مُستنفَرون من منازلهم

 


 

 

مُستنفَرون من منازلهم
يغيب العقل النقدي عن الوعي، فتنشط غدد الوعي الإثني !.

عزالدين صغيرون
إذا التمسنا العذر للعامة من الناس انخداعهم بما تنشره منصات الكيزان من أكاذيب وادعاءات، فإن السؤال يتجه إلى من نحسبهم نخب البلد المثقفة الفاهمة لما يحدث: كيف صاروا أبواقاً تردد صدى الأكاذيب وتدعمها بما أتيح لها من علم وثقافة ؟!.
إذا كان عن هذا جهل منهم، فما قيمة هذه اللافتة العريضة الواسعة البرَّاقة التي يستظلون بظلها، ويتمتعون بسلطة ومكانة، وبنفوذ سياسي واجتماعي غير مستحق؟.
وإذا كان هذا الدور اللاأخلاقي يتم رغم علمهم، وبمعرفتهم، فما هي قيمة هذا الثمن الذي يستحق التضحية بضميرهم الانساني وبشرف الكلمة ؟!!.
وأياً ما كان هذا الثمن فليعلموا غداً بأنهم كانوا مجرد بيادق تحركهم أصابع تحيك بلؤم وذكاء ومهارة مؤامرة، ليس لتقسيم السودان وحسب، بل لمحوه من خارطة العالم.
ليس ذلك وحسب، بل انهم وباستنفارهم من منازلهم، كانوا لا يقلون جهلاً واستغفالاً عن الصبية الأغرار الذين قادتهم ميديا الكيزان و "انصرافيها" إلى حتفهم في محرقة هذه الحرب. وأنهم مثلهم يستجيبون لدعوة "الطبيب العسكري" طارق الهادي كجاب للقتال نيابة عن الجيش دفاعاً عن أنفسهم واخذ ثأرهم و"تبريد بطنهم"، من عدوهم، كما قال حرفياً (لأن الاسلام ما فيهو جيش) !!.

(2)
يحدث هذا لنخبنا المستنيرة، على سبيل المثال:
حين يسدد الحزب الشيوعي سهامه إلى صدر كل من يسعى لوقف الحرب مصطفاً مع الكيزان ومتناغماً مع هذر الانصرافي وهرطقاته التحشسيدية. ويرفض حتى مبدأ الجلوس مع وفد تقدم في جولته الخارجية لوقف الحرب وإغاثة المنكوبين.
كما ويحدث حين "يتبرع" أمجد فريد الذي كان يتخذ موقعه في كابينة قيادة حكومة الثورة الانتقالية، ومقرباً من ربانها حمدوك، بشيطنة الدعم السريع، ويبعث من موقعه الإسفيري الحقوقي برسالة، مشتركة إلى "اللورد كولينز أوف هايبري"، وزير الدولة البرلماني البريطاني لشؤون أفريقيا، رئيس الإحاطة الوزارية للأمم المتحدة حول السودان، وبنسخة منها إلى: السيدة روزماري ديكارلو، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، ويطالب فيها: " بتحرك عالمي جماعي عاجل لمواجهة فظائع قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة"، وفق ما جاء نصاً فيها بتاريخ 11 نوفمبر 2024.

(3)
مضمون ومطالب الرسالة التي زيلَّها أمجد إلى جانب موقعه " فكرة للدراسات والتنمية (Fikra for Studies and Development) بتوقيع (12) جهة ومنظمة حقوقية وتنموية، لا يعلم إلا الله وحده كيف استطاع انتزاع تواقيعها، فهي تضم خليطاً من السودان، و أوغندا، وبريطانيا على النحو االتالي: المبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي ((SIHA، و (منتدى السودان وجنوب السودان) و(مؤتمر الجزيرة!) و (مجموعة الدعم لدارفور) و(منظمة عوافي السودانية) و(منظمة التنمية الاجتماعية السودانية - المملكة المتحدة) و(منظمة التنمية الاجتماعية السودانية – السودان) و (حقوق من أجل السلام) و(التيار الوطني) و (منظمة التعليم الريفي للتنمية – اوغندا) و(المبادرة السودانية لوقف الحرب وبناء السلام) و (منظمة محفزات السلام – أوغندا).

(4)
لك أن تسأل: كيف استطاع التواصل مع كل هذه الجهات واقناعها بوجهة نظر موقعه، وهل بذلوا أي جهد للإلمام بتفاصيل تعقيدات الأزمة وأسبابها ومجريات الأحداث على الأرض ليوقعوا على مسؤولية الدعم السريع عن الجرائم والانتهاكات وحده منفرداً، ثم ليوقعوا على الرسالة التي تخاطب اللورد، وتدعوه في احاطته الوزارية لمجلس الأمن الدولي حول السودان، باعتبار أنهم: " ائتلاف من منظمات المجتمع المدني السودانية والدولية، ببالغ الرجاء والإلحاح (لقيادة) استجابة دولية حاسمة إزاء الكارثة الانسانية المستعرة في ولاية الجزيرة". وذلك لأن قوات الدعم السريع قادت حملتها الإرهابية في ولاية الجزيرة بسبب انشقاق كيكل "وهذه الهجمات الانتقامية تُرتكب ضد مدنيين عزل، باستخدام أسلحة متقدمة وتقنيات عسكرية عالية الدقة".

(5)
حسناً ربما تسأل: "ليه إنت "مُدَّحِّشْ/ حارِنْ"، بكل هذا التركيز في رسالة موقع "فكرة" رغم علمك بمحدودية تأثيره ؟!.
هناك عدة نقاط تستوقفك في هذه الرسالة:
- أولها: هذا التركيز القوي على أحداث "شرق الجزيرة"، وكأنها المأساة الوحيدة لهذه الحرب البشعة في السودان. و كأنها الأكثر بشاعة ومأساوية فيها، بما يصرف النظر عن المذابح الدموية التي ارتكبها الجيش الرسمي ومليشيات فلول النظام البائد ومستفريه في الدندر على سبيل المثال، والتي تم فيها ذبح المئات من المدنيين العُزَّل واحراق جثثهم، أو تلك التي ارتكبت بحق المدنيين في الحلفايا ببحري ووفق قوائم بالأسماء، أو تلك الجثث التي تناثرت في سوق أمبده بقصف الطيران لأطفال ونساء ورجال، أو ضحايا قصف الأسواق في قرى ومدن دارفور وكردفان وجنوب الحزام الأخضر في العاصمة بالطيران ... الخ.

(6)
- ثانيها: العناية التي رُسمت بها لوحة المشهد المأساوي في قرى السريحة وأزرق، لتستجيش المشاعر وتستثير حمية الثأر لفظاعتها، رغم أن أغلب تفاصيلها كاذبة وزائفة من نسج الخيال:
" وقد لجأت العائلات اليائسة إلى المساجد بحثاً عن ملاذ آمن، لكنها وجدت نفسها محاصرة في بيوت العبادة التي تحولت إلى ساحات قتل. نفذت قوات الدعم السريع عمليات إعدام جماعي في مساجد التقوى والمشرف وأبو صباح في الهلالية، مدنسة هذه الأماكن المقدسة بسلب حياة العديد من الأبرياء".
ومما له دلالاته الكاشفة عن مقاصد الرسالة وأهدافها، أن كاتبها ضمَّنْ شهادة جهة يُفترض مصداقيتها، مضيفاً: "ووصفت نقابة أطباء السودان مشهداً أكثر فظاعة للأزمة الجارية، حيث تشير تقاريرها إلى وفاة شخص واحد كل نصف ساعة في شرق الجزيرة بسبب الجوع وتدهور الأوضاع الصحية. وتلوح مخاطر المجاعة في الأفق، مهددة بوفاة عدد لا يحصى من الأرواح".

(7)
- ثالثها: بسهولة يمكنك أن ترى أن هذه السردية، وبكل تفاصيل جزئياتها، وبالانطباع العام لتأثيراتها شكَّلت على نحو غريزي وعفوي ردود الأفعال عند مختلف الاتجاهات، الفاعلة والمنفعلة بالأحداث المروعة لهذه الحرب الاجرامية البشعة، لتتجه الأنظار جميعها بالتالي إلى الدعم السريع فتشيطنه ليصبح مكب نفاياتها، ويتحمل وحده وزر مسؤوليتها.
وسترى أن ظلال هذه السردية الزائفة الكثيفة، والتي تم ترويجها بكثافة في كل الاتجاهات، قد انتشر دخانها الكثيف السام وانتشر من أسنة كل الأقلام التي قاربت وقائع الحرب وفظائعها، لتقطع بإدانة الدعم السريع وتجريمه. وكل ذلك بناء على سردية أطلقها في الهواء "لايفاتية" إسفيريون، لم يكلف أحداً من مستقبلي هراءهم نفسه جهد النظر إلى اللوحة في كليتها، وكأنهم منومون مغنطيسياً.

(8)
يستطيع الواحد أن يراجع كل المقالات التي دبجها الكاتبون من مختلف مواقعهم الفكرية والأيديولوجية والاجتماعية ليستبين له كثافة الضباب الأعمى الذي يتخبطون فيه، لتجد بأنهم وقد ولغوا في هذا الجدال بوعي أحادي، تعاملوا مع القوتين المتقاتلتين بعقلية: هلال/ مريخ.
فمن يناصر الجيش المتكوزن يستميت في كشف انتهاكات الدعم السريع. ويفعل الشيء نفسه من يناصر الدعم السريع في رفع الغطاء عن انتهاكات الجيش وميليشياته. وكل منهما يبرئ صاحبه، وينافق نفسه !!.
وحين يغيب العقل النقدي عن الوعي، ويروح في غيبوبة الأدلجة الظلماء، تنشط غدد الوعي الإثني، وكل غدد الوعي ما قبل الحداثي (القبيلة، الطائفة الدينية، الجهة ... الخ). ويتحول الصراع السياسي السلمي الديمقراطي إلى اقتتال دموي.
وهذا ما يحدث الآن.
لقد اصطفت نخبنا السياسية والاجتماعية والثقافية في فسطاطين إثنيين !.
وما من أحد يستطيع أن يصف الاقتتال الذي يدور في السودان اليوم بأنه صراع سياسي، فهو اقتتال عصبيات إثنية، ولن تجدي معه آليات معالجة الصراعات السياسية.

(9)
وليت الأمر توقف هنا وعند هذا الحد. فقد انخرطت القوى الدولية في هذه الرقصة الدموية، وأخذت تدوزن آلاتها الموسيقية لتشارك في العزف على ذات النوتة.
فهل تكوزن المجتمع الدولي هو أيضاً ... أم أنه مؤلف السيمفونية ؟!.
سنرى ذلك.

izzeddin9@gmail.com

 

 

آراء