من سحرتني الجزيرة إلى صدمتني الجزيرة -2- … بقلم: د. النور حمد

 


 

 

elnourh@gmail.com

 

            ورد في الشعر العربي القديم: ((وليس يصح في الأذهان شيءٌ، إذا احتاج النهار إلى دليل)). وهكذا لم أحتج إلى دليل أستوثق به من موت المكان في الجزيرة، فقد كان الموات مطبقا عليه، وكان أكثر من بادٍ للعيان. الغيط خالٍ من الناس، ويلف الآفاق صمتٌ عميقٌ، وثمة شيءٌ ثقيلٌ على القلب، يشبه زحف الموت الحثيث على الحياة، وتربصه بها. شيء فادحٌ، مثل خفوت النبض في شرايين أضعفت الشيخوخة انقباضها وانبساطها، وبدا لها أن الخيار المتبقي هو الاستسلام. قبل أربعة عقودٍ، أو خمسة خلت، كان هذا الغيط، جميلاً، مشرقاً، نابضاً بالحياة. كان خُفراء الري فيه واقفين على قناطرهم، يتفقدون كل شيء، من مطلع الفجر، إلى الهزيع الأخير من الليل. كانت روح الأمل ترفرف، على هذه البقاع، رغم القسمة الطيزى التي قام عليها المشروع منذ ابتدائه. كان الناس منتشرين في الغيط يتصايحون. أما الآن فلا يسعف الدواخل سوى صوت عبد الوهاب البياتي، وهو يردد: ((البحر ماتَ! وغيبت أمواجُه السوداءُ قلعَ السندباد/ ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس/ والصدى المبحوحُ عادْ/ والأفقُ كفنَّه الرمادْ/ فلمن تغني الساحرات؟/ والبحرُ ماتْ/ والعشب فوق جبينه يطفو/ وتطفو دنيواتْ/ كانت لنا فيها، إذا غني المغني ذكرياتْ/ غرقت جزيرتنا/ وما عاد الغناءْ، إلا بكاءْ))!!

 

قبل بضعة عقود، كان هذا الغيط طافحا بالحياة. الحمر تنهق، وأسراب الطيور الممراحة تتماوج على خلفية سماءٍ شديدة الزرقة. والخفراء المشمرون، الواقفون على هامات القناطر، يقرأون مناسيب الماء، ثم لا يلبثون يهرولون إلى داخل قطاطيهم مخروطية الشكل، ليبعثوا بالقراءة، للقناطر المجاورة، ولإدارة الري. كانوا يستخدمون تلفونات "الماغنيتو"Magneto  القديمة. وتلفونات الماغنيتو، جيلٌ قديمٌ من التلفونات، يشحنها المتحدث بالتيار الكهربائي، قبل أن يبدأ التحدث بثوانٍ قليلة، وذلك عن طريق إدارة "مَنَفِلةَّ" صغيرة، بحركة سريعة متتالية. وهذه "المَنَفِلَّة" الصغيرة، مركبة على جانب جهاز التلفون. كانت تكنولوجيا بدائية، ولكنها بسيطة، غير معقدة، لا تحتاج كثيرا من الصيانة، وتعمل بكفاءة عالية. كانت بسيطة وذات كفاءة، مثل قاطرات البخار، التي انقرضت قبل الأوان، بسبب العجلة، واللهفة، والوثب، الأخرق نحو التطوير، بلا علم، وبلا حكمة، وبإهمال، وربما لعبت "العمولات" التي تأتي مع استيراد الجديد، دوراً أيضا!

 

تنتظم هذا الغيط البديع قرابة التسعة شهور من السنة، خضرةٌ ريانة، تبدأ في يوليو وتنتهي في مارس. تتغير ألوان الغيط من البني حيث الأرض المحروثة، إلى الأخضر، حين تنشق الأرض عن مختلف الحبوب، ثم إلى الأصفر حين تنضج الذرة، وينضح القمح، ثم إلى البني كرةً أخرى. كان للغيط بهاءٌ، ورونقٌ. وكانت له صنوف من الأريج تعبث بالألباب. قال العارف النابلسي: ((وروى النسيم لنا أحاديث الحمى/ عن عرفجٍ، عن زرنبٍ، عن شيحِ/ حتى أهاج بنا الغرام/ فيا له، في الحب، من خبرٍ، رواه صحيحِ)). للذرة في مرحلتي "الحِمْلة" و"اللَّتيبة"، عَرْفٌ خاص بها، واللوبيا أيضا لها عَرْفٌ آخر مسكر، لا يقل إرواءً للأرواح من نضرة زهرها! أما رائحة الطين المبتل، التي قال عنها، الشاعر، الفنان، هاشم صديق، في رائعته "يا جنى": ((والطين شِرِبْ، رويان صِبِحْ))، فحدث، ولا حرج!!

 

كانت الطرقات التي تفصل الترع من الحواشات، والتي تفصل "النِّمَر" من بعضها بعضا، مستوية ومُعْتَنىً بها، حتى أن سيارات الـ "موريس ماينور" الصغيرة، التي كان يستخدمها المفتشون، ظلت  تسير عليها، فيما يسميه المزارعون بـ "المرور"، من غير أن تواجه أي مشكلة. أما اليوم، فإن الشاحنات الكبيرة، تواجه المشاكل، وهي تتنقل داخل مشروع الجزيرة العاطب. فقد أطبق العجز والإهمال على كل شيء! كان المزارعون يتابعون كل شيءٍ، وبعنايةٍ كبيرة جداً. وكان المفتشون يتابعون، ما يفعله المزارعون. يمر "الصمد"، أولاً، ويعطي ملاحظاته للمزارعين، و"الصمد" هو أحد المزارعين، المعروفين برجاحة الرأي، والكلمة المسموعة وسط رهطه، يتم تعيينه ليصبح مشرفاً على بقية المزارعين. بعده يمر مفتش الغيط، ثم يعقبهما الباشمفتش، وفي أحيان متباعدة، يمر مدير القسم نفسه. فكل مدققٍ يعقبه مدققٌ آخر. كانت تلك بعضاً من التقاليد الإنجليزية العريقة، المعروفة، في المتابعة اللصيقة، والمحاسبية، وفي التأكد من ضبط الجودة. فلكي تبقى الأشياء تعمل على نحو ممتازٍ، ومستمرٍ، ونامٍ، لابد من المراقبة اللصيقة، ولابد من المحاسبة. اضمحل كل ذلك حتى تلاشي، وأصبحت الجزيرة "هَمَلٌ" و"طُلُق". وأظن أنها تركت كذلك في ما لا يخلو من العمد، استعداداً، فيما يبدو، لتقديمها قرباناً على مذبح الشركات عابرة القارات. ذهب الأداء المتكامل المترابط، وارتدت عجلة الحداثة، دوراتٍ ودورات، وسادت اللامهنية، واستشرى الارتجال!

 

كان المزارعون ينتظرون مرور المفتش، وهم على أتم استعداد، فقد كانت هناك غرامات باهظة تنتظر المقصرين. يدفع المزارع غرامةً إن انكسرت المياه من حواشته، وغمرت الطريق المجاور. ويدفع غرامةً، إن لم يكن الطريق حول مزرعته مُسَوَّىً. كما أنه يصبح عرضةً لما يُسمى بـ "الطُلْبة"، إن هو تأخر عن عزق الحشائش في حواشته، وأن أمر حواشته يوشك أن يخرج من يده. و"الطُلْبَة" هي أن يجيء الصمد، أو المفتش بعمال بأي سعر يجدونه، ويدخلونهم في حوَّاشة ذلك المزارع، ويدفع ذلك المزارع الحساب من جيبه، مهما كان مقداره! كانت "الطلبة" هي كابوس المزارع الذي لا يريد أن يراه قط. هكذا كانت الجزيرة تعمل مثل ساعة سويسرية. وما من شك أن ما كان يقوم به مفتشو الغيط البريطانيون، من تشدد مع المزارعين، قد شابه الكثير من الغلو والاستبداد. غير أننا حين أزلنا الاستبداد، أزلنا معه النظام، والتقاليد الإدارية الضابطة، جملةً واحدة. ((وكلُّو عند العرب صابون))! فمشروع الدولة الحديثة، وتقاليد الحياة الحديثة، وأخلاقيات العمل المرتبطة بالحياة الحديثة، وكلها أمور أسس لها المستعمر، خير تأسيس، تراجعت، حتى لم يعد المرء يميز شيئاً يذكر، من بقايا سمات الحداثة المنضبطة، الخاضعة للوائح، وللقوانين. لا يرى المرء الآن سوى جيوب من صور الفوضى المتناثرة، التي تنتشر في هذا الفضاء الجغرافي، المترامي الأطراف، المسمى السودان. لم يعد هناك وجودٌ لدولة تستحق اسمها. الدولة موجودةٌ فقط في أكاذيب الإعلام، وفي أوهام السياسيين، ذوي العقول والقلوب المتخثرة!

 

كانت الجزيرة كُلا متكاملاً، متناغماً، وكان إيقاعها الذي تركها عليه الإنجليز قادراً على بث روح الأمل في الناس. لم تكن الجزيرة هي المشروع الزراعي، وإدارة الغيط، وحسب! وإنما كانت، هي الري، وهي الحكم المحلي، وهي السكة حديد، وهي التعليم، وهي المستشفيات، والشفخانات، ونقاط الغيار، وهي البوسته، والتلغراف، وهي سائر المرافق في تلك المنظومة المتكاملة التي تحكي الحالة الحداثوية. ولقد انهارت كل تلك المنظومة جملة واحدة. وللحق، فإن انهيار الجزيرة لم يبدأ في عهد الإنقاذ الحالي، وإنما تحللت الجزيرة تدريجياً، كجزءٍ من تحلل الدولة السودانية الوليدة، التي أضحت بعد بضع عقودٍ من من معبر الاستقلال، جيوباً، وجزراً، متقطعة من الفوضى، ومن الارتجال الذي يُفضي إلى ارتجالٍ أكبر منه.

 

توجهت في أصيل نفس اليوم الذي وصلت فيه إلى القرية، إلى مزرعة والدي، في ترعة "أم قرينات"، بالقرب من محطة السكة حديد المسماة "ود الترابي". كان بي شوقٌ موجعٌ لرؤية ذلك المكان. لم يكن من الممكن أن نصل إلى هناك بالسيارة، نسبة لسوء الطريق، ولذلك فقد ارتدفني أخي الأصغر على موتره. نسير أحيانا بجانب الترعة، ونصعد أحيانا، على جسر الترعة، حتى وصلنا. نزلت، ووقفت على حواشات والدي، عليه رحمة الله، وحين وقفت عليها، لم أملك سوى أن أردد مع أبي الطيب: ((بليت بِلَى الأطلالِ إن لم أقف بها؟ وقوفَ شحيحٍ ضاع في التُّرْبِ خاتمه)). لكم كان هذا المكان عامراً في الماضي، ولكم كان مونقاً، ومؤنساً، وهاهو قد أضحى اليوم مرتعاً خصباً لعناكب الوحشة، ولهوام الخراب! قبل خمس عقودٍ، وأنا بعد طفل، كنت أجيء مع أبي إلى هنا، وكان كل شيء نابضاً بالأمل، وممتلئاً حيوية. يمر خط السكة الحديد قريبا حواشتنا. كانت حركة القطارات على هذا الخط، لا تهدأ أبداً. نرى في النهار الواحد عددا من القاطرات، الغادية، الرائحة، بعضها للركاب، وبعضها للبضاعة، وبعضها للحيوانات. حين نرى القطار الصباحي المسمى "الكليتون"، خارجاً من محطة ود الترابي، نكون موقنين أن الساعة هي الثامنة والربع صباحاً! فقد كانت القطارات لا تتقدم، ولا تتأخر عن مواعيدها! أما اليوم، فلا قطارات أصلاً، منضبطة كانت، أم غير منضبطة!! سألت أخي عن حركة القطارات الآن، فقال لي: لقد أصبحت شبه منعدمة، وأضحى من النادر جداً، أن يرى المرءُ قطاراً ماراً على هذا الخط! سيارات الري، التي كانت لا تنفك تتجول في طرقات المشروع، لم تعد تُرى اليوم. عمال الدريسة الذي يذرعون الخط الحديدي جيئة وذهابا، بعربتهم اليدوية، ومعاولهم، ومجاريفهم، سلالهم، لم يعودوا يُرون ضمن هذا المشهد. عمال الري الذين كانوا يمضون سحابة نهارهم يطهرون الترع من الأعشاب المائية، التي لا تنفك تغلق المجاري، لم يعد لهم وجود. مكتب بوستة ود الترابي، وساعيه الذي يوصل الخطابات إلى القرى المجاورة، لم يعد لهما ذكر على ألسنة الناس. انهار النظام البريدي، كما انهارت السكك الحديدية، كما انهارت الحكومات المحلية، كما انهارت الخدمات الطبية، كما انهار التعليم، كما انهار إيقاع الحياة في الجزيرة كلها. وأفدح ما في ذلك كله، انهيار روح الإنسان نفسه.

 

مجلس ريفي المعيلق بمبناه الجميل، وحدائقه الغناء المزهرة، وميادينه الخضراء، ومنازل موظفيه التي تحيط بها أسوار من شجر التمر هندي، المقصوصة بعناية، حتى غدت شبيهة بحائط من الخضرة، غدا مجرد خلاء وخرائب. التحديث والتمدن النسبي الذي أحرزته الجزيرة غدا أشبه ما يكون بحلم هنيء عبر مخيلة النائم في سويعات الفجر الأخيرة، وما لبث أن أصبح أثراً بعد عين. قادني أخي إلى القنطرة القائمة على الترعة الرئيسية، على بعد كيلو متر واحد جنوبي محطة حديد "ود الترابي"، وتسمى "قنطرة كاب الجداد"، لقنطرة تتفرع ترعة كاب الجداد. وهالني ما رأيت! أصبحت القنطرة قفراً. أشجار الصفاف، والجميز، التي كانت مصطفة على جسر الترعة، شاخت، ونفقت، وربما تم اجتثاثها. خلف هذه القنطرة يقع ما كان يسمى بـ "ري الترابي"، ويحوي ري الترابي إدارة الري لكل منطقة شمال الجزيرة. هذا الري، كان روضاً، أغنَّاً، مزهراً، ببيوت إنجليزية الطراز، ذات سقوف من القرميد الأحمر.، أصبح كلها خراباً، ومرتعاً، للسوائم مطلقة السراح.

 

وقفت مشدوها هناك، وقدمت التعازي لنفسي، لفقدي ملاعب طفولتي، وصباي الباكر. وصليت مبتهلا سائلا الله أن ينفلت هذا المكان العزيز من قبضة الموات الممسكة برقبته. اتجهنا من هناك إلى مكتب غيط ود الترابي، وكان حاله أسوأ من سابقه! الأعشاب الطفيلية الجافة تطغى على المشهد. الأبنية تتصدع، ولا أحد هناك. مكتب الغيط الذي كان قبل أربعة عقود قطعة من الريف الإنجليزي، خضرةً وتنسيقاً، وجمالاً، تحول إلى مكان مهجور طاله الزحف العشوائي للعمال الزراعيين!

 

هكذا نالت الجزيرة، التي حملت القطر كله على أكتافها، ردحاً من الزمان، جزاء سينمار! من قطنها عاش الأفندية في بحبوحة من العيش. وتم فتح الداخليات، والمستشفيات، في طول البلاد وعرضها. وسافر المسافرون من الأفندية، والطلاب، بتصاريح السفر المجانية، وشبه المجانية؛ البرية منها، والجوية، والنهرية. وهاهم اليوم، الذين تعلموا، وعلوا شأنا، ممن أخرجتهم الجزيرة من العوز والفاقة، وانسداد الأفق، بأياديها البيضاء، يقفون على لها على أهبة الاستعداد، ممسكين بسكاكينهم، وشفاههم تتلمظ لهفةً، لتقطيع أوصالها، واقتسام عائد عملية القتل مع قوى الرأسمال. ولا فرق، إن كان الرأسمال هو رأسمال الدولة، أو القطاع الخاص المحلي، أو شراكةَ واحدٍ من هؤلاء، أو كليهما، مع الرأسمال الوافد. فقد أصبحت الأشياء لا تُرى لدى مسؤولينا إلا من خلال منظور اهتبال فرص جني الأرباح الوفيرة للأفراد، وللأسر.

 

تم تحويل نظام تسليف المزارعين، لتمويل العمليات الزراعية، من إدارة المشروع، التي تم حلها، إلى البنوك التجارية، التي تُقْرِضُ، وعينها على الضمانات المتمثلة في الأصل الثابت collateral. ومع نسب الفوائد العالية، وضعف بنية المشروع، وتدهور الجوانب البحثية، والفنية، والإدارية، والضعف العام في تسويق المنتجات الزراعية السودانية، والإخفاقات التي تصاحب التجارب الجديدة عادةً،  إضافة إلى حدوث الأمر كله في ظل قوانين تركز، أكثر ما تركز، على حماية المُقرِض، ولا تهتم كثيرا بمصير الُمقتَرِض، سيُعسر المزارعون لا محالة! وسيتم نزع الأصول منهم، و((بالقانون))!! وهكذا سوف تتداعى على أرض الواقع فصول ما يُسمى بالنبوءة التي تتحقق ذاتياً، self-fulfilled prophecy. وفحوى هذه النبوءة أن الخصخصة التي تسلب الناس حتى الأسمال البالية التي يرتدونها، وتتركهم عراةً في الصقيع والزمهرير، لهي الحل الأنجع لمعالجة هذا النوع من الانهيار المريع!!

 

هل لم يكن في الإمكان النهوض بهذا المشروع، وهو بحاجة فعلية إلى النهوض، وإعادة التأهيل، إلا وفق هذه المعادلة التي لا ترى سوى الجانب المالي من المسألة، والتي سوف تقضي على الأخضر واليابس؟ إن العناية بالجزيرة وباستقرارها، وبعدم تعريضها للهزات، هو أوجب واجبات أي حكومة ترى أبعد من أنفها. فالجزيرة هي المكان الذي خفت فيه صوت القبيلة، حتى أوشك أن يذهب إلى الأبد. وهي المكان الذي تعايشت فيه الأعراق المختلفة، وبدأت تتشكل فيه القومية السودانية. وهي المكان الذي ساده سلامٌ اجتماعي منقطع النظير. لهذا، فإن أي تغييرات تستهدفها، لابد أن تتم على قاعدة صلبة من دراسات معمقة متشعبة، تأخذ في الاعتبار جميع العناصر، وجميع المكونات. إن النجاح الاجتماعي في الجزيرة، أهم وبما لا يقاس من النجاح المالي فيها!! وما يُراد بالجزيرة اليوم ينذر بخراب اجتماعي كبير.

 

لا شيء البتة، يجعلنا نميل إلى تحسين الظن بقادة الإنقاذ، حتى نحمل تحركهم الأخير صوب الجزيرة على محمل النوايا الحسنة. كما أن النوايا الحسنة، التي لا يرفدها علمٌ عريضٌ عميق بمعانى النمو، ليست بنوايا حسنة. لم يبد لنا، حتى هذا اللحظة، أن أهل الإنقاذ يهتمون بأمر الناس، وبنمو أحوالهم. أكثر من ذلك! هم لم يسبق لهم أن لمسوا شيئاً، تحت دعاوى النهضة، ثم كان العائد في مصلحة من لمسهم التغيير. إن الإنقاذيين رأسماليون، جشعون، حتى مشاش العظم! وهم في رأسماليتهم ليسوا منضبطين، بما تضبط به الرأسمالية العالمة نفسها. إنهم رأسماليون "خام"، عمون عن رؤية الصورة الكلية في تشابكاتها، ولذلك فهم لا يقدمون حتى القليل الذي تحرص الرأسمالية "العالمة" على أن يصيب الناس بعض الفتات الذي يسكتهم هونا ما، حتى أجلٍ ما! فلقد كان نصيب السواد الأعظم من السودانيين، من اجتراحات الإنقاذ، حتى هذه اللحظة، حشفاً، وسوءَ كيلة! ولسوف نظل نرى ما تقوم به الإنقاذ، على هذا النحو، حتى يظهر لنا منها ما يدحض ظننا بها، أو يقضي الله أمراً كان مفعولا. قيل أن شركة سكر كنانة سوف تدير الجزيرة، ونقول أن نموذج التنمية "الكناني" ذاك، لا يصلح للجزيرة! الجزيرة مشروع اجتماعي كبير، وليست شركة تجارية. هنا توجد أعلى درجات الكثافة السكانية، وترقد تحت هذا الخراب، صورة القطر المستقبلية. هنا يرقد كنز التعايش، والتجانس. القضية هنا أكبر بكثير من مجرد أرقام في حسابات المال والأعمال، ومعدلات النمو! هذا ما سوف أناقشه في الحلقة الأخيرة القادمة، مرسلا معه، ما استطاعت حنجرتي، صيحة إيقاظ لإنسان الجزيرة الذي طالت غفوته!!. (يتواصل)

 

آراء