الأكثر بمشاركة 60 دولة وسقوط 70 مليون قتيل تتصدرهم روسيا بأربعة وعشرون مليون ضحية .. ولكن ليس هذا ما أعنيه بل لا يعنيني في هذه السانحة حتى انتحار الفوهررادولف هتلر قائد الرايخ الثالث الذي أشرف على تناول زوجته ايفا براون وأطفالهما سم السينايد قبل أن يأمر معاونيه بحرق جثته وجثة اسرته حد الرماد قبل أن يطلق النار على نفسه من مسدسه في قبو المستشاريه في ابريل 1945 حتى لا يقع في أيدي الروس حيا أو ميتا .نفس هذا كان مصير وزير الدعاية النازي بول جوزيف جوبلز وزوجته ماجدا وأطفالها الست الذين انتحروا بكبسولات السينايد .
أما قائد سلاح الجو هرمان جورينج فقد تم اعتقاله ونقله للمثول
أمام محكمة نورمبرج حيث حكم عليه بالاعدام شنقا وكان ينتظر كعسكري اطلاق الرصاص عليه الا انه سبقهم بالانتحار بسم السينايد تاركا مذكرة كتب عليها (لن امكنهم من رقبتي ).
الوحيد الذي اصدر بحقه السجن المؤبد هو الساعد الأيمن لهتلر روبرت هيس وهو الرجل الذي هرب الى بريطانيا من وراء ظهر الفوهررلابرام اتفاقية صلح مع الحلفاء ولكن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وقتها رفض عرضه فتم نقله مكبلا بالحديد الى مدينة نورمبرج للمثول أمام أكبر محكمة في التأريخ .
(2)
قرأت مذكراته التي كتبها وحيدا في سجن شبانداو الذي كانت تتولى حراسته دول الحلفاء على مدار 35 عاما في السجن. وكانت ذكرياته التي كتبها بين الجدران الأربعة لغرفة السجن من أمتع ما قرأت في مجلة آخر ساعة المصرية حينما قال متبجحا (قدمنا للعالم باخ وفاجنر وبيتهوفن ولم يجد هؤلاء شيئا يقدموه سوى صوت ارتطام الأحذية على ألأرضيات ) في إشارة الى عسكري الحراسة الذي كان يمشي جيئة وذهابا .. المجال هنا لا يتسع لمزيد من الاستعراض . ولكن حينما وخط الشيب رأسه وبلغ من العمر عتيا قررت دول الحلفاء العفو عنه واطلاق سراحه لأسباب إنسانية ولكنه رفض العرض باباء مشيرا بأنه يسعى لدخول التأريخ من أوسع أبوابه بتدويخ واهانة واذلال أربعة دول هي أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا لكي يتحملوا عبيء واجبات الحراسة والأكل و الخدمات . ظل هيس في سجنه حتى عثروا اليه منتحرا عام 1978 فتنفست الدول الكبرى الصعداء .
(3)
لكن كل ما ذكرته هو مقدمة لما أسعى اليه وهو فتح ملفات الإدارة الخاصة التي أنشأتها الحكومة الاسرائيلية لمطاردة وملاحقة ما كانت تعتقد بأنهم من قادة النازي الذين أشرفوا على معسكرات حرق الاسرى اليهود في أفران الغاز وكان على رأسهم أدولف ايخمان .كان الرجل مسئولا عن الترتيبات اللوجستية كرئيس لجهاز البوليس السري (الجستابو) وكان من كبار مهندسي المحرقة (الهولوكوست ) . عام ١٩٤٦ تمكنت فرقة من القوات الامريكية من القبض عليه وأودعته السجن ولكنه تمكن عام 1950 من الهرب والفرار الى الارجنتين مع اسرته باسم مستعار والتحق بالعمل مراقبا في مصنع لشركة مرسيدس تحت اسم ريكاردو كليمنت ..
(4)
هناك انخرط في المجتمع الارجنتيني وشيد منزلا في منطقة ريفية خارج العاصمة بوينس أيرس وعاش حياة هادئة بعيدا من هاجس المطاردة .. الا ان لقاء أسريا عاديا كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهره فقد تبجح أحد أبنائه لزميلته
Girl friend
وكانت يهودية من أصل أرجنتيني بدور أبيه في تأديب اليهود وكان ذلك (البوبار) الأرضية التي بنى عليها الموساد الإسرائيلي خططه وتحركاته بعد أن تسربت اليه الحكاية .
(5)
عام 1960 نجح الموساد في اقتفاء اثره في بوينس أيرس فتوجهت الى هناك فرقة من ثمانية أشخاص برئاسة رافائيل ايتان أحد أكبر مؤسسي جهاز الاستخبارات الاسرائيلية (توفي مؤخرا عن عمر يناهز الثانية والتسعين ) لخطفه من الارجنتين الى إسرائيل للمحاكمة . ما تلى ذلك كانت إجابات على علامات استفهام حائرة من شاكلة كيف سيتم القبض عليه ..ايهما الأفضل نقله على متن طائرة ام باخرة ..كيف يتم خطف مواطن من بلده الى بلد آخر ؟
(6)
تمكن جهاز الاستخبارات بعد بحث دقيق وبالتعاون مع يهود يحملون الجنسية الأرجنتينية الاهتداء الى منزل ايخمان الريفي خارج العاصمة بوينس أيرس فأسرعوا ببناء منزل يطل على منزله وقاموا بتزويد المنزل بكاميرات دقيقة مسلطة وموجهة على البيت على مدار الساعة تعمل بمجرد دخوله الى المنزل وتلتقط عشرات الصور ثم تقوم المجموعة بارسالها الى المكتب الرئيسي لجهاز الموساد في تل أبيب الذي كان يعرض هذه الصور لكل الذين عاشوا في معسكرات الاعتقال النازية وعرفوه عن كثب ..وبدأت عمليات التعرف على الرجل تتزايد يوم أثر يوم والمقصلة تقترب من الرقبة ولكن لم تأتي الجولة الحاسمة واللكمة القاضية الا عصر أحد أيام حينما جاء ايخمان الى منزله حاملا باقة ورد قدمها لزوجته فبعثوها الى تل أبيب لتحليلها ومن هناك جاء الخبر اليقين وهو ان ذلك اليوم يصادف ذكرى عيد زواجه .وان ريكاردو كليمنت هذا ما هو الا رودلف ايخمان .هنا تبدأ عقدة القصة .
(7)
درس الجهاز كل خيارات تهريبه من الارجنتين الى إسرائيل هل بحرا أم جوا ..خيار البحر خرج من الحلبة بالقاضية لكونه يثير شكوك أسرته وتقديمها شكوى لأجهزة الامن حول تغيبه واحتمال بدأ حملة للبحث عنه قبل وصوله الى تل أبيب سيما بعد شهر عبر رحلة طويلة تمتد ل 10 آلاف كيلومتر. و لذلك كان الخيار العملي الأصوب هو الجو ولكن كيف يمكن القبض عليه وكيف يمكن تهريبه من المطار ؟
أوقفت المجموعة سيارتها المستأجرة بمحاذاة الطريق وحفرت حفرة عميقة وانتظرت الرجل الذي كان عادة يترجل من الحافلة ويواصل سيره بالأقدام حتى منزله .. فتحوا (كبوت) السيارة وطلبوا منه المساعدة في اصلاح عطب في السيارة وما ان اقترب من السيارة المعطوبة حتى انقضوا عليه وأسقطوه في الحفرة ثم كتفوه وعصبوا أعينه بالضمادات وانطلقوا به على جناح السرعة الى منزل تم تأجيره في أحد الأحياء وهناك جردوه من ملابسه كمن ولدته امه وسألوه من أنت؟ .. ومن خبراته المتراكمة وقناعاته الدائمة انه هدف للموساد الإسرائيلي وحيث لا يجدى الكذب اعترف وقال (أنا ايخمان)..
(
وقع الاختيار على طائرة خطوط (العال) الاسرائيلية لنقله الى تل أبيب لتنفيذ المهمة .هنا تبدأ الدراما المثيرة التي تؤكد على المهنية العالية والذكاء الخارق المؤسس على تحليلات علمية ودراسة للخيارات والبدائل المنطقية لجهاز الموساد الإسرائيلي والتي تصلح كمادة علمية يتم تدريسها في الجامعات ومراكز البحث . زعم أعضاء الجهاز و بالتعاون والتنسيق التام مع يهود ارجنتين أمام الجوازات الأرجنتينية بأن لهم مريضا تعذر علاجه في الداخل لخطورة مرضه ويطلبون نقله الى الخارج لتلقي العلاج هناك بشهادات طبية مزورة ضمن مسرحية محبوكة بعناية تامة . حرص أطباء المجموعة على تخدير ايخمان وتوجهوا به الى المطار محمولا على نقالة وكان بينهم أربعة نساء يهود من الجنسية الأرجنتينية كانوا ينتحبن بشدة خوفا على حياته ..وكان كلما يفوق من التخدير يتولى عضو من المجموعة اعطائه جرعة من العلاج الذي لم يكن الا مخدرا يشل الحركة ..هكذا ضحكوا على جوازات الارجنتين وتمكنوا من تهريب ايخمان الى مطار تل ابيب .
(9)
بعد عام من اختطافه عام 1960 مثل الرجل أمام المحكمة التي أدانته بكل التهم الموجهة اليه وكانت 15 تهمة متجاهلة كل دفوعاته التي سجلها بأنها كان (عبد مأمور) وكان ينفذ فقط أوامر صادرة من رئيسه المباشر وحكمت عليه بالاعدام الذي تم تنفيذه شنقا حتى الموت في ابريل عام 1961 وحرق جثمانه وتم نثر رماده في عمق البحر المتوسط .
(10)
كانت حكومة الارجنتين قد عرفت بجريمة التهريب وشنت حملة استنكار شرسة واسعة النطاق على الحكومة الاسرائيلية بتهمة التدخل في الشأن الداخلي ..هنا غادر الملعب جهاز الموساد ليدخل لاعبا وسط خطيرين أحدهما مهاجم والآخر مدافع هما وزارة الخارجية واللوبي الصهيوني في أمريكا ووجها هجوما كاسحا واتهامات غليظة لحكومة بوينس أيرس بمعاداة السامية وايواء قتلة وسفاكي دماء فسكتت عن الكلام المباح ..أما الخرطوم فيبدو أنها كانت تعرف مقدما حدودها وامكانياتها (ولا يكلف الله نفسا الا وسعها) فقد وفرت لإسرائيل حتى عناء توجيه تهمة العداء للسامية فصمتت صمت القبور .
النداء الأخير
للذين يرددون عبارة (الناس في شنو والحسانية في شنو) أقول أنني والله صادقا لقد سئمت الجبانة الهايصة ومستنقع الدافوري القميء للسياسة السودانية وأقول كما قال الشاعر
لم يبقى للاخراج فائدة
ولا لمكبرات الصوت فائدة
فان اللحم قد فقد الاثارة

oabuzinap@gmail.com

 

آراء