من هو شعب البَلو (البلويت) (7): البليميون (البلهاو) ورثة مملكة كوش

 


 

 



ahmed.elyas@gmail.com  
متى سقطت مملكة البليميين؟
وننتقل الآن إلى السؤال المهم: متى سقطت مملكة البليميين؟ الرأي السائد هو أن مملكة البليميين أسقطتها مملكة النوباديين التي تأسست عام 530 م. وقد اعتنق الالموباديون المسيحية عام 543 م وتصدوا للبليميين الذين لم يعتنقوا المسيحية بعد، والذين ثاروا على البيزنطيين بعد اغلاق معبد فيلة الوثني.
ودارت الحرب بين النوباديين وبين البليميين حيث كان الجيش البيزنطي كما ذكر بوري (History of the Late Roman Empire.  vol. 2 p 330) مستعدا على الحدود للتدخل إذا اقتضى الأمر، وانتصر النوباديون بقيادة ملكهم سلكو على البليميين وغيرهم من منافسيهم على الزعامة كما اتضح من نقشه الذي دون فيه تلك الانتصارات باللغة اليونانية علي جدران معبد كلابشة.
وقد أورد مصطفى مسعد ترجمة عربية لذلك النقش في الملحق رقم (1) في كتابه الاسلام والنوبة في العصورالوسطى نقلاً عن بدج بعد مقارنته مع كيروان. كما أورد محمد ابراهيم بكر أيضا ترجمة له لم يذكر مصدرها ولا تختلف في محتواها عما جاء عند مسعد، جاء فيه: "أنا سلكو ملك النوباديين وكل الاثيوبيين، ذهبت إلى تالمس (كلابشة) وتافة، وحاربت البليميين مرتين، وأعطاني الإله النصر، وبعد الثلاث مرات انتصرت مرة أخرى عليهم واحتللت مدنهم..." النص بكامله في كتاب السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية الجزء الأول.
ماذا حدث  للبليميين ولمملكتهم بعد هزيمة سلكو؟ يرى بعض المؤرخين مثل آركل (Arkell, History of the Sudan p 184.) ومسعد (ص 18 و 132) الذي نقل عن كيروان و دي فلارد أن تلك الهزيمة أدت إلى نتيجتين: الأولى نهاية مملكة البليميين والثانية طردهم نهائياً من على النيل.
ويبدو واضحاً أنه لم يرد في نص نقش سلكو أنه طردهم من على النيل. فالنص يشير إلى أن سلكو هزمهم أكثر من مرة واحتل مدنهم وعقد معهم "سلاما"، وفي ترجمة مسعد عقد معهم "صلحاً ووثقت من إيمانهم هذه لأنهم رجال شرفاء." وقد علق مسعد في الحاشية على أن ما ورد في النقش "لا يشير صراحةً إلى طردهم من المنطقة." وقد علق بوري Bury  على هزيمة البليميين قائلاً "إن تنصير النوباديين ساعد الامبراطور جستنيان على إنهاء كل مظاهر الوثنية." ولم يقل إنه طرد البليميين. 
غير أن أخبار البليميين انقطعت من المصادر حتى دخول المسلمين مصر حيث بدأت تظهر بعض أخبارهم في المؤلفات العربية. ، ويعني هذا أنهم كانوا لا يزالون ملوكاً بعد هزيمتهم على يد سلكو في منتصف القرن السادس الميلادي. وهذا الأفتراض يقود إلى كثير من الأسئلة مثل أين كان مركز حكمهم؟ وما هي المناطق التي كانوا يسيطرون عليها؟ وكيف كانت علاقتهم بالممالك الأخرى في المنطقة وبالبزنطيين ؟ وهل كانت مملكة البليميين لا تزال موجودة عند دخول المسلمين مصر أي بعد نحو سبعة عقود من حروب سلكو؟
وفي الواقع فإن افتراض بقاء مملكة البليميين بعد منصف القرن السادس يبدو مقبولاً، وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل مصطفى (الاسلام والنوبة في العصور الوسطى ص 53) مسعد يبحث عن تبرير لوجود حكم بليمي على أرض مصرية تحت الحكم البيزنطي. فذكر أنه "من الوسائل التي لجأ إليها البيزنطيون لترغيب البليميين في المسيحية، أنهم أقطعوهم اقطاعاً بمنطقة طيبة" وأضاف بأن هذا العمل "كان جزءاً من سياسة البيزنطيين في البحر الأحمر للقضاء على نفوذ الحميريين التجاري في هذا البحر بالتعاون مع دولة اكسوم المسيحية، فضلاً عن إغراء البليميين بالدخول في المسيحية والسيطرة علي أوطانهم الممتدة جنوب شرقي مصر إلى حدود اكسوم."
ويبدو منطقيا أن يسعى البيزنطيون لكسب ولاء البليميين لإنهاء هجومهم المتكرر على صعيد مصر وفي البحر الأحمر، وربما كَسْب مساندتهم في البحر الأحمر ضد الحميريين. ولكن لا أعتقد أن ذلك يعني اعطاءهم بعض المناطق على نهر النيل خاصة وأن مناطق طيبة كانت تتحكم في طرق تجارة النيل الوافدة من الجنوب كما تتحكم في الطريق التجاري الذي يربط البحر الأحمر بالنيل وكذلك طرق تجارة الصحراء الغربية.
لهذا لا أرى أن البيزنطيين يمكن أن يفرطوا في تلك المناطق أو بعضها. ونحن لا ندرى امتداد حدود الملوك البليميين في منطقة طيبة، هل كانت في صعيد مصر فقط أم تضمنت جزءً من شمال السودان؟ فإن الملك باكتمن لقب نفسه بـ"أشهر الملوك" مما يوحي بامتداد حدود مملكته.
ومن الممكن أيضاً افتراض أن الملوك البليميين حكموا جزيرة تناري وغيرها من المناطق فى اقليم طيبة قبل انهيار مملكتهم في الجنوب. فقد رأينا كيف كانت قوة البليميين حتي عجز الرومان ثم البيزنطيين عن صدهم، وأنهم سيطروا على إقليم طيبة بما فيها منطقة الجبلين. ويؤيد ذلك ما رجحه بوري من أن وثائق الجبلين تتناول أحداث ما قبل القرن السادس الميلادي.
وتظل بقايا من السؤال هي: هل سقطت مملكة البليميين نهائياًّ؟ أم كانت أو كان جزء منها قائما إلي جانب أو تحت سلطة مملكة نوباديا؟
من المؤكد كما ورد في الوثائق أن مملكة البليميين كانت لا تزال قائمة في المنطقة إلى جانب مملكة النوباديين والمقرة وعلوة، بل ويفهم من مجرى الأحداث أنها اعتنقت المسيحية قبل مملكة علوة. ويستند هذا الرأي على نفس الوثيقة التي وضحت اعتناق مملكة علوة المسيحية. ووردت هذه الوثيقة في أغلب المراجع التي تناولت اعتناق ملك علوة المسيحية.
من المعروف أن مملكة النوباديين اعتنقت المسيحية علي المذهب اليعقوبي بخلاف مملكة المقرة التي اعتنقته على المذهب الملكاني. وقد تنافس اتباع المذهبين على تنصير ملك علوة الذي فضل اتباع المذهب اليعقوبى . فأرسل رسله إلى ملك نوباديا يطلب منه إرسال القس لونجينوس ليتم ذلك على يديه. وقد روي يوحنا الأفسوسي تلك الأحداث ونرجع اليها هنا فيما ذكره وليمز بهذا الصدد.
دبر ملك المقرة الملكاني خطة لإعاقة وصول لونجينوس إلى مملكة علوة لأن طريقه إلى علوة يمر عبر أرضيهم. ولكي يتفادى الوفد هذا الخطر أتصل ملك النوباديين بملك البليميين لكي يساعد البعثة على الوصول لعلوة. وجاء في رسالة ملك نوباديا: "ولكن بسبب المكيدة الخبيثة التي دبرها ذلك الذي يقيم بيننا (ملك المقرة) فقد أرسلت أبي البار إلى ملك البليميين ليوصله إلى داخل البلاد" (آدم وليامز، النوبة رواق افريقيا ص 398) 
يدل هذا على أن مملكة البليميين كانت لا تزال قائمة، وأنها اعتنقت المسيحية ربما في نفس الوقت الذي تم فيه تنصير مملكة نوباديا بصورة شاملة، وأن البليميين اعتنقوا المسيحية على المذهب اليعقوبي قبل مملكة علوة، وأنهم ساعدو القس لونجينوس إلى الوصول لمملكة علوة تفادياً لمروره بأراضي مملكة مقرة. ويبقى السؤال: اين كان مقر ملوك البليميين بعد هزيمة سلكو؟ وإلى أي مدى امتدت حدودهم أو سلطاتهم؟
اتضح مما سبق أن بقايا المملكة كانت موجودة في صعيد مصر حتى القرن السادس الميلادي، ويبدو معقولاً أن عائشة حتى دخول المسلمين. فقد ذكرنا أن ابن حوقل (صورة الأرض ص 55) ذكر أن "عبد الله بن أبي سرح لما فتح مدينة أسوان وكانت مدينة قديمة أزلية، وكان عبر إليها من الحجاز قهر جميع من كان بالصعيد وبها من فراعنة البجة وغيرهم" فالبجة الذين حاربهم عبد الله بن سعد هم بقايا مملكة البليميين في مناطق شمالي أسوان.
لأمانع أن يكون موقع المملكة في الجنوب - بناءً على ما ورد أعلاه -  في المنطقة المجاورة للنيل من الناحية الغربية بين مملكتي نوباديا وعلوة، ربما في مناطق وادي العلاقي وجنوبيه، لكن لم ترد معلومات عن مصير المملكة أو البليميين. وبعد أربعة قرون أي في القرن العاشر الميلادي ورد ذكر جماعة من البجة يطلق عليهم الزنافجة قال عنهم ابن سليم عند حديثه عن المنطقة  الواقعة شرقي النيل بين مملكتي مقُرة وعلوة:
"وفيها خلق من البجة يعرفون بالزنافج، انتقلوا إلى النوبة قديماً وقطنوا هناك، وهم على جملتهم في الرعي واللغة، ولا يخالطون النوبة، ولا يسكنون معهم في قراهم، وعليهم والٍ من قبل النوبي"
وما نود التوقف معه هنا هو وجود هذه المجموعة البجاوية  "الزنافج" في المكان الذي شهد وجود مملكة البليميين "البجة" فهل حل اسم الزنافجة محل اسم البليميين في ايام ابن سليم في القرن العاشر الميلادي؟ لم يتردد اسم الزنافج  كثيراً في المصادر العربية، فقد ورد في مصادر القرنين التاسع والعاشر الميلاديين عند اليعقوبي وابن سليم الأسواني.
ويبدو مما ورد عنهم أنهم كانوا منتشرين انتشاراً واسعاً بين البحر الأحمر والنيل، وكانوا يمثلون القوة الكبرى في المنطقة قبل القرن الثالث الهجري (9 م) وكانت لهم مملكة كبيرة واتصالات بالمسلمين. ولم يعد اسم الزنافج يرد في المصادر العربية بعد القرن العاشر الميلادي مما يشير إلى ظهور اسم قبلى آخر حل محل اسم الزنافجة. ويبدو واضحاً من وصف المصادر العربية للزنافجة في القرنين التاسع والعاشر الهجريين أنهم كانوا منتشرين على نفي مناطق البليميين ما بين النيل والبحر الأحمر. فهل حل اسم الزنافج محل اسم البليميين؟ وهل هنالك علاقة بينهما؟ وما هي العلاقة بينهما وبين البلين؟ سنتناول في الحلقة القادمة شعب البلين.

ahmed.elyas@gmail.com

 

آراء