ملحوظة: هذا المقال امتنعت صحيفة (الوطن) عن نشره كان جريجوري راسبوتين أمياً امتهن الفلاحة في بداية حياته. ورويداً رويداً اكتسب نمطاً من القداسة وسط الجُهلاء من الفلاحين، الذين أصبحوا يعتقدون فيه اعتقاداً أعمى. فقاده طموحه المُبكر لأن ينتقل إلى مدينة سانت بطرسبيرغ أثناء حكم القيصر نيقولا الثاني، حيث عمل بمكرٍ للدخول إلى القصر الإمبراطوري. وتزامنت رغبته تلك مع إنقاذه الابن الأكبر للقيصر، من مرض الناعور أو سيلان الدم (الهيموفيليا) Hemophilia الأمر الذي جعل القيصر يقتنع أنه قديس حقيقي. لهذا عاش في معيته في القصر لمدة سبع سنوات، ومن ثمَّ أصبح في مقام المستشار الناصح. وفي نفس الوقت كانت حياته الخاصة تتضاد تماماً مع هالة القدسية التي أُسبغت عليه، وراسبوتين نفسها تعني في اللغة الروسية (الفاجر) وقد جاءت التسمية بسبب علاقاته النسائية الجنسية الفاضحة. ومع ذلك فإن تلك الخصلة تركت انطباعاً ايجابياً لدى الإمبراطورة (ألكسندرا فيوديوروفونا) التي قرَّبته منها للسبب نفسه، فأصبح مستشارها الشخصي والمؤتمن على أسرارها الخاصة.
كان راسبوتين مولعاً بالسحر والتنجيم وتحضير الأرواح. هنيهةً وأصبح مركز قوة في البلاط الإمبراطوري، بمقدوره أن يرفع من يشاء ويذل من يشاء دون أن يعترضه أحد، فغدا مهاباً يخشاه الجميع، عدا بعض أنصاره السابقين، الذين باتوا يجهرون في أروقة الكنيسة بأنه ما هو إلا تجسيد للشيطان. فشكلوا تحالفاً ضده، واستجمعوا قواهم وصاروا يحيكون له المؤامرة تلو الأخرى، بهدف النيل منه وقتله. وجراء ذلك تعرَّض لعدة محاولات اغتيال، كان ينجو منها بأعجوبة، الأمر الذي رسَّخ قدسيته عند بعض الذين خُدعوا فيه سلفاً، ولكن بنفس القدر تزعزعت صورته عند مناوئيه، إلى أن تمَّ قتله على يد اثنين من أقرباء القيصر، وكانت وفاته قمة في التراجيديا. وبعد تسعة عشر شهراً أُعدم القيصر بأيدي الثوار البلاشفة كما تنبأ له راسبوتين!
أما أنتم يا قرائي الكرام فإن كان فيكم من لم يسمع براسبوتين هذا، أو من لم يقرأ سيرته من قبل، فدونكم سيرة جنرال المنفى أو راسبوتين قصر غردون (الفريق) طه عثمان أحمد الحسين. وهو في تقديري أعجب ظاهرة في التاريخ السوداني. ولا يضاهيها غرابة في التاريخ الإنساني الحديث، إلا سيرة راسبوتين في التاريخ الإنساني القديم. ودعونا نتمعن فيها وكنا قد أوردنا شذرات منها في كتابنا الأخير الموسوم (الطاعون/ اختراق دولة جهاز الأمن والمخابرات في السودان) والذي صدر في العام 2018 أي قبل بضعة أشهر من اندلاع الثورة المجيدة، لاسيما وقد حمل في طياته نبوءتها!
(2) تحكي السيرة الذاتية الظاهرية بداياته المتواضعة منذ تخرجه العام 1988 من جامعة القاهرة سابقاً، وعُّيِّن ضمن من سُموا (الضباط الرساليين) برتبة رائد في العام 1993 ثمّ نُقل إلى مكتب العميد محمد عثمان محمد سعيد معتمد العاصمة، وانتقل معه إلى مدينة سنار، ومن بعدها إلى ليبيا التي عاد منها عام 1996 واُلحق بمكتب إبراهيم أحمد عمر عندما كان وزيراً للتعليم العالي، وواصل معه عندما أصبح أميناً للمؤتمر الوطني. وعرف عنه إنه يبدي وفاءً مبالغاً لمن يعمل معه، واتضح أن ذلك لمآرب في نفسه خطط لها مبكراً، ووجد ضالته عندما أوصى إبراهيم أحمد عمر بتحويله لمكتب المشير المعزول في المؤتمر الوطني فزاد من تفانيه. بعدئذ طلب المعزول أن يُنقل لقصر غردون في العام 2013 وزاد من جرعة ولائه بتلبية حاجيات ورغائب زوجتين تسببان للمخلوع ضيقاً وإزعاجاً بالتنافس في الطلبات. تلك هي السيرة المختصرة. غير أن هذا الأمر استلفت أنظار سدنة القصر الذين كانوا يرون في ظاهرة صعوده بتلك السرعة أمراً غير طبيعي نسبة لعاطل مواهبه، وسرعان ما ارتبط الأمر في أذهانهم باهتماماته الخاصة، وعُرف منها ولعه الشديد بظاهرة الدجاجلة ممن يسمونهم (الفقراء أو الشيوخ) فصار قصر غردون مرتعاً لهم وضُربت حولهم سرية مشددة، وبدأ السدنة ينسجون حولهم الأساطير والقصص والروايات والتي يزيدها طه تشويقاً وإثارة وترويجاً، ومن ثمَّ بات أزلام السلطة يخشونه، وعلى رأسهم الرئيس المعزول نفسه!
(3) في واقع الأمر لقد استخدم طه عثمان كل قدراته في التأثير عاطفياً على الرئيس المشير، فسمى أحد ابنائه باسمه (عمر) وهي مسألة قد تكون مؤثرة عاطفياً في خُلد من حُرم من البنين. فقد قال في حوار نشرته صحيفة الدار وهي إحدى صحف قاع المدينة يوم 15/9/2016: (الرئيس أنا ابنه وليس مدير مكتبه، وتعرف كيف تكون علاقة الابن مع أبيه) ثمَّ طرح رأيه الشامل الكامل دون خشية من أن يُتهم بالنفاق والتزلف والانتهازية (الرئيس فيه بركة، وهو رجل صادق لا يكذب حتى في أوقات المزاح، لا يكذب مطلقاً، وهو مستمع جيد وبارع في التلخيص. واعتقد أن ملامح تلك الشخصية تأثرت برضا الوالدين، وأقول بكل صراحة، لو كان والد البشير "رحمه الله" على قيد الحياة، لما استمر ابنه في الحكم، لأنه كان باراً به، ويخدمه حافياً ويطيعه طاعة عمياء، شهادتي في البشير مجروحة) والحقيقة هذه ليست شهادة مجروحة بل جارحة للمشاعر الإنسانية، فمثل هذا النفاق لم يقله حتى المتنبي في كافور الإخشيدي. ولا أظن أن أحداً سمع مثله إلا في بلاط (دولة الصحابة) بغية منصب زائل أو دراهم تُكوى بها كرامتهم. والغريب في الأمر أنه اختار من صفات المعزول تهمة الكذب التي سارت بها الركبان، ولكن بغض النظر عن التغزل في صفات المعزول، فقد بالغ أيما (بوليغ) في الحديث عن والد المشير، نسبة لأنه لم يره بعينيه، وسمح لنفسه بنفاقه حتى تململ الرجل في قبره!
(4) واقع الأمر أن لطه قصصاً في هذا المضمار، لو سمعها الناس لِولُوا منها فراراً ولملئت قلوبهم رعباً، لكنه هو من جنس الذين دُبغت جلودهم بقطران الكذب. يقول السودانيون في أمثالهم الدارجة (يضع سره في أضعف خلقه) ولكن هل الأمين عمر الأمين الشهير بــ (شيخ اللمين) من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ ذلك ما ليس لنا شأن به ويُسأل عنه صاحبه المدعي. ولكن الثابت لدينا أن دولة عظيمة اسمها السودان، حكمها بعانخي في تاريخها التليد، تصبح مطية للمذكور والشيخ الدعي. والأخير هذا قال لنا رواية ومن ثم بثها في الأسافير، إن لديه علاقة وطيدة بالشيخ منصور بن زايد آل نهيان شقيق حاكم دولة الإمارات، ومن سخريات القدر أن يصبح الثلاثة هم من يحملون ملف العلاقات بين البلدين، وغابت حتى العصبة عن المشهد ناهيك عن الشعب السوداني المكلوم. اختصاراً لتفاصيل كثيرة نعلم أنها لن تروي ظمأ معرفة أو حب استطلاع، فُتحت الأبواب للقادمين الجدد. وبدأت الزيارات السرية منذ العام 2014 والتي أفتتحها (شيخ اللمين) وتلقفها طه بحسب رواية الأول، ومن ثمَّ أبعده الثاني كيداً عن المشهد، بل كان جزاؤه كجزاء سنمار، فأودعه الإماراتيون غياهب السجن بعد أن وشى به طه، وكادوا أن يقيموا عليه الحد جراء اتهام رهيب وصمه به. غير أن الأهم من المال الزائل أن الدولة الصغيرة أدخلت طه في حضن الدولة الإقليمية الكبرى أو الشقيقة المملكة العربية السعودية. فالذي حدث أن الحرب اندلعت بينها واليمن في 25/3/2015 في ما سُمي (عاصفة الحزم) بالرغم من أن تلك الحرب يُقال عنها إنه ليس للسودان فيها ناقة ولا جمل، إلا أن المشير نظر إليها بمنظور (مصائب قوم عند قوم فوائد) وفوائده التي يجنيها تكلفتها دماء أبناء السودان، والذين سيموتون كما تموت الضأن في الفلوات!
(5) بعد أن أودع (شيخ اللمين) السجن خلا الجو لطه ليمارس هوايته في جمع المال الحرام. فأغدقت عليه الأموال الطائلة بصورة سيَّلت لعابه وحرضته على السخاء في المعلومات، بدأت بنحو 40 مليون دولار على دفعتين (كشف عنهما في تحقيق مُطول الزميل عبد الرحمن الأمين، ونشر وثائقهما في موقع الراكوبة الالكتروني) فالتحويل البنكي الأول كان عشرة ملايين دولار يوم 19/1/2015 والثاني كان ثلاثين مليون دولار يوم 7/6/2015 باستخدام نفس الحسابين (بنك نوفا سكوتيا) بدبي وبنك (أكبكترس) في استطنبول، وتوجد صور التحويلات في الموقع المشار إليه. لكن تلك الأموال ضريبتها باهظة، فسواء كان يعلم المعزول أو لا يعلم، فقد دخل قصر غردون برمته قاعدة (لانغلي) حيث يوجد مقر وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي آيه) فقد قطع طه عثمان المحيط ليدخل ذلك المبنى العتيد في ديسمبر 2016 وقابل من قابل وهو لا يعرف حتى اللغة الإنجليزية، ولكن المضيفين حتماً سيفهمونه ولو تحدث بلغة الإشارة أو أزعجهم بأنكر أصوات النهيق. المهم أيضاً أن طه نفسه لم يكن في حاجة لمترجم فقد توهم عندئذ أنه سوف يحكم السودان، وعاد وهو مشبع بهذه النزوة. أما (أسد أفريقيا) فلم يعد بوسعه أن يقول (أمريكا تحت جزمتي) فقد دخلت أمريكا غرفة نومه ولا ندري ماذا نحن قائلون إذا قال أحد منسوبي الوكالة في مذكراته إنه فعل هناك فعلاً خادشاً للحياء يعف اللسان عن ذكره!
(6) قام المعزول بخطوة ماسونية أخرى، حملها طه مثلما يحمل أسفارا، وقطع بها البحر الأحمر في يوم 4/1/2016 وبحسب وكالة الأنباء السعودية (أن طه أبلغ سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي ولي العهد، طرد السفير الإيراني وقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران واستدعاء السفير السوداني) وحينها لم يكن وزير الخارجية في الدولة الكرتونية على علم بما حدث. ولكن على إثر الهمهمات قام المعزول بعد أشهر قليلة أي في 7/6/2015 بتعيين طه الحسين وزير دولة ومديراً عاماً لمكاتب الرئيس برئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، وكان سلفاً قد أضيفت له وظيفة جديدة في بداية تلك التحركات الماكوكية، وهي سفير في وزارة الخارجية، ولا تنسى – يا رعاك الله – الرابعة في الأصل وهي (فريق أمن). بهذا التمدد الخرافي أدخل طه لاعباً جديداً في المعترك، وهو الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) تمهيدا لخطوة شاب لها ولدان السودان في ما بعد. وستظل جرحاً غائراً في علاقته مع دولة شقيقة، كنا نرسل لها المعلمين وأصحاب المهن الأخرى، ولها مع السودان علاقات تاريخية، تعمقت تواصلاً وتصاهراً وتمازجاً حضارياً تفتخر به البلدان. ولكن بين عشية وضحاها، ونتيجة لإرادة ثلاثي مغرم بحصد المال والدم، عصفوا بكل هذا الموروث في عمق البحر الأحمر، وزجوا بآلاف الجنود في (اليمن السعيد) في خطوة لم يكن يعلم بها سلفاً وزير الدفاع في دولة بني قينقاع!
(7) استمرأ المعزول تلك الغيبوبة، فبات يكلف المذكور بمهمات مبهمة في رحلات تبدأ صيفاً لتنتهي شتاءً، أي كيفما اتفق. إذ صار طه يتقمص ذلك الوهم ويتعمد الغموض، ثم إمعاناً في أدوار (أجاثا كريستي) أصبح يطير شرقاً وغرباً عوضاً عن المخلوع الذي حرمت الجنائية عليه الترحال. وعندما يحط رحاله في قصر غردون، كان يظن أنه الحاكم بأمره ويحلو له أن يمارس دور المعزول في غيابه، وفي غضون تواصل تلك المسرحية السمجة، كان الشعب السوداني الصبور في حيرة من أمره. الكثيرون يتساءلون والقليلون يعلمون أن لا منطق يسند الأشياء، بينما الأحداث تتدفق في صمت وإن كان لها هدير لا يسمعه إلا من في آذانهم وقر. كانت الدولة تنبئ ناظرها بقرب تلاشيها كما لو أنها جبال من العهن المنفوش. ليس لأن الموضوع خبزاً أو وقوداً، وإنما كرامة داست عليها سنابك خيول المغول. فالموت أضحى في الداخل كما في الخارج في آن، ليس هناك فرق سواء قطعت النعوش البحر الأحمر أو دفنت في البقيع. فالذي كان يحدث في اليمن شاهدوه من قبل في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وبورتسودان وكجبار والخرطوم نفسها. كلما حصدت الحرب أرواحاً وقالت هل من مزيد، حصد طه وساكن قصر غردون والجنرال الذي يحب المال حباً جماً، حصدوا الملايين. وبينما بدا السودانيين منهمكين في متابعة هذه التراجيكوميديا بدأ الهمس يرتفع بحصول طه عثمان على الجنسية السعودية، ومن بعد لم يكن ثمة مناص من أن تنشر على الملأ تحت الرقم 49791 بتاريخ 15/10/1437 هجرية تزينها صورته البهية. وزاد طه تفاخراً بتصريح لصحيفة التيار 7/7/2017 قال فيه (إنه يحمل الجنسية السعودية وليس التابعية، وأن الملك سلمان استأذن الرئيس البشير في اتصال تلفوني) وبدأ الناس يتساءلون أليس هو حامل الأربعة وظائف بغض النظر عن شرعية النظام أو فجوره أو تقواه؟
(8) خطا طه الخطوة الأغرب وعلى عاتقه دماء أربعة وظائف وهو الأقرب للرئيس المعزول من حبل الوريد. قام في أواخر فبراير من العام 2017 بمرافقة وفد سعودي برئاسة عادل الجبير وزير الخارجية لحضور القمة الأفريقية السادسة والعشرين في أديس أبابا. وبعد بيانها الختامي ذهب مع الوفد السعودي في جولة شملت الخرطوم نفسها ثم تواصلت إلى كينيا ويوغندا وتنزانيا وجنوب أفريقيا حتى أواخر مارس 2017 وزاد الأمر جرعة، حينما ذهب إلى موسكو مرة أخرى في معية ولي ولي العهد محمد بن سلمان. وجاء في الأنباء أن المذكور التقى نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس للشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوقدانوف يوم 30/5ـ/2017 ولأن الدهشة لم يعد لها مكان في ظل دولة عصبة تدير البلاد بطريقة المافيا، نشرت معظم صحف العُهر السياسي في السودان الخبر التالي (دعا طه إلى ضرورة توسيع قاعدة الاستثمار للشركات الروسية ودخولها في مجالات الاقتصاد الحيوية الأخرى. كما بحث الفريق طه عثمان مع المسئول الروسي تطورات الأحداث بدولة جنوب السودان، وقدم شرحاً لموقف السودان إزائها. كما تبادل وجهات النظر مع نائب وزير الخارجية بشأن الأوضاع في كل من سوريا وليبيا. وأشار إلى أن موقف السودان واضح بشأن الأزمة في البلدين الشقيقين، ويدعم الحل السلمي السياسي) أنظروا لهذه (الغلوتية) مدير مكاتب رئيس دولة في معية ولي عهد دولة أخرى، ويجتمع مع مسؤول في دولة ثالثة بهوية غير هوية الوفد الذي حضر معه. نعم – يا هداك الله - لقد ابتذلت العصبة السلطة حتى الديكتاتورية نفسها كما ذكرنا من قبل!
(9) اختصارا لتفاصيل مملة، أقيل طه سراً بشكلٍ لم يعلن عنه، والغريب في الأمر أنه كان خارج البلاد يمارس حينها سفرياته الجمبازية وشاع أنه لن يحضر، في حين صدر إعلان بتعيين حاتم حسن بخيت مكانه. ظهر طه فجأة في مطار الخرطوم ومعه وجه آخر أكثر جدلاً هو عبد الغفار الشريف، والمفارقة أن تلك كانت المرة الأولى التي يرى فيها الناس (الشريف) بعد ما ظنوه - من فرط تخفيه في الحقبة السوداء - أنه كالغول والعنقاء والخل الوفي. وانضم لهما الكائن الآخر كان يتحسس موطئ اقدامه في هرم السلطة (حميدتي) التقى طه الرئيس المعزول في المطار، والذي كان قادماً من أديس أبابا. ومن المطار نفسه غادر البلاد جهراً في نفس اليوم ولم يعد بعدها للبلاد في ظل عصبته التي حكمت، فبدأت الأسئلة تتداعى وأكثرها جدلاً: لماذا اختارت المملكة السعودية طه عثمان دون سواه وكثيرين من العصبة كانوا جاهزين لتقديم نفس الخدمات؟ لماذا منحته الجنسية؟ هل كان البشير يعلم أن أمريكا في غرفة نومه وليس تحت جزمته كما كان يدعي؟ أليست وثائق الفساد المنشورة كفيلة الآن بطلبه عن طريق الشرطة الدولية (الانتربول)؟ ما هو الدور الحقيقي الذي كان يقوم به طه مع السلطتين السعودية والإماراتية ودوره معهما الآن؟ لماذا استبقت السعودية طه في بلادها وهو مثقل بآثام عظام؟ ما هو التواطؤ الذي حدث بينه واللجنة الأمنية واستمر في تنفيذه المجلس العسكري لاحقاً؟ وثمة أسئلة كثيرة ما تزال متوارية من وراء نقاب!
(10) يبقى السؤال الذي يحتاج لإجابة: كيف انتهت اسطورة طه في قصر غردون وأقاله المخلوع؟ تقول الإجابة أن هناك كثيرين في الدولة السائبة، أوغرت صدورهم تصرفات طه، وكان احتماءه بالرئيس المخلوع قد جعل هؤلاء يخفون سكاكينهم الطويلة وراء ظهورهم انتظاراً لمعركة محتملة. في مقابل ذلك كان سيف طه الوحيد هو دهاء راسبوتين في البلاط الأمبراطوري. فكان يكثر من الدجاجلة الملتحين ويزجهم في القصر. ومن كتابنا (الطاعون) نستلهم أحدى القصص المثيرة للغثيان ص 55 بعد أن قابلت أحدهم وسألته من باب حب الاستطلاع فقال لي: (طلبتني السيدة وداد بابكر حرم السيد رئيس الجمهورية ذات يوم لأن لديها اعتقاد كبير في شيوخي. فذهبت لها ولم تكن تلك المرة الأولى، فطالما حدث ذلك كثيراً. وبعد السلام، قالت لي بصورة جادة يا شيخ ....... هل ممكن تشوف لي الشيوخ المُوقِفم طه للرئيس؟ قلت لها: طه منو؟ قالت لي: طه عثمان مدير مكتب الرئيس. قلت ليها، خير الحاصل شنو؟ قالت لي: الرئيس بيكون في أحسن حالاته مبسوط، من ما نتكلم في طه، أحواله طوالي بتتغير وبقول بزعل شديد ما في زول يتكلم في طه ده. لذلك نحن - أهل البيت – قلنا ده أكيد عمل عاملو ليه طه، وعايزاك تطلعه. قلت لها: خير إن شاء الله.
(11) الغريب في الأمر أن ظاهرة حرب الكواليس في ردهات قصر غردون استلفتت انتباه جنسيات أخرى، ناهيك عن أزلام السلطة أنفسهم، وكان ذلك قد ورد على لسان طه نفسه، وله فيها تفسير عجيب، قال لصحيفة اليوم التالي 19/1/2017: (أنا اسأل لماذا ينتقدون طه عثمان ولا ينتقدون غيره، هؤلاء كما ذكرت يستهدفون الرئيس.. سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي نفسه علق على الهجوم الذي تعرَّضت له، وقال إن تلك الحملة تستهدف حَمَل الخليجيين على عدم التعامل معي، مثلما تستهدف الإمارات نفسها) لم يكن الأمر كذلك، الذي حدث أن لغطاً كثيراً جرى في ردهات القصر عن أموال طه في الخليج وتحديداً الإمارات. أراد الرئيس المخلوع أن يمارس لعبة (الثلاثة ورقات) فكلف شخصاً اسمه أيمن المأمون المُكنى بلقب (ود المأمون) تبناه وتمدد في الدولة ثراءً فاحشاً، طلب المخلوع منه أن يبحث في مصارف الإمارات عن صحة ذلك، ومن سوء حظه كشفته السلطات واعترف بأن الرئيس المعزول كلفه بذلك ظناً منه بأنه سيحميه يوم لا ظلَّ إلا ظله. حمل رئيس جهاز المخابرات في الإمارات الملف وحضر للخرطوم وقابل المخلوع الذي أنكر تماماً أن يكون قد فعل ذلك، فكان ذلك كفيلاً برمي أيمن وراء الشمس في حكم مؤبد! تلك هي قصة الجنرال الثاني المتربص بالثورة من وراء الحدود، طه عثمان الحسين أو (أبو حرفين) كما كانت تطلق عليه عصبته استخفافاً وتندراً!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!