من ذكريات أكتوبر المجيد : ما بين إقتحام سجن الباستيل وإقتحام سجن كوبر العتيد .. بقلم /عمر الحويج
عمر الحويج
25 October, 2023
25 October, 2023
وعن الباستيل أقول لكم ، كان هو السجن الذي ، إنطلقت منه شرارة الثورة الفرنسية عام 1789م ، وكوبر هو السجن ، الذي تم تشييده من قبل الانجليز ، عام ،1903م لإحكام سيطرتهم على حكم البلاد ، من حديد ، وقد سمي بإسم أول مدير له ، وظل رمزاً للاستبداد ، منذ ذلك الزمان ، يدخله المناضلين ، كما يدخله المجرمين والقتلة ،
وإلى قصتي ، مع إقتحام سجن كوبر .
نقطة ساخنة ثم أعود :
هذه الحادثة ، التي لم تذكر كتوثيق لأحداث ثورة اكتوبر كثيراً ، ربما لم يرى فاعلوها أهمية توثيقها ، لقلة الإهتمام بالتوثيق ذلك الزمان ، وكالعادة يمكن ان تكون متداولة شفاهة ، زمن الشفاهية البيضاء دون تدوين ، أو كتابة ، أو ربما لم يعجب أو يريد الحاكمون لها فيما بعد التوثيق ، لكي لا تتكرر إقتحامات ، السجن العتيق ، من قِبل الثوار فيما أتى من ثورات..!! ، علماً بأن إقتحام الباستيل ، في 14يوليو ، ظل حتى اليوم ، تاريخاً مشهوداً ، تحتفل به فرنسا ، كمعلم من معالم ثورتها الكبرى . ودعكم من تقديرات بلدان الديمقراطيات الراسخة في تمجيد تاريخهم ، وإنجازات شعوبهم ، وما بين ، تقديرات حكام القهر والإستبداد في بلادنا ، هؤلاء الحكام ، الذين إغتالوا حتى الإحتفال بذكري اكتوبر المجيد نفسه ، فكيف نريدهم الإحتفال باقتحام كوبر السجن العتيق.
نقطة ساخنة ثم أعود :
وإليكم الحدث الكبير والمهجورة ذكراه العظيمة . ففي نهار يوم الإثنين 26/أكتوبر 1964م ، خرج موكب من نادي أساتذة جامعة الخرطوم متوجهاً إلى القصر الجمهوري شعاره الخالد والمحفوظ ، كان ( إلى القصر حتى النصر)
نقطة ساخنةثم أعود:
- كتبت قصة قصيرة عنه ، تم نشرها في حينها بالصفحة الثقافية بجريدة الميدان ، وكانت تحت إشراف الصديق البروف/ عبدالله علي ابراهيم - سوف أقوم بنشرها في قادم الأيام الأكتوبرية هذه -
إليكم أعود :
المهم ووجه ذلك الموكب بوابل من الرصاص الحي ، إستشهد من جراء ذلك الضرب المباشر ناحية المتظاهرين، أن سقط ، ما لا يقل عن ثلاثين شهيداً . وما خبأ نهار ذلك اليوم واختفى ، حتى أعلن الرئيس الراحل ابراهيم عبود قبيل منتصف الليل حل المجلس المركزي الحاكم .
وكنا نحن ، وكافة المواطنين أجمعين ، في بيوتهم ، على وشك ، حًضور النوم إلى مآقينا وهم ، حين سمعنا الخبر المفاجئ من راديو أم درمان، حيث أصابتنا هستريا من الفرح المدهش والمذهل في آن ، وقفزنا كل منا ، نحن مجموعة العُزاب ، متزاحمين كل في وجهته ، من يبحث عن حذاء أي حذاء ، ليس شرطاٌ ان يكون خاصته ، إشتراه بحر ماله ، ومن يلهث يبحث ما يردتيه على جسده ، النصف عاري ، سواءاً كان جلباباً على مقاسه أو مقاس شخص آخر ، أو بنطالاً حتي لو كان لمن هو أقصر او أطول منه ، كل ذلك لا يهم ، المهم فقط الخروج إلى الشارع . ولم تمر علينا هذه الهرجلة الهستيريه ، إلا وبعد بضع دقائق منها وبضع مترات ، بمعنى مسافة السكة من الباب ، وحتى السيل المتدفق ، حين وجدنا أو بالأحرى وجدت نفسي غائصاً في عمق ذلك البشر المنهمر ، على إمتداد شارعنا ذاك الرابط بين حديقة القرشي وميدان عبد المنعم الذي منه إنطلقت شرارة أكتوبر .
نقطة ساخنة ثم أعود :
ولأننا مجموعة العُزاب ، الذين لم يروا بعضهم البعض منذ لحظتئذِِ . إلا بعد عودتهم ، ما عداي ، فلم التقي بهم إلا بعد عودتي التي تأخرت أياماً ،حين كان لقائي بهم حاراً وعاطفياً بل حتى برقرقة العيون ودمعها من البعض ، وإن شابته قليل سخرية. لأن أحداً من العُزاب ، حين راني وحالتي : قال لي لاداعي لتعليق جلابيتك ، فقط أتكيها على الجدار ، سوف تقف لوحدها..!!! - نسبة لما عانته من أذى وسؤ كيد ورمل وتراب ، لأن عودتي إليهم جاءت بعد مخاض طويل ظل يؤرقهم إختفائي علي مدى ثلاثة أيام أين أنا .. لا يدرون..؟؟قضوها بحثاً عني ، في أقسام الشرطة والمستشفيات ، فقد كان الموت قريباً من كل الناس تلك الأيام . وهم لايعرفون أنها كانت لي بمثابة ثلاثة دهور قاسيات -
سيأتي ذكرها لاحقاً،وسؤال أين أمضيتها؟؟.
وإليكم أعود :
- ما جرى أننا وجدنا أنفسنا وسط موج هادر من البشر قد آتى في لحظات . من كل فج عميق ، ووادِِ سحيق، من حارات الديوم والصحافات وما جاورها. الأعمى يحمل المكسر، والمكسر يكاد يحمله (المُدَرْوِخ) أو حتى المغمى عليه. وهكذا التحمنا وأنحشرنا داخل هذا السيل العرمرم من البشر ، والكل يهتف ما تجود به قريحته و فرحته من إنتتصار هذا الشعب الأعزل ، على العسكر المدجج بالسلاح والبمبان ، والمٌدعم بالعصي والسيطان .
نقطة ساخنة وأعود :
هؤلاء العسكر الذين أذاقوا البلاد المر ، الذي لم تتذوقه من قبل حتى سنوات الإستعمار ، ويأتي من أتى فيما بعد من المُخْزِّلِين ليقول للناس- ياحليل زمن عبود ، ومن حِكم الزمان الجائر علينا ، أن اليوم ، هناك أيضاً من يأتي ويوحي للناس ، أن تقول: ياحليل زمن المخلوع ، ولكن هيهات ، هذا شعب تعلم ما فيه الكفاية من حكم العسكر . فقد إكتشف شعبنا بعد عبود ، أن جاء بعده من أذاقهم المُر ، وجاء بعده من أذاقهم الأمر منه ، حيث نُكبت بلادنا بدكتاتوريات القمع والإستبداد ، خاصة أخيرتها الإسلاموية الفاشية.
وإليكم أعود :
للسيل العرمر ، فقد كنا نتقدم ولا أحد يدري أين هو ولا في أي مكان من الخريطة يُوجد ، ولم يكن أحد منا يدري ، إن كان يمشي على قدميه ، أم طائراٌ محلقاً في الفضاء ، كما طيور راحلنا العظيم مصطفى سيداحمد (لاتعرف ليها خرطة ولا ليها جواز سفر) وفي هذه اللحظة الطايرة أكتشفت انني أسير حافياً ، لا أدري إن كان فقدت حذائي ، أثناء هذا الطيران ، أم أنني لم الحظ أني خرجت ، لابساً بدون حذإء!! .
نقطة ساخنة ثم أعود:
كثيراً ما كان يلتقي وسط هذه المعمة ، بعض الرفاق وزملائهم ، ويكون الحديث بينهم خاطفاً وسريعاً بل ومختصرأً ، وإن كان سعيداً ، سعادة مضافة ، فتجد النقاش العاجل ، يدور حول صحة تحليل حزبهم في صراعهم مع إنقسام الراحل يوسف عبد المجيد والراحل أحمد الشامي ، قبل شهرين أو ثلاثة فقط ، من تفجر ثورة الجماهير . حيث كان الاولون يرون ، حمل السلاح فقط هو الذي يسقط النظام ، وكان مركز الحزب وعضويته يرون غير ذلك ، وكانت رؤيتهم ، هي العمل وسط الجماهير والتحضير لتنفيذ الإضراب السياسي والعصيان المدني والمظاهرات فقط ، لإسقاط النظام ، وهذا ما بدأ حدوثه ذلك اليوم ، حيث تم بعدها الإضراب السياسي ، والذي أعلنه المحامي الراحل عابدين إسماعيل ، من أمام المحكمة العليا ، الذي ساهم حتى أهل الاذاعة والتلفزيون ، والتي هي البوق الرسمي المملوك للدولة تسخره ، لخدمتها بقوة سلطانها ، ورغم ذلك ومن خلالهما كانت تذاع بعض بيانات الثورة .
وإليكم أعود:
ولا أدري كم من الزمان مشينا على أقدامنا ، أم كنا طيوراً سابحة على أكتاف الآخرين ، ولكنني وجدت نفسي فجاءة داخل مكان ، لم يخطر على بالي ، وأنا معارض نشط للنظام في سنواته الأخيرة ، ولم أدخله . فقد إكتشفت أنني في وسط مبنى سجن كوبر الرهيب المهيب الذي أشرف على بنائه وإدارته مستر كوبر ، وحصنه تماماً من كل معتد أثيم ، من مثل ماتم الإعتداء عليه هذا اليوم ، حين وجدت نفسي متوسطأً لتلك البناية الضخمة مع كامل تلك التظاهرة الهادرة ، متجولاً مع الجموع ، بالقرب من زنازينه حول ما تسمى، الشرقيات والغربيات والسرايا والمديرية حتى زنازين الإعدام . والتي تعرفت على خارطتها هذه ، من الزيارات المتكررة فيما أتت من سنين ، أيام النميري العجفاء ، في زياراتي المتكررة لها ، ليس كما أنا أحكي الآن إقتحاماً ، لا بأوامر قضائية أو أمنية ، وإنما بأوامر ثورة عاتية اوصلتني إلى داخله .
نقطة ساخنة ثم أعود :
ولمقارنة إقتحامنا السلمي هذا كعادة شعبنا في كل ثوراته السلمية ، لنقارنه بما فعلته الثورة المصرية في عنفها الذي قاده الأخوان المسلمين ، حيث تم فيها الإقتحام بالسلاح ، مما أدى إلى هرب الآلاف من السجناء السياسيين والجنائيين ، وقد كان أهمها ، إقتحام سجن النطرون في الطريق بين القاهرة والاسكندرية، والذي اقتحمته الجماعة، وكان من بين الهاربين الرئيس الراحل محمد مرسي ، الذي تحدث فيه ، مع قناة الجزيرة ، فور خروجه ، من ساحة السجن. كما خرج عدد من سجناء حماس ، الذين يقال أنهم وصلوا غزة في ذات يوم الهروب ، كما يقال أن وصولهم تم عبر سودان الإسلامويين . وما أود ذكره لأهميته ، ان سجن كوبر لم يهرب منه ولا سجين جنائي واحد ، وتبدوا سلميتنا بالتزام حتى الجنايين بالقانون،كما عمل السياسيين بهذا الإلتزام ، وهذا ما ساحكيه لاحقاً.
وإليكم أعود :
ويبدو أننا ومجموعة ليست بقليلة العدد ، إنسلخنا من التظاهرة الأم و لم نَضِلُ طريقنا ، بل عمداً ساقتنا إلى هناك أقدامنا أو بفعل فاعل ، من أولئك الذين كانوا من أرباب السوابق السياسيه ، في زياراتهم المتكررة لهذا السجن العتيق ، حيث وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع المعتقلين السياسيين الذين نعرف بعضهم من صورهم في الصحف ، أو المعرفة الشخصية من قبل آخرين ، واختلطت أصوات حناجرنا بأصوات حناجرهم تحية لنجاح الثورة وحَمَلَهم بعضنا على الأكتاف والأعناق ، نريد بهم طريق الخروج ، إلا أنهم أسكتونا ، وأجبرونا لأنزالهم من على الأكتاف ، وتحولوا إلى الخطابة فينا ، تلك التي يجيدونها ، وأقنعونا بأن أوان وقت خروجهم لم يئن بعد ، وسوف تخرجهم الثورة بقراراتها وقانونها ، وأمرونا بالخروج فوراً ، وإلا سنواجه المتاعب ، وقد صدقوا .
وإليكم أعود :
فما أن خرجنا باتجاه البوابة الرئيسة ، التي لحظنا أنها مغلقة ، وإن لم يكن إغلاقاً كاملاً بسبب دفعها من قبل الجموع الهادرة ، ولم يتم تحطيمها ، فصعب إغلاقها بالكامل ، أثناء لحظة الإقتحام ، وقد فوجئنا بأن ساحة السجن قد خلت من المتظاهرين ، ماعدانا نحن زوار المعتقلين السياسين ، حيث وجدنا أنفسنا وقد أغلقت دوننا البوابة الكبيرة ، وفتح لنا من داخلها باباً صغيراً في وسطها ، لا يحتمل غير مرور شخص واحد فقط ، وأذكر وأنا منتظر دوري للخروج إلى فضاء الحرية وتَنسُم فرحة النصرالأكتوبري ، وحال وصولي هذا النفق او الكوة الصغيرة ،
تم الأمر لنا أن يكون خروجنا واحداً واحداً ، قلت في نفسي ، لاضير في ذلك المهم الخروج إلي الحرية ، ولكن وبمجرد، اطللت برأسي ، وجدت من حشرني حشراً في كومر ، وإن كان الحشر رحيماً بل مهذباً ،
نقطة ساخنة ثم أعود :
وهنا وأنا أكتب هذا المقال الذي طال ومعذرة لكم ، طافت بي ذكري ما رأيته من وحشية ممن كانوا مسؤولين عن بيوت الأشباح ، كيف كانوا يمارسون الضرب والاهانات والتعذيب والإغتصاب وحتى القتل ، والإغتيال بالدم البارد ، على من هم أسرى لديهم من المعتقلين السياسيين ، وتسآءلت كما الراحل الطيب صالح من أين آتى هؤلاء الوحوش الأشرار وليس الناس ، أو كما قال .
إليكم أعود :
وهكذا بدون سياط على الظهر ، ملأوا بنا كومرين ، أو ربما ثلاثة ، وتحركت بنا ، ولم نكن ندري الي أين يسوقونا ، وبعد مسيرة ليلية طويلة وإن لم تكن كذلك ، فهواجسنا هي التي أعطتنا الإحساس بطولها ، فقد وجدنا أنفسنا ونحن في سجن أم درمان حين فتحت بوابته العتيقة وأغلقت علينا ، ولم تفتح هذه البوابة إلا بعد ثلاثة أيام . لم يقترب منها أو يدخل عن طريقها بشر بما في ذلك حراس المكان ، وأعني الشرطة . فقد ظللنا خلف بوابتها في حوش طويل وعريض ثلاثة أيام بلياليها دون أكل أو شراب ، غير مياه ماسورة الحنفية التي تحتفظ بحرارتها حتى المساء . كما افترشنا ما علينا من ملابس ، وتزاحمنا علي حمامها الوحيد ، وإن لم نكن في حاجة اليه ، فقط من باب تغيير الأمكنة والترويح عن النفس ، وعن البطون الجوعانة لا غير .!!.
وفي نهار اليوم الثالث فتح باب السجن وخرجنا جماعات خلف جماعات ، دون أن يودعنا أحد ، او يردعنا أحد عن الخروج من مسؤولي هذا السجن العتيق ، فكما دخلنا دون سؤال خرجنا هكذا دون سؤال ، وفور إطلالتنا على الشارع ، حتى فوجئنا بمن يخبرنا ، أن هناك حظر تجول ، وكما قررنا طائعين ان نشارك شعبنا فرحته وتابعنا تظاهراتنا من بيوتنا من شتى الاصقاع بما فيهم أنا من الخرطوم جنوب ، قرب حديقة القرشي مشياً على الأقدام دون حذاء في حالتي ، أو تحليقاً كالطيور ، على أكتاف بعضنا ، حتى سجن كوبر. ، كتب علينا بغير إرادتنا هذه المرة ،أن نعود بذات الأقدام الحافية ، من سجن أم درمان حتى الخرطوم جنوب آيبين ، وحتى فرحين ، ومن حظنا لم نلتقي باي دورية شرطة او جيش ، ويبدوا أن القبضة الأمنية قد خفت ، وعلى أية حال كنا شباباً حين ذاك ، لنقول الآن ، ألا ليت الشباب يعود يوماً لنخبره ونعيشه مجدداً ، بما فعلته بنا وفينا تلك الثوره العظيمة والتي بدأت كالثورة الفرنسية في اقتحامها لباستيلها وانتهت بديسمبرها الأعظم ، وفي تفوقها حتى على الثورة الفرنسية ، بسلميتها وتطوير شعارات الثورة الفرنسة ، إلى حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب وانتصرنا في ثلاثيات ثوراتنا العظمي ، وطردنا عسكرها .. ونحن نتحدى الموت .. نتحدى المحن ، وليعش سوداننا عالياً بين الأمم .. وليعد العسكر إلى الثكنات ، فكفى أهل السودان، عيش العدم ، تحت أبوات العسكر .
نقطة ساخنة ثم اعود :
ياليت الذين كانوا حضوراً تلك الليلة العظيمة حضوراً ، ليدعموا توثيقها بعد توسيعها ، ليعلوا فخرنا بتاريخنا ، كما أعلى الفرنسيون شرارة ثورتهم بإقتحام سجن الباستيل .
وإليكم أعود:
مدنياااااااااو
.
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y
.)
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y)
(يوجد فيديو للسيد مدير سجن كوبر مع عادل سيداحمد في برنامجه نادي الاعترافات يتناول فيه قصة إقتحام سجن كوبر من قبل المتظاهرين)
.
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y
omeralhiwaig441@gmail.com
وإلى قصتي ، مع إقتحام سجن كوبر .
نقطة ساخنة ثم أعود :
هذه الحادثة ، التي لم تذكر كتوثيق لأحداث ثورة اكتوبر كثيراً ، ربما لم يرى فاعلوها أهمية توثيقها ، لقلة الإهتمام بالتوثيق ذلك الزمان ، وكالعادة يمكن ان تكون متداولة شفاهة ، زمن الشفاهية البيضاء دون تدوين ، أو كتابة ، أو ربما لم يعجب أو يريد الحاكمون لها فيما بعد التوثيق ، لكي لا تتكرر إقتحامات ، السجن العتيق ، من قِبل الثوار فيما أتى من ثورات..!! ، علماً بأن إقتحام الباستيل ، في 14يوليو ، ظل حتى اليوم ، تاريخاً مشهوداً ، تحتفل به فرنسا ، كمعلم من معالم ثورتها الكبرى . ودعكم من تقديرات بلدان الديمقراطيات الراسخة في تمجيد تاريخهم ، وإنجازات شعوبهم ، وما بين ، تقديرات حكام القهر والإستبداد في بلادنا ، هؤلاء الحكام ، الذين إغتالوا حتى الإحتفال بذكري اكتوبر المجيد نفسه ، فكيف نريدهم الإحتفال باقتحام كوبر السجن العتيق.
نقطة ساخنة ثم أعود :
وإليكم الحدث الكبير والمهجورة ذكراه العظيمة . ففي نهار يوم الإثنين 26/أكتوبر 1964م ، خرج موكب من نادي أساتذة جامعة الخرطوم متوجهاً إلى القصر الجمهوري شعاره الخالد والمحفوظ ، كان ( إلى القصر حتى النصر)
نقطة ساخنةثم أعود:
- كتبت قصة قصيرة عنه ، تم نشرها في حينها بالصفحة الثقافية بجريدة الميدان ، وكانت تحت إشراف الصديق البروف/ عبدالله علي ابراهيم - سوف أقوم بنشرها في قادم الأيام الأكتوبرية هذه -
إليكم أعود :
المهم ووجه ذلك الموكب بوابل من الرصاص الحي ، إستشهد من جراء ذلك الضرب المباشر ناحية المتظاهرين، أن سقط ، ما لا يقل عن ثلاثين شهيداً . وما خبأ نهار ذلك اليوم واختفى ، حتى أعلن الرئيس الراحل ابراهيم عبود قبيل منتصف الليل حل المجلس المركزي الحاكم .
وكنا نحن ، وكافة المواطنين أجمعين ، في بيوتهم ، على وشك ، حًضور النوم إلى مآقينا وهم ، حين سمعنا الخبر المفاجئ من راديو أم درمان، حيث أصابتنا هستريا من الفرح المدهش والمذهل في آن ، وقفزنا كل منا ، نحن مجموعة العُزاب ، متزاحمين كل في وجهته ، من يبحث عن حذاء أي حذاء ، ليس شرطاٌ ان يكون خاصته ، إشتراه بحر ماله ، ومن يلهث يبحث ما يردتيه على جسده ، النصف عاري ، سواءاً كان جلباباً على مقاسه أو مقاس شخص آخر ، أو بنطالاً حتي لو كان لمن هو أقصر او أطول منه ، كل ذلك لا يهم ، المهم فقط الخروج إلى الشارع . ولم تمر علينا هذه الهرجلة الهستيريه ، إلا وبعد بضع دقائق منها وبضع مترات ، بمعنى مسافة السكة من الباب ، وحتى السيل المتدفق ، حين وجدنا أو بالأحرى وجدت نفسي غائصاً في عمق ذلك البشر المنهمر ، على إمتداد شارعنا ذاك الرابط بين حديقة القرشي وميدان عبد المنعم الذي منه إنطلقت شرارة أكتوبر .
نقطة ساخنة ثم أعود :
ولأننا مجموعة العُزاب ، الذين لم يروا بعضهم البعض منذ لحظتئذِِ . إلا بعد عودتهم ، ما عداي ، فلم التقي بهم إلا بعد عودتي التي تأخرت أياماً ،حين كان لقائي بهم حاراً وعاطفياً بل حتى برقرقة العيون ودمعها من البعض ، وإن شابته قليل سخرية. لأن أحداً من العُزاب ، حين راني وحالتي : قال لي لاداعي لتعليق جلابيتك ، فقط أتكيها على الجدار ، سوف تقف لوحدها..!!! - نسبة لما عانته من أذى وسؤ كيد ورمل وتراب ، لأن عودتي إليهم جاءت بعد مخاض طويل ظل يؤرقهم إختفائي علي مدى ثلاثة أيام أين أنا .. لا يدرون..؟؟قضوها بحثاً عني ، في أقسام الشرطة والمستشفيات ، فقد كان الموت قريباً من كل الناس تلك الأيام . وهم لايعرفون أنها كانت لي بمثابة ثلاثة دهور قاسيات -
سيأتي ذكرها لاحقاً،وسؤال أين أمضيتها؟؟.
وإليكم أعود :
- ما جرى أننا وجدنا أنفسنا وسط موج هادر من البشر قد آتى في لحظات . من كل فج عميق ، ووادِِ سحيق، من حارات الديوم والصحافات وما جاورها. الأعمى يحمل المكسر، والمكسر يكاد يحمله (المُدَرْوِخ) أو حتى المغمى عليه. وهكذا التحمنا وأنحشرنا داخل هذا السيل العرمرم من البشر ، والكل يهتف ما تجود به قريحته و فرحته من إنتتصار هذا الشعب الأعزل ، على العسكر المدجج بالسلاح والبمبان ، والمٌدعم بالعصي والسيطان .
نقطة ساخنة وأعود :
هؤلاء العسكر الذين أذاقوا البلاد المر ، الذي لم تتذوقه من قبل حتى سنوات الإستعمار ، ويأتي من أتى فيما بعد من المُخْزِّلِين ليقول للناس- ياحليل زمن عبود ، ومن حِكم الزمان الجائر علينا ، أن اليوم ، هناك أيضاً من يأتي ويوحي للناس ، أن تقول: ياحليل زمن المخلوع ، ولكن هيهات ، هذا شعب تعلم ما فيه الكفاية من حكم العسكر . فقد إكتشف شعبنا بعد عبود ، أن جاء بعده من أذاقهم المُر ، وجاء بعده من أذاقهم الأمر منه ، حيث نُكبت بلادنا بدكتاتوريات القمع والإستبداد ، خاصة أخيرتها الإسلاموية الفاشية.
وإليكم أعود :
للسيل العرمر ، فقد كنا نتقدم ولا أحد يدري أين هو ولا في أي مكان من الخريطة يُوجد ، ولم يكن أحد منا يدري ، إن كان يمشي على قدميه ، أم طائراٌ محلقاً في الفضاء ، كما طيور راحلنا العظيم مصطفى سيداحمد (لاتعرف ليها خرطة ولا ليها جواز سفر) وفي هذه اللحظة الطايرة أكتشفت انني أسير حافياً ، لا أدري إن كان فقدت حذائي ، أثناء هذا الطيران ، أم أنني لم الحظ أني خرجت ، لابساً بدون حذإء!! .
نقطة ساخنة ثم أعود:
كثيراً ما كان يلتقي وسط هذه المعمة ، بعض الرفاق وزملائهم ، ويكون الحديث بينهم خاطفاً وسريعاً بل ومختصرأً ، وإن كان سعيداً ، سعادة مضافة ، فتجد النقاش العاجل ، يدور حول صحة تحليل حزبهم في صراعهم مع إنقسام الراحل يوسف عبد المجيد والراحل أحمد الشامي ، قبل شهرين أو ثلاثة فقط ، من تفجر ثورة الجماهير . حيث كان الاولون يرون ، حمل السلاح فقط هو الذي يسقط النظام ، وكان مركز الحزب وعضويته يرون غير ذلك ، وكانت رؤيتهم ، هي العمل وسط الجماهير والتحضير لتنفيذ الإضراب السياسي والعصيان المدني والمظاهرات فقط ، لإسقاط النظام ، وهذا ما بدأ حدوثه ذلك اليوم ، حيث تم بعدها الإضراب السياسي ، والذي أعلنه المحامي الراحل عابدين إسماعيل ، من أمام المحكمة العليا ، الذي ساهم حتى أهل الاذاعة والتلفزيون ، والتي هي البوق الرسمي المملوك للدولة تسخره ، لخدمتها بقوة سلطانها ، ورغم ذلك ومن خلالهما كانت تذاع بعض بيانات الثورة .
وإليكم أعود:
ولا أدري كم من الزمان مشينا على أقدامنا ، أم كنا طيوراً سابحة على أكتاف الآخرين ، ولكنني وجدت نفسي فجاءة داخل مكان ، لم يخطر على بالي ، وأنا معارض نشط للنظام في سنواته الأخيرة ، ولم أدخله . فقد إكتشفت أنني في وسط مبنى سجن كوبر الرهيب المهيب الذي أشرف على بنائه وإدارته مستر كوبر ، وحصنه تماماً من كل معتد أثيم ، من مثل ماتم الإعتداء عليه هذا اليوم ، حين وجدت نفسي متوسطأً لتلك البناية الضخمة مع كامل تلك التظاهرة الهادرة ، متجولاً مع الجموع ، بالقرب من زنازينه حول ما تسمى، الشرقيات والغربيات والسرايا والمديرية حتى زنازين الإعدام . والتي تعرفت على خارطتها هذه ، من الزيارات المتكررة فيما أتت من سنين ، أيام النميري العجفاء ، في زياراتي المتكررة لها ، ليس كما أنا أحكي الآن إقتحاماً ، لا بأوامر قضائية أو أمنية ، وإنما بأوامر ثورة عاتية اوصلتني إلى داخله .
نقطة ساخنة ثم أعود :
ولمقارنة إقتحامنا السلمي هذا كعادة شعبنا في كل ثوراته السلمية ، لنقارنه بما فعلته الثورة المصرية في عنفها الذي قاده الأخوان المسلمين ، حيث تم فيها الإقتحام بالسلاح ، مما أدى إلى هرب الآلاف من السجناء السياسيين والجنائيين ، وقد كان أهمها ، إقتحام سجن النطرون في الطريق بين القاهرة والاسكندرية، والذي اقتحمته الجماعة، وكان من بين الهاربين الرئيس الراحل محمد مرسي ، الذي تحدث فيه ، مع قناة الجزيرة ، فور خروجه ، من ساحة السجن. كما خرج عدد من سجناء حماس ، الذين يقال أنهم وصلوا غزة في ذات يوم الهروب ، كما يقال أن وصولهم تم عبر سودان الإسلامويين . وما أود ذكره لأهميته ، ان سجن كوبر لم يهرب منه ولا سجين جنائي واحد ، وتبدوا سلميتنا بالتزام حتى الجنايين بالقانون،كما عمل السياسيين بهذا الإلتزام ، وهذا ما ساحكيه لاحقاً.
وإليكم أعود :
ويبدو أننا ومجموعة ليست بقليلة العدد ، إنسلخنا من التظاهرة الأم و لم نَضِلُ طريقنا ، بل عمداً ساقتنا إلى هناك أقدامنا أو بفعل فاعل ، من أولئك الذين كانوا من أرباب السوابق السياسيه ، في زياراتهم المتكررة لهذا السجن العتيق ، حيث وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع المعتقلين السياسيين الذين نعرف بعضهم من صورهم في الصحف ، أو المعرفة الشخصية من قبل آخرين ، واختلطت أصوات حناجرنا بأصوات حناجرهم تحية لنجاح الثورة وحَمَلَهم بعضنا على الأكتاف والأعناق ، نريد بهم طريق الخروج ، إلا أنهم أسكتونا ، وأجبرونا لأنزالهم من على الأكتاف ، وتحولوا إلى الخطابة فينا ، تلك التي يجيدونها ، وأقنعونا بأن أوان وقت خروجهم لم يئن بعد ، وسوف تخرجهم الثورة بقراراتها وقانونها ، وأمرونا بالخروج فوراً ، وإلا سنواجه المتاعب ، وقد صدقوا .
وإليكم أعود :
فما أن خرجنا باتجاه البوابة الرئيسة ، التي لحظنا أنها مغلقة ، وإن لم يكن إغلاقاً كاملاً بسبب دفعها من قبل الجموع الهادرة ، ولم يتم تحطيمها ، فصعب إغلاقها بالكامل ، أثناء لحظة الإقتحام ، وقد فوجئنا بأن ساحة السجن قد خلت من المتظاهرين ، ماعدانا نحن زوار المعتقلين السياسين ، حيث وجدنا أنفسنا وقد أغلقت دوننا البوابة الكبيرة ، وفتح لنا من داخلها باباً صغيراً في وسطها ، لا يحتمل غير مرور شخص واحد فقط ، وأذكر وأنا منتظر دوري للخروج إلى فضاء الحرية وتَنسُم فرحة النصرالأكتوبري ، وحال وصولي هذا النفق او الكوة الصغيرة ،
تم الأمر لنا أن يكون خروجنا واحداً واحداً ، قلت في نفسي ، لاضير في ذلك المهم الخروج إلي الحرية ، ولكن وبمجرد، اطللت برأسي ، وجدت من حشرني حشراً في كومر ، وإن كان الحشر رحيماً بل مهذباً ،
نقطة ساخنة ثم أعود :
وهنا وأنا أكتب هذا المقال الذي طال ومعذرة لكم ، طافت بي ذكري ما رأيته من وحشية ممن كانوا مسؤولين عن بيوت الأشباح ، كيف كانوا يمارسون الضرب والاهانات والتعذيب والإغتصاب وحتى القتل ، والإغتيال بالدم البارد ، على من هم أسرى لديهم من المعتقلين السياسيين ، وتسآءلت كما الراحل الطيب صالح من أين آتى هؤلاء الوحوش الأشرار وليس الناس ، أو كما قال .
إليكم أعود :
وهكذا بدون سياط على الظهر ، ملأوا بنا كومرين ، أو ربما ثلاثة ، وتحركت بنا ، ولم نكن ندري الي أين يسوقونا ، وبعد مسيرة ليلية طويلة وإن لم تكن كذلك ، فهواجسنا هي التي أعطتنا الإحساس بطولها ، فقد وجدنا أنفسنا ونحن في سجن أم درمان حين فتحت بوابته العتيقة وأغلقت علينا ، ولم تفتح هذه البوابة إلا بعد ثلاثة أيام . لم يقترب منها أو يدخل عن طريقها بشر بما في ذلك حراس المكان ، وأعني الشرطة . فقد ظللنا خلف بوابتها في حوش طويل وعريض ثلاثة أيام بلياليها دون أكل أو شراب ، غير مياه ماسورة الحنفية التي تحتفظ بحرارتها حتى المساء . كما افترشنا ما علينا من ملابس ، وتزاحمنا علي حمامها الوحيد ، وإن لم نكن في حاجة اليه ، فقط من باب تغيير الأمكنة والترويح عن النفس ، وعن البطون الجوعانة لا غير .!!.
وفي نهار اليوم الثالث فتح باب السجن وخرجنا جماعات خلف جماعات ، دون أن يودعنا أحد ، او يردعنا أحد عن الخروج من مسؤولي هذا السجن العتيق ، فكما دخلنا دون سؤال خرجنا هكذا دون سؤال ، وفور إطلالتنا على الشارع ، حتى فوجئنا بمن يخبرنا ، أن هناك حظر تجول ، وكما قررنا طائعين ان نشارك شعبنا فرحته وتابعنا تظاهراتنا من بيوتنا من شتى الاصقاع بما فيهم أنا من الخرطوم جنوب ، قرب حديقة القرشي مشياً على الأقدام دون حذاء في حالتي ، أو تحليقاً كالطيور ، على أكتاف بعضنا ، حتى سجن كوبر. ، كتب علينا بغير إرادتنا هذه المرة ،أن نعود بذات الأقدام الحافية ، من سجن أم درمان حتى الخرطوم جنوب آيبين ، وحتى فرحين ، ومن حظنا لم نلتقي باي دورية شرطة او جيش ، ويبدوا أن القبضة الأمنية قد خفت ، وعلى أية حال كنا شباباً حين ذاك ، لنقول الآن ، ألا ليت الشباب يعود يوماً لنخبره ونعيشه مجدداً ، بما فعلته بنا وفينا تلك الثوره العظيمة والتي بدأت كالثورة الفرنسية في اقتحامها لباستيلها وانتهت بديسمبرها الأعظم ، وفي تفوقها حتى على الثورة الفرنسية ، بسلميتها وتطوير شعارات الثورة الفرنسة ، إلى حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب وانتصرنا في ثلاثيات ثوراتنا العظمي ، وطردنا عسكرها .. ونحن نتحدى الموت .. نتحدى المحن ، وليعش سوداننا عالياً بين الأمم .. وليعد العسكر إلى الثكنات ، فكفى أهل السودان، عيش العدم ، تحت أبوات العسكر .
نقطة ساخنة ثم اعود :
ياليت الذين كانوا حضوراً تلك الليلة العظيمة حضوراً ، ليدعموا توثيقها بعد توسيعها ، ليعلوا فخرنا بتاريخنا ، كما أعلى الفرنسيون شرارة ثورتهم بإقتحام سجن الباستيل .
وإليكم أعود:
مدنياااااااااو
.
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y
.)
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y)
(يوجد فيديو للسيد مدير سجن كوبر مع عادل سيداحمد في برنامجه نادي الاعترافات يتناول فيه قصة إقتحام سجن كوبر من قبل المتظاهرين)
.
https://youtu.be/Pnq1s6VeSfc?si=QuvK893wvGjdpV-Y
omeralhiwaig441@gmail.com