من كوالالمبور الى جزيرة لنكاوي دعوة لتعميق ثقافة “التعايش” و”اللون الأخضر”
26 June, 2009
محمد المكي أحمد
في كوالالمبور العاصمة الماليزية تتعدد المشاهد اللافتة والمثيرة للـتأمل في المجتمع الماليزي، فاللون الأخضر الذي يبدو في كثافة الأشجار والبساط الأخضر على جانبي الشوارع وقمم وسفوح الجبال يشكل المظهر الأبرز و الأجمل الذي تكتحل به عيون زوار المدينة فور خروج القادمين من مطار كوالالمبور.
المناخ الاستوائي في ماليزيا يمكن أن يمطر في أية لحظة، وقد أضفى ذلك على البلد سمات حيوية متعددة الجوانب، وهي بدورها تستقطب زوارا من دول عدة في مثل هذه الأيام من كل عام، وخاصة من دول خليجية وآسيوية واوروبية.
السودانيون انتشروا في كثير من دول العالم، ويشمل ذلك ماليزيا، وهم يشكلون حضورا في مواقع عدة، ويتصدرهم الطلاب (نحو 3 آلاف طالب)، ويوجد اساتذة في الجامعات ورجال أعمال، كما يزور ماليزيا سياح سودانيون ممن أنعم الله عليهم بالقدرة على السفر في بلاد الله الواسعة.
من المشاهد المألوفة ان تلتقي سودانيين في العاصمة الماليزية، أو في مدن أخرى، أو على شواطيء جزر ساحرة، وبين هؤلاء قادمون من السودان والخليج ودول أخرى، وبشكل عام فان السفر بالنسبة لشعوب عدة لم يعد ترفا، بل هو انعكاس لمستوى حياة اقتصادية طبيعية ومستقرة، وهذا يعد من حقوق الانسان الأساسية في حياة حرة كريمة .
لكن السفر حتى داخل السودان يشكل مشقة شديدة لعدد من المواطنين وهدفا بعيد المنال بسبب ضيق ذات اليد مثلا، ورغم ذلك يتواصل السودانيون في الأفراح والأتراح ولو عن طريق الجمال والحمير في بعض المناطق ، كما يتكبد آخرون متاعب السفر بالحافلات لساعات عدة أو "باللواري" مثلا الى كردفان أو دافور وغيرهما من المناطق البعيدة "المهمشة".
المهم في هذا السياق أن ماليزيا تشهد حضورا سودانيا لافتا، والأهم أيضا أن العلاقة السودانية الماليزية تشهد منذ سنوات عدة تطورات ايجابية مهمة ، خاصة في مجال التعاون في مجال النفط وغيره ،وأعتقد أن أمام السودانيين والماليزيين المزيد من الفرص لتعميق التعاون في مجالات عدة من أجل تحقيق مصالح مشتركة للشعبين والبلدين.
سعدت في ماليزيا بمقابلة السفير السوداني الأخ الأستاذ نادر يوسف الطيب، وكنت التقيته للمرة الأولى في قطر حيث كان يعمل دبلوماسيا هناك قبل سنوات، وهو شخصية تتمتع وفقا لتجربتي معه وتجارب آخرين بنبض تواصل حميم مع الآخرين مهما اختلفت دروب التفكير.
نادر غادر الدوحة الى السودان ومنها الى مواقع اخرىوهو الآن في ماليزيا، لكنه ترك ذكرى عطرة في قطرن هي مثل روحه الطيبة وطبعه الهاديء، وهو يرى ان العلاقات السودانية الماليزية استتراتيجية، مشيرا الى التعاون النفطي بين البلدين ، وقال إن مكتب شركة "بتروناس" في السودان هو أكبر مكتب لها في افريقيا.
لفت أيضا الى ان ماليزيا مهتمة بالشان السوداني وتتخذ مواقف داعمة للسودان، كما أشار الى تعيين مبعوث ماليزي معني بملف دارفور، وقال ان ماليزيا تقدم مساعدات اغاثة ودعم لأهل دارفور.
سالته عن أولويات عمله فقال " إننا نسعى لافتتاح مركز اقتصادي داخل السفارة السودانية لتوضيح فرص لاستثمار وجذب المستثمرين الماليزيين للسودان"، وأوضح أن المستشار الاقتصادي والمسؤول عن ملف العلاقات الاقتصادية في السفارة الاستاذ كمال جبارة سيدير هذا المركز الاقتصادي. هذه فكرة ايجابية، واعتقد ان ماليزيا دولة مهمة للسودان، وأن فتح آفاق العلاقة السودانية الماليزية منذ سنوات عدة شكل قرارا ايجابيا ومهماز
لكنني أعتقد أن على الحكومة السودانية أن تسعى لوضع حد للاجراءات البروقراطية التي ُتثبط همم الراغبين في الاستثمار في السودان ومنهم ماليزيون وخليجيون، وهناك قصصا غريبة سمعتها من عدد من المستثمرين في دول عدة، وآن الأوان لاضفاء الشفافية على العمل الاستثماري في السودان كله.
في هذا السياق شكلت زيارة الأستاذ عبد الوهاب حمزة رئيس جمعية الصداقة السودانية الماليزية للعاصمة الماليزية لحضور مؤتمر شركة "كويست نت" للتسويق الالكتروني فرصة للاجتماع مع القيادي الماليزي التاريخي البارز السيد مهاتير محمد للبحث في دعم العلاقات بين رجال الأعمال في البلدين، وعلمت أن عبد الوهاب حمزة وزير الدولة المالية السابق يسعى لتشكيل رابطة لرجال الأعمال السودانين والماليزيين، لتعزيز العلاقات الاستثمارية، خاصة ان وفدا من رجال الأعمال الماليزيين سيزور الخرطوم في يوليو المقبل حسب المصادر.التجربة الماليزية في بناء الدولة وتحقيق النهضة والرقي تمثل نموذجا ومثالا يمكن للسودان أن يستفيد من دلالاتها، و تشدني في هذا السياق مشاهد وحقائق التعايش في المجتمع الماليزي الذي يتكون مواطنوه من "ماليه وهنود وصينين" ويضم جنسيات عدة ويستقبل أناسا من كل لون وجنس ودين.
يبدو واضحا أن ماليزيا نجحت في تعميق قيم التعايش بين مكونات المجتمع، وأنها تعيش تعددية ثقافية دينية تتجلى في وجود أناس من جنسيات عدة يتفاعلون في المجتمع الماليزي وفقا لقيم المواطنة وحقوق الانسان. نحن في السودان محتاجون الى تعميق قيم المواطنة، وهذه تحتاج الى اشاعة أجواء الحرية والتعددية والعدل والمساواة، ولعل الزائر لماليزيا سيلاحظ كيف يسير ايقاع الحياة في المجتمع الماليزي بشكل طبيعي، وهذا لا يعني عدم وجود مشكلات أو خلافات في المجتمع أو رؤى متنباينة ، فهذه اشياء لا يخلو منها اي مجتمع. لكن الزائر للمجتمع الماليزي يلحظ أن الحياة تسير بشكل طبيعي ، وهذا يغرس الطمأنينة وقيم المواطنة في أعماق المواطنيين كما يحس الزوار بالطمأنينة ايضا ، استنادا الى معادلة الاحترام للحقوق والواجبات. تجربة التعايش بين مكونات المجتمع الماليزي شدتني الى تأمل حياة الناس هناك، كما أن المشاهدات أثناء سفرى الى دول عدة بسبب ظروف العمل الصحافي أو للسياحة تضعني دوما أمام مقارنات بين واقع حياتنا في السودان وحياة الآخرين، ويكفي مثلا تأمل حال شوارعنا وحال شوارع الآخرين. في شوارعنا بل في قلب العاصمة الخرطوم يتسيد الغبار والطين والتراب واقع الحال، ودائما أقول لبعض الأصدقاء أن مقاييسي للتطور في السودان بسيطة للغاية ، ومثلا يكمن بعضها في ضرورة اختفاء التراب والطين من شوارعنا ليحل محل ذلك رصيف أنيق نظيف تظلله أشجار خضراء وود من كل لون. من أحلامي ايضا - كما هو الحال في ماليزيا- وفي دول عدة ومنها دول عربية أن تنساب المياه الى مجار لتصريف مياه الأمطار فور هطولها، حتى لا تتحول شوارع الخرطوم والأبيض وعواصم ولايات ومدن أخرى الى ساحات للتلوث. أي اننا محتاجون لبيئة نظيفة، لأنها تساعد انساننا على أن يعيش بعيدا عن مظاهر القبح ليدخل في عوالم خضراء نظيفة كما هي في ماليزيا، ولدينا في السودان مقومات لتحقيق الأحلام الجميلة، لكن يوجد إهمال محسوس لصحة البيئة في السودان كله، ولماذا يكون هناك إهمال في ظل وجود استخفاف بحقوق الانسان الصحية والتعليمية والبيئية وغيرها. قناعتي دوما ، وهي قناعة كثيرينأن البيئة الخضراء الجميلة تغرس في نفوس المواطنين في اي بلد روحا جميلة وحيوية ونبضا أخضرا ينعكس في هدوء الطبع، ويُطل في ابتسامة تلقائية مشرقة ، بعيدا عن العصبية وحدة الطبع والمزاج الحاد. لا أحد يتوقع من اي سوداني أن يكون مزاجه "رايق" كما نقول اذا كان الغبار والطين والبعوض، والمشاهد الصحراوية تحاصره من كل اتجاه حتى في مناطق أنعم الله عليها بالنيل أو مصادر أخرى للمياه. فالانسان ابن البيئة، والسوداني الكريم الشهم الودود سيكون من أروع خلق الله مزاجا وطبعا اذا انتشرت الحدائق الخضراء والبساط الأخضر والشواطيء النظيفة في ربوعه المائية. اذا تحقق ذلك ستختفي حتما مشاهد الشد والجذب و"التكشيرة" التي لا تعني الجدية كما يظن البعض، وهي "تكشيرة وصرة وجه" موجودة في معظم وجوهننا ، بل رسمت خطوطا دائمة في جباه بعضنا ووسط "حاجبين" مضغوطين بشدة و"مصرورين" بطريقة تزعج صاحبها قبل ان تثيرازعاجا أو توترا لدى آخرين . دارت تلك الصور و المقارنات في ذهني أثناء سفري من العاصمة الماليزية الى جزيرة "لنكاوي" الرائعة والساحرة، وهي جزيرة ماليزية في بلد يقع على المحيط الهندي و تصل اليها الطائرة بعد نحو ساعة من كوالالمبور الى جزيرة لنكاوي التي تحيط بها وتعانقها 99 جزيرة أخرى. في "لنكاوي" تتجلى أيضا قدرة الماليزيين على الاستفدة مما أنعم به الخالق عز وجل عليهم من طبيعة جميلة في اثراء العمل السياحي والترويج لبلادهم في هذا المجال الذي يستقطب ملايين السياح ويدر عائدات مليارية. في الطريق الى خليج "لنكاوي" يشاهد الزائر مزارع للأرز واشجار جوز الهند ، وفي رحلة بحرية مثيرة يشاهد الزائر على جانبي البحر قرودا، وفي قلب الجزيرة حديقة لتربية الاسماك وموقعا لتغذية الصقور، واللافت أن قائد "القارب" يعرف مواقع الثعابين على اشجار كثيفة حول الجزيرة وكذلك اين تكثر التماسيح. في لنكاوي هناك حديقة للطيور والحيوانات وهي زاخرة مثلا بنعامها وقرودها ومختلف أنواع والوان الطيور ومنها الببغاء، أما الشواطيء فهي نظيفة . لا اعرف متى تهتم الحكومة السودانية بشواطئنا وطيورنا وحيواناتنا، وأتساءل هل يمكن الاهتمام بالطيور والحيوانات السودانية قبل الاهتمام بحقوق الانسان السوداني في التعليم والسكن والصحة مثلا، وبحقوق الانسان السوداني في الريف ومعسكرات النازحين في دارفور. في اطار تأملات المشهد الماليزي أخلص الى القول إن من مسؤوليات الحكومة السودانية أن تسعى سعيا جادا ومستمرا، لتعميق قيم التعايش في المجتمع السوداني، كما يحدث في دول عدة ومنها ماليزيا التي تتعد فيها اديان الناس ومشاربهم الثقافية وأصولهم العرقية. حكومتنا الموقرة مدعووة لوضع خطة لنشر اللون الاخضر في كل مكان في السودان، ومدعووة لافتتاح حدائق وسط الأحياء السكنية في العاصمة والولايات، مع ضرورة وقف عمليات بيع بعض المواقع في العاصمة والعواصم الولائية ومدن وقرى السودان المدن حتى لا يكون البيع على حساب خارطة الحدائق وأماكن الترفيه والتنزه والتنفس الطبيعي للنسيم العليل بدلا من الغبار الكثيف. صدقوني من يزور oriental village في جزيرة "لنكاوي" ويركب "التلفريك" ويسمونه هناك cable car ويقف على مشاهد الخضرة والنضار على ار تفاع 700 متر فوق سطح الارض سيعرف الى أي درجة يعاني السودانيون من انتهاك صارخ لحقوقهم في التمتع باللون الاخضر. برقية: التنفس الطبيعي واستنشاق النسيم العليل وتأمل النهر والبحر والاطلالة على اللون الأخضر في حدائق الهواء الطلق من العوامل التي تريح النفوس المرهقة باعباء الحياة، والصراع والاقتتال،و كما تثير الشجرة الخضراء أجواء الابداع تولد الوردة الطبع الهاديء الجميل. عن صحيفة (الأحداث) 26-6-2009