نزيف الشهداء .. والتطبيع مع الموت
د. حامد برقو عبدالرحمن
4 September, 2022
4 September, 2022
(1)
أيام تواجدي في أدغال إحدي دول غربي أفريقيا ؛ فقد أحد البدو إبنه الذي لم يبلغ التاسعة من العمر . و البدوي معروف عنه رباطة الجأش و قوة الشكيمة إلا ان والد الطفل الذي دفن إبنه الأكبر قبل عام فقط لم يحتمل فقدان الثاني. برغم ان بعض الأشلاء قد وجدت و دفنت حيث تأكد للناس بأنه قد أكله الذئب.
إلا ان البدوي قد دخل حالة الإنكار الناجمة عن الصدمة ، فطفق يبحث في كل مكان و يحث الاخرين على البحث . طلبت من الطاقم الذي كان معي ان نذهب للبحث عنه حول مكان اشتبه به. كان في شهر رمضان قائظ و المكان لايسمح بدخول السيارات ، سرت بالأقدام لبضع كيلومترات و ساعات فقط لأعزي نفسي بأنني قد فعلت ما بوسعي تجاه الرجل المكلوم و من ان أجل عيون طفل آخر يبعد عني آلاف الكيلومترات و يماثل الطفل المفقود في العمر !!
ثم عدت الي الرجل و قلت له من الشرع ان نكرم أجساد الموتى بالدفن ، لكن المهم ليس هو الجسد ، انما الروح ، و إن روح إبنه قد صعدت الي السماء و لم يأكلها الذئب و لن يفعل. لذا عليه ان ينسى البحث عن الجسد و يفكر في روح إبنه التي في السماء حتى تلحق بها أرواحنا جميعا ، ثم أنصرفنا دون ان يرى وجهي و يلتمس وقوداً لبكائه).
(2)
في السودان الوطن المليء بالدموع و الدماء و منذ ما قبل الإستقلال حتى تاريخ يومنا هذا مات الكثير من الخلق. صحيح ان البعض كانوا ضحايا المجاعات و الأمراض الناجمة عن الحروب التي شنها العسكر على المواطنين السودانيين. إلا ان معظم هؤلاء الضحايا قد غادروا هذه الدنيا بسبب القتل المباشر من قبل فئة نطلق عليها القوات المسلحة أو الجيش (الحكومي) السوداني.
مازالت ذاكرة الناس في السودان و جنوب السودان ترتجف لمشهد تدمير مدينة ياي بولاية الإستوائية الوسطى بمدفعية العسكر و مسحها و من عليها من الوجود . و حمم الأنتينوف التي تحرق قرى الآمنين في دارفور ، بل مشهد مقاتلات عمر البشير التي كانت تطارد أطفال جبال النوبة لتقطيع أوصالهم الغضة حتى داخل الكهوف التي كانوا يحاولون عبثاً الإحتماء بها. إنه التاريخ القهري للشعوب السودانية على يد ابنائهم العسكر المنشغلون اليوم بتجارة الغلال و الخضر و اللحوم و تهريب الذهب في الوقت الذي تقبع فيه مساحات شاسعة من الأرض السودانية تحت الإحتلال المصري و الأثيوبي.
(3)
بعد نجاح ثورة ديسمبر بإقتلاع البشير ظننا أننا على بعد أمتار من الشاطيء حيث يابسة دولة المواطنة لكن الواضح اننا في الحاجة للإبحار لبعض الوقت طالما العسكر مازالوا يؤمنون بأننا اعداء محاربين و لسنا مواطنين و مدنيين.
منذ مجزرة القيادة العامة تسكن جثامين شهداء الثورة من الذين لم يحالفهم الحظ في الغوص في مياه النيل أحياء كانوا أو أمواتاً في المشارح المتهالكة ببعض مستشفيات العاصمة الخرطوم لتمثل جريمة أخرى من جرائم العسكر الإنقلابيين اللصوص القتلة.
الإبقاء على جثامين الشهداء تحت تلك الظروف و لكل هذه المدة حتى يكتمل تحللها ثم الشروع في دفنها دون تصنيفها بالوسائل العلمية المتعارف عليها هو إمعان في الظلم قبل ان تكون محاولة بائسة لطمس آثار الجريمة.
الذي غاب عن الأغبياء و أعوانهم من وكلاء النيابة ؛ أن ما يحتفظون بها مجرد أجساد، رغم أنها تعود لأشخاص أكرمنا منا جميعا إلا ان أرواحها قد صعدت الي السماء.
طال الزمن أو قصر سيأتي اليوم الذي تنبش فيه قبور الشهداء و يقدم فيه الجناة للعدالة في ظل دولة مدنية ديمقراطية.
ذلك قبل ان يقف الضحايا و الجناة أمام من لا يظلم عنده أحد ، هنالك في يوم المحشر !!.
و هل يؤمن البرهان و حميدتي و علي كرتي بالمحشر ؟؟.
د. حامد برقو عبدالرحمن
NicePresident@hotmail.com
////////////////////////////
أيام تواجدي في أدغال إحدي دول غربي أفريقيا ؛ فقد أحد البدو إبنه الذي لم يبلغ التاسعة من العمر . و البدوي معروف عنه رباطة الجأش و قوة الشكيمة إلا ان والد الطفل الذي دفن إبنه الأكبر قبل عام فقط لم يحتمل فقدان الثاني. برغم ان بعض الأشلاء قد وجدت و دفنت حيث تأكد للناس بأنه قد أكله الذئب.
إلا ان البدوي قد دخل حالة الإنكار الناجمة عن الصدمة ، فطفق يبحث في كل مكان و يحث الاخرين على البحث . طلبت من الطاقم الذي كان معي ان نذهب للبحث عنه حول مكان اشتبه به. كان في شهر رمضان قائظ و المكان لايسمح بدخول السيارات ، سرت بالأقدام لبضع كيلومترات و ساعات فقط لأعزي نفسي بأنني قد فعلت ما بوسعي تجاه الرجل المكلوم و من ان أجل عيون طفل آخر يبعد عني آلاف الكيلومترات و يماثل الطفل المفقود في العمر !!
ثم عدت الي الرجل و قلت له من الشرع ان نكرم أجساد الموتى بالدفن ، لكن المهم ليس هو الجسد ، انما الروح ، و إن روح إبنه قد صعدت الي السماء و لم يأكلها الذئب و لن يفعل. لذا عليه ان ينسى البحث عن الجسد و يفكر في روح إبنه التي في السماء حتى تلحق بها أرواحنا جميعا ، ثم أنصرفنا دون ان يرى وجهي و يلتمس وقوداً لبكائه).
(2)
في السودان الوطن المليء بالدموع و الدماء و منذ ما قبل الإستقلال حتى تاريخ يومنا هذا مات الكثير من الخلق. صحيح ان البعض كانوا ضحايا المجاعات و الأمراض الناجمة عن الحروب التي شنها العسكر على المواطنين السودانيين. إلا ان معظم هؤلاء الضحايا قد غادروا هذه الدنيا بسبب القتل المباشر من قبل فئة نطلق عليها القوات المسلحة أو الجيش (الحكومي) السوداني.
مازالت ذاكرة الناس في السودان و جنوب السودان ترتجف لمشهد تدمير مدينة ياي بولاية الإستوائية الوسطى بمدفعية العسكر و مسحها و من عليها من الوجود . و حمم الأنتينوف التي تحرق قرى الآمنين في دارفور ، بل مشهد مقاتلات عمر البشير التي كانت تطارد أطفال جبال النوبة لتقطيع أوصالهم الغضة حتى داخل الكهوف التي كانوا يحاولون عبثاً الإحتماء بها. إنه التاريخ القهري للشعوب السودانية على يد ابنائهم العسكر المنشغلون اليوم بتجارة الغلال و الخضر و اللحوم و تهريب الذهب في الوقت الذي تقبع فيه مساحات شاسعة من الأرض السودانية تحت الإحتلال المصري و الأثيوبي.
(3)
بعد نجاح ثورة ديسمبر بإقتلاع البشير ظننا أننا على بعد أمتار من الشاطيء حيث يابسة دولة المواطنة لكن الواضح اننا في الحاجة للإبحار لبعض الوقت طالما العسكر مازالوا يؤمنون بأننا اعداء محاربين و لسنا مواطنين و مدنيين.
منذ مجزرة القيادة العامة تسكن جثامين شهداء الثورة من الذين لم يحالفهم الحظ في الغوص في مياه النيل أحياء كانوا أو أمواتاً في المشارح المتهالكة ببعض مستشفيات العاصمة الخرطوم لتمثل جريمة أخرى من جرائم العسكر الإنقلابيين اللصوص القتلة.
الإبقاء على جثامين الشهداء تحت تلك الظروف و لكل هذه المدة حتى يكتمل تحللها ثم الشروع في دفنها دون تصنيفها بالوسائل العلمية المتعارف عليها هو إمعان في الظلم قبل ان تكون محاولة بائسة لطمس آثار الجريمة.
الذي غاب عن الأغبياء و أعوانهم من وكلاء النيابة ؛ أن ما يحتفظون بها مجرد أجساد، رغم أنها تعود لأشخاص أكرمنا منا جميعا إلا ان أرواحها قد صعدت الي السماء.
طال الزمن أو قصر سيأتي اليوم الذي تنبش فيه قبور الشهداء و يقدم فيه الجناة للعدالة في ظل دولة مدنية ديمقراطية.
ذلك قبل ان يقف الضحايا و الجناة أمام من لا يظلم عنده أحد ، هنالك في يوم المحشر !!.
و هل يؤمن البرهان و حميدتي و علي كرتي بالمحشر ؟؟.
د. حامد برقو عبدالرحمن
NicePresident@hotmail.com
////////////////////////////