في حقبة السبعينيات من القرن الماضي درج الناس في العاصمة الخرطوم على رؤية رجل مصاب بلوثة عقلية، يبدو أنها كانت ذات صلة بمهنته السابقة. كان يرتدي زياً عسكرياً، ويضع على صدره نياشين كثيرة (تشبه إلى حد ما النياشين التي يضعها محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي). كان هذا الرجل يرتاد مكاتب مختلف الوزارات، وبالأخص مكاتب مديرية الخرطوم (سابقاً) واعتاد أن يعطي أوامر صارمة للموظفين، وبجدية تامة يطلب منهم على الطريقة العسكرية، أن يفعلوا هذا ويتركوا ذاك وهكذا دواليك. والمدهش أن الموظفين لا يتضجرون منه ولا من تدخله السافر في شئونهم، وذلك نسبة إلى أنهم اعتادوا عليه، ويعلمون ما يعانيه دون أن يساءله أحد. المهم في الأمر أن مجتمع الخرطوم صار يطلق على ذاك الرجل لقب (مارشال المديرية) تندراً. ولكن تلقائياً أصبح اللقب يُقال لكل من يتصدى لقضايا لا تهمه، ويزج نفسه فيها لكأنما هو صاحِبها الفعلي!
(2)
راج في وسائل التواصل الاجتماعي فقرة من حديث أدلى به مبارك عبد الله الفاضل لصحيفة محلية في الخرطوم، قال فيه إنه ذاهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لبحث ترتيبات الفترة الانتقالية مع إدارتها. اتخذ النشطاء ذلك القول وسيلة لاجترار سخرية دأبوا عليها في سيرة المذكور، وأظنها جراء مشاركته النظام الديكتاتوري البائد. ولكن لو أنه قُدِّر له أن يُطالع تلك التعليقات لاعتزل الحياة برمتها، لا السياسة وحدها. فهم معذرون لأن مثل هذا القول الأخرق يجعل المرء يضحك ملء شدقيه، علماً بأنه ليس جديداً على قائله، والذي ظلَّ باستمرار هدفاً للرماية ولم أجد من يدافع عنه مطلقاً. بل عُرِف عنه أنه بارع في صناعة الخصوم، وفي هذا الخصوص لديه فهم غريب يردده دائماً، إذ يقول إن (السودانيين يُفضلون الرجل الضعيف في العمل السياسي العام ويبغضون الرجل القوي)، وفي هذا الصدد يُكثر من الاستشهاد بالسيد سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة أكتوبر الانتقالية حتى ترضرضت عظامه في قبره. ولا أدري من أين جاء بهذا الفهم الميتافيزيقي الغريب للشخصية السودانية، لكن أظنه لهذا السبب يبدو لي متصالحاً مع اللقب الذي يُطلق عليه (البلدوزر) وأعجب كيف لشخص يوصف بلقب كهذا وهو به سعيد؟
(3)
تصوروا - أعزائي القراء - أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تُصنَّف في المَرتبة الأولى بين دول العالم، نظراً لمعايير كثيرة اتفق الناس حولها أو اختلفوا. هذه الدولة العظمى تملك اهتماماً كبيراً بالسودان، بدليل أنها أقامت على أراضيه ثاني أكبر سفارة لها في العالم بعد كوبا. وهي نفس الدولة التي أسست وكالة استخباراتها (السي أي آيه) أكبر مركز أمني لها في القارة الأفريقية على الأراضي السودانية، وذلك على حد قول أساطين جهاز الأمن والمخابرات. علاوة على أن السودان نفسه يقع تحت مظلة قوات الأفريكوم التي تغطي القارة الأفريقية. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية ظلت على مدى سنين تُعيِّن مبعوثاً خاصاً للرئيس الأمريكي، الواحد تلو الآخر وآخرهم دونالد بوث الذي يجوب عواصم الدنيا الآن بحثاً عن سلام السودان المفقود. وتعلمون أنها ذات الولايات المتحدة الأمريكية التي لها من التكنولوجيا ما تعرف به دبيب النمل في السودان أو غيره. بعد كل هذا يجيء إلينا غرير ويقول إنه ذاهب إلى واشنطن ليشرح لها ترتيبات الفترة الانتقالية. تلك لعمري شنشنة لا تقال حتى في (سوق أم دفسو)!
(4)
لقد كشف مبارك عبد الله الفاضل عن نمط شخصيته قبل عدة أيام في فضائية النيل الأزرق، قال لضياء الدين بلال إنه اخترق مكاتب عُصبة الإنقاذ بدءاً بمكتب المشير المخلوع مروراً بآخرين، وعندما سأله عن الكيفية التي فعل بها ذلك تهللت أساريره وانتفخت أوداجه كمن فعل عملاً بطولياً. وقال له: بالقروش.. بالقروش.. ومع النطق كان يحرك سبابته وابهامه بالحركة المألوفة التي يفعلها الناس كدلالة على عد المال. في واقع الأمر لم أشعر بالتقزز في حياتي مثلما شعرت به في تلك اللحظة، وتخيلت بغتة مشهد السماسرة الذين يضج بهم ما يسمى (كرين العربات) وتراهم يحلفون بالطلاق ويتبعونه بالأولاد ويزيدون بكل غالٍ حتى يقنعوا الزبون الماثل بين أيديهم بالصفقة. قد يبدو ذلك السلوك ليس غريباً على القائل، الذي عُرف عنه حبه للمال حباً جماً، والاجتهاد في جمعه بكل الوسائل، لعله يصنع به مجداً عزّ الوصول إليه بالطرق الأخلاقية!
(5)
نعم كنا وما زلنا نحارب الإسلامويين بوسائل أخلاقية مشروعة، رغم علمنا أنهم قوم فاسدون ومفسدون لغيرهم، جعلوا من المال غاية همهم، هجموا على ثروات البلاد كما الجراد الصحراوي. ونعلم أيضاً أنهم افتروا على الله كذباً وجعلوا من التدين الشكلاني وسيلة من وسائل التغطية على أفعالهم المخزية. وبعد كل هذا الذي اكتوينا بنيرانه يأتي ميكافيللي زمانه ويقول لنا جهرةً وبمنتهى السعادة إنه يفعل نفس أفعالهم الكريهة تلك. وهنا لابد للمرء أن يتساءل: هل عدم الأخلاق يُحارب بعدم الأخلاق؟ هل الفساد يُجتث بالفساد؟ هل الكذب يكون ترياقاً للكذب؟ كلنا يعلم أن نظام العصبة ذوي البأس البائد عمل بكل الوسائل على تغيير سلوكيات المجتمع السوداني، واجتهد في ذلك بشتى الطرق والوسائل، وذلك على مدى سنواته الثلاثين في السلطة. ولكنه لم يفلح في مسعاه، بدليل أن انبهار الناس بثورة ديسمبر المجيدة مرده في الأساس إلى حمولتها من القيم الأخلاقية الرفيعة. إذن ونحن في غمرة سعادتنا تلك إذ جاءنا من يتباهى باستخدام نفس وسائلهم غير الأخلاقية، ينبغي عندئذ أن نقول له: ما الفرق بينكما؟ ويُحارب بمثلما حوربوا؟
(6)
في تقديري أن مبارك عبد الله الفاضل نموذج للسياسي الذي اتسمت حياته بالفشل والخيبات المتتالية، والتي يحاول دوماً تغطيتها بالاتكاء على إرث البيت المهدوي. يحلو له أن يقول دوماً ضمن اكاذيبه المنشورة إنه ابتدأ النشاط السياسي وهو طالب، ويدَّعي أنه أوكلت له مهمة تاريخية في عملية يوليو 1976 التي قامت بها الجبهة الوطنية انطلاقاً من الأراضي الليبية، وهي تكليفه بإخفاء قائد العملية العميد محمد نور سعد قبل ساعة الصفر. وفي الواقع يعجب المرء من أن تُوكل مهمة خطيرة كهذه لطالب لم يتجاوز عمره الثمانية عشر عاماً، ليس هذا فحسب، فما لا يذكره المذكور إلا لُماماً، وهو ما كان أحد أسباب فشل تلك العملية، والتي راح ضحيتها عشرات المئات من البشر. فقد كان مسؤولاً عن عدم صلاحية (اللواري) التي تعرضت لأعطال في الصحراء، إذ إنه من قام بشرائها. وبرغم التكلفة البشرية الباهظة، فقد كانت تلك هي المحطة التي يدَّعي بأنها عتبته الأولى في مضمار السياسة!
(7)
كانت حقبة الديمقراطية الثالثة هي عتبته الثانية بكل ما حملت من أوجاع. فإذا بالمذكور يتسلم الوزارة تلو الوزارة دون دراية تذكر، إلى أن وقع في حبائل الاتهام بالفساد، وأصبح ذاك حديث القاصي والداني، حتى صار الأمر عبئاً ثقيلاً على حزب الأمة والحكومة الائتلافية، الأمر الذي حدا بالسيد الصادق المهدي رئيس الوزراء إلى تكوين لجنة تقصي، وباشرت اللجنة أعمالها ولكن حدوث انقلاب الجبهة الإسلامية حال دون مواصلتها مهامها. وعند انهيار النظام الديمقراطي هرب المذكور الذي كان وزيراً للداخلية إلى ليبيا، وذلك بمساعدة صهره غازي صلاح الدين الكادر القيادي في الحركة الاسلامية. بعد فترة التأم شمل القوى السياسية المعارضة في كيان أطلق عليه التجمع الوطني الديمقراطي، وخلال رحلة التجمع من المهد إلى اللحد كان المذكور بمثابة (خميرة عكننة) بين ناشطيه، إلى أن عصفت به الأحداث. ولكن قبل أن يُوارى الثرى كان المذكور قد قاد حزب الأمة إلى مقصلة الهبوط الناعم، وذلك عن طريق اتفاق جيبوتي بين الحزب والجبهة الحاكمة، وعلى إثره عاد الحزب للسودان ليواصل المذكور مسيرته القاصدة بمحاولات مفضوحة، مما أوقع الحزب في فخ انشقاقات من تدبيره وتنفيذه.
(8)
سرعان ما اتضح أن أزلام العُصبة الحاكمة كانوا يقفون من خلفه ويشدون من أزره. اتضح ذلك في المؤتمر الصوري الذي عقدوه له في سوبا بُغِية تمهيد الطريق له لمشاركة السلطة آثامها وخطاياها، فتقلد منصباً وزارياً وذلك بالطبع غرامه الأول، فهو لا يستطيع الجلوس طويلاً على مقاعد الانتظار. وبعد أن قضى الانقاذيون منه وطراً، طردوه بصورة مهينة من الوزارة في موقف سارت به الركبان. وتوالت عليه المصائب والانكسارات، فمن طريف ما وثق له الناس في فقه الديكتاتوريات، أن عصبته باعته بثمنٍ بخسٍ، إذ فضلت عليه الاستمرار في الكراسي الوزارية. فأصبح مهيض الجناح يتوسل بين الفينة والأخرى عودته لحزب الأمة القومي. ولما طال انتظاره أقنع الانقاذيين أن بوسعه تقديم المزيد من الخدمات التي تحطم حزب الأمة ورئيسه السيد الصادق المهدي. فأعادوه للوزارة التي يدمنها. والمضحك أيضاً أنه بعد أن طُرد والمؤلفة قلوبهم من النظام انفض سامر النادي السياسي في أبريل الماضي وغبر مع المغبورين، بدأ يروج لقول فطير، وهو أنه اشترك مع النظام بهدف إسقاطه من الداخل!
(9)
صفوة القول إن رحلة الفشل والخيبات المتتالية كانت مؤلمة ومخجلة، ولو أنها حدثت لأي ناشط سياسي لما اكتفى بالاعتزال وحده، وما حدث ليس من نسج الخيال، ولكن يحق أن نطلق عليه (واقعة الميدان) وهي حدث مبثوثة وقائعه على وسائل التواصل الاجتماعي وكذا (اليوتيوب) فبالرغم من أنه أحد سدنة النظام المُباد، وكذلك هو صاحب القول البائس عن الميزانية والتي وصفها بأنها ممتازة ولا تحتاج حتى إلى شولة، وهو أيضاً المدافع عن النظام حتى الرمق الأخير. ورغم كل هذه الموبقات أراد استغلال سماحة ثورة ديسمبر المجيدة، ولعله ظن أن الثوار المعتصمين أمام مبنى القيادة العامة من ذوي الذاكرة السمكية. وبالتالي لن يتذكر أحد من الناس تاريخه المشين في مشاركاته نظام العصبة، فتوجه نحو ميدان الاعتصام يحدوه أملٌ في أن يجد استقبال الأبطال، ولسوء حظه ما إن تعرَّف عليه المعتصمون حتى قاموا بطرده بصورة جلبت له الذل والمهانة، إذ شيعوه بالقول اللاذع، ولولا حكمة الثوار وسلمية الثورة لجنح البعض نحو أبغض الحلال!
(10)
ختاماً أن كل ما سلسلنا ذكره من وقائع سبق أن وثقنا بعضها في كتاب مسطور لن يستطيع المذكور له دحضا، وما يزال في جعبتنا الكثير، فالثورة التي سنجني ثمارها قريباً بحول الله وفضل الشباب الثائر، تحتاج لحماية من تغول كل معتد أثيم، وكذلك الانتهازيين الذين سماهم دكتور منصور خالد بــ (سُواس الأحصنة الذين يغيرون أسرجتهم عند كل مضمار) غير أني أعود لما ذكرته في صدارة هذا المقال حول كذب المذكور، فلم يكن ذلك قذفاً ولا تجنياً ولا افتراءً. فهو كان قد أراد أن يفعل مثلما فعلنا وفعل بعض الناس، فهداه خياله لتأليف كتاب (مجازاً) وأظن أن دافعه في ذلك هواجسه مما اسميه (متلازمة الصادق المهدي) أي تحدوه رغبة في أن يفعل مثله في مجال التأليف، فنشر كتاباً سقيماً أوله كفر وآخره فجور في الخصومة. كتاب محشو بالأكاذيب والأباطيل والادعاءات الجوفاء التي لا نعرف لها سبباً سوى الغطرسة والتنطع والغرور، وذلك مما ليس عندنا له دواء!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com