نساء من ذلك الزمان !

 


 

 

وترعرعت على الجرح
وما قلت لأمي
من الذي يجعلها في الليل خيمة
أنا ما ضيعت ينبوعي وعنواني
واسمي
ولذا أبصرت في أسمالها
مليون نجمة
محمود درويش
وسط الخواء الذي يحيط بنا والضياع الذي يعتصرنا نجد بلسما في العودة الى الوراء حتى تحت تأثير التخدير هروبا من مطر لا يهطل الا في عز الحريق ليجدد عذابات الأرصفة .. الرحيل الى استشراف آفاق أزمنة بعيدة يقف شاهدا بأن للسودان رجالا ونساءا كانوا يوزنون بالأصفر البراق تساموا الى السماء السابعة عزة وشموخا وبسالة كما يقول تأريخنا ..لكن الذي يسترعى الانتباه هنا ليس كوكبة من نساء احتلت مكانتها عن جدارة واستحقاق تحت المجهر فحسب بل خطفت الأضواء حتى من الرجال .
(2)
في حوار مع الروائي العالمي الطيب صالح عام 1988 عن أحب الأغنيات الى قلبه ولأنه كان رجلا ذواقا ملهما يحب الجمال كانت اجابته (طلعت القمرة )..شاعرة هذه الأغنية هي فاطمة بنت أحمد محمد نور من سكان قرية دباسى .وقد نظمت هذه الاغنية عقب الانتهاء من مراسم زواج ابن عمها الخير ود صالح الذي تم في قرية ود كرار احدى قرى الجزيرة . كانت المناسبة في أواخر النصف الأول من القرن العشرين .
(3)
في خمسينات القرن الماضي وفي احدى زيارات الفنانة الكبيرة عائشة الفلاتية وجدت الناس يرددون هذه الاغنية فأعجبت بها أيما اعجاب فتبنتها كما هو معروف وكان ذلك سببا في انتشارها وتغلغلها في الوجدان السوداني فأخذت تتغنى بها بصوتها الشجي وسرعان ما وجدت طريقها الى برنامج ربوع السودان وذاع صيتها
طلعت القمرا الخير ياعشاي تودينا لى أهلنا بسألوك مننا
غنت ليك البنية تمساح أب كبلو الضارب اللية
يبلع جب وجب لي خصيمو جد لي
غنت ليك البنات يا ضو القبيلة يا مقنع الكاشفات
يالدايرين تعرفو حاله
في الكرم ما فيش مثالو
يالعشمان لو انت جيتو
بمرق الزول من جنيتو
(4)
بدأت القصيدة ب(طلعت القمرة) وما تعنيه القمرة في ذلك الزمان في إزاحة عتمة الليل ووحشته ودورها في تجمع وسهر الناس على ضوئها في القرى والنجوع والتي منها قرية فداسي حيث لم تكن تعرف المصابيح الكهربائية .. بعد انقضاء الزواج الذي امتد لعدة أيام كأهل السودان في ذلك الزمان وعند تسلل القمر الى منتصف السماء أصاب فاطمة بت أحمد الحسين الحنين وتذكرت قريتها وطلبت من العريس الخير ( ضو القبيلة مقنع الكاشفات مدرج العاطلات) أن يأخذها وصويحباتها الى قريتهن بنفسه وألا يكلف شخصا آخر غيره فهو يمتلأ كبرياء وأنفة (في الديوان لافي شاله وفي الديوان شنق طاقيتو) وهو رجل شهم ذو خصال حميدة ومسئول عن سلامتهن أمام ذويهن وهو المأمون على (بنات فريقو ياعشاي يا سندي) أي يا سيدي وعضدي ومضت تقول أن البنات مجدن الخير بالأغاني التي حوت مآثره وصفاته الحميدة ليس هذا فحسب بل شبهته بالقضاء على خصومه ب(التمساح الضارب اللية) واللية هي انحناءة النهر حيث تختبيء التماسيح وتقوم بالانقضاض على الفريسة بسرعة البرق ( جب وجب ) في الوقت المناسب فهو اذن زعيم القوم وقائد الصفوف الفذ كثير العطاء ( يالدايرين تعرفو حالو في الكرم مافيش مثالو ) .
(5)
القصيدة لجمالها ومعانيها الضاربة في عمق التراث السوداني استقطبت أيضا الصحفي الراحل حسن ساتي فتربصت به وأقتحمته في البيت الأبيض حيث كان في مهمة صحفية لصحيفة الشرق الأوسط .. يقول حسن ساتي ( وقفت مذهولا أتأمل في المكتب البيضاوي .هنا المطبخ الذي تطبخ فيه أخطر قضايا الكون ..وعلى هذه المنضدة يوقع الرئيس الأمريكي على القرارات التي تهتز لها دول العالم ..وهناك شفرة اطلاق الصواريخ العابرة للقارات وهناك الحقيبة الالكترونية التي تحتوي على الأزرار التي يتم كبسها للهجوم الذري ) يقول (وبينما كنت في تهويماتي وأنا غريب ديار وغريب أهل في هذا المكان الموحش هاجت بي الذكريات وعادت بي الى القرية فبدأت أدندن فجأة الخير ياعشايا تودونا لي أهلنا يسألوك مننا ) .
(6)
أما الكاتب والمفكر الكبير المحبوب عبد السلام فيقول ان الشاعر صلاح أحمد إبراهيم زار لندن قبل وفاته بأيام لحضور محاضرة الطيب صالح عن المتنبي ..كان صلاح يكتم داءا قد برى جسده فأرتاع الطيب صالح للهزال الذي ذوى بجسد الشاعر لكنه اختار أن يبادره بما ينعش الروح مرحبا (يوم طلعت القمرا) .. يقول ضحك صلاح احمد إبراهيم ولكن سرعان ما استعاد المداعبة المرحبة والحزن يعتصره مستذكرا بقية الاغنية الجميلة (يسألوك مننا) وقال (فعلا سنسأل جميعا عن السودان ) .
(6)
تذكرني شاعرة القصيدة فاطمة بت أحمد الحسين بنساء ذلك الزمان فها هي الشاعرة بنونة بنت المك نمر ترثى أخاها عمارة وكان فارسا مغوارا لا يشق له غبار خاض المعارك وخبر ميادين القتال ولكن قدر الله له الموت على فراشه وكانت تمنى نفسها أن تشهده صريعا مجندلا في ميدان المعركة متوشحا دمائه حيث تقول في قصيدتها التي سارت ها الركبان
ما دايرا ليك الميتة أم رمادا شح
دايرك يوم لقا بدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحي على سيفو البسوى التح
قصيدة فيها ملامح مما قا له الصحابي الجليل خالد بن الوليد وهو على فراش الموت (لقد شهدت مائة زحف وما في بدني موضع شبر الا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي موت البعير فلا نامت أعين الجبناء !) .
(7)
وتنداح الفروسية الى تراث البجا فيتحدث الرواة عن محمود الفلج الذي تعتبر قصته من أشهر قصص البطولة والجلد والصبر فقد كان الرجل خبيرا في معرفة طرق المنطقة ودروبها ولأنه كان المرجع الذي لا يشق لع غبار في هذا المنحى فكثيرا ما كان يستعان به . تقول الرواية انه طلب منه ذات مرة أن يقود مسئولا انجليزيا الى منطقة وكان برفقة القافلة التي تحركت من سواكن عامل آخر يخدمهم ويتولى أمر الجمال ..ومع غروب الشمس في منطقة خلوية بالقرب من هيا أناخوا الجمال للاستجمام قليلا لمعاودة السير ليلا وكان محمود يرغب في المبيت لغرض خاص به ولكن المسئول الإنجليزي رفض عرض المبيت بشدة وعبثا حاول محمود اثنائه فقتله وهرب الى الجبال البعيدة فأشتد ممتاز باشا في طلبه وأمر عمدة قبيلته باحضاره والا يتحمل مسئولية القتل كاملة .
(7)
تم القبض على محمود وتم نقله مقيدا بالحديد الى سواكن للمحاكمة ..وأمام حشود من البشر اكتظت بهم الساحة ومنهم أسراب من النساء تتصدرهم والدته قرر الانجليز اهانته واذلاله أمام الملأ حينما وقفوا على اعتزازه وثباته وشجاعته فتفننوا في تعذيبه بغرس الابر في الأيدي بين اللحم والظفر حينا واجلاسه على سطح صفيح ساخن حينا آخر طلبا للاستسلام .. في بعض المشاهد ترجم له رجل طاعن في السن طلب الانجليز منه الجري أمام الحشود للهروب حتى يتم العفو عنه فقال وقتها (هديدين دورا ايدب أوسكن قلبا هيب) وترجمتها (كيف يحدثني عمي عن الجري وأنا لا أقوى حتى على السير) .
(
لكن الذي خطف الأضواء هنا والدته فلما شاهدته يتلوى ألما تحت سياط التعذيب لم تلطم الخدود ولم تشق الجيوب ولم تسرع الى سوق الصاغة لبيع حليها وذهبها لتدبير كلفة المحامي الذي سيدافع عنه بل سجلت حضورا مهيبا و شعرا لازالت أصدائه تتردد في الآفاق (أوتك أوميمشوا قالو افالا قودابا باشو كيتما ديتوك هنن أورون تكتييك ) وترجمتها (للرجل قبر واحد ولكن شهرته وسمعته واسعة دون حدود فان كنت ابني حقا فلا تجعلهم يشمتون بك . )
(9)
ماذا أصابنا يا ترى حتى يتم ضبط ومحاكمة 74 فنانا وفنانة مشهورات ب(القونات) بتهمة الغناء الهابط وافساد الذوق العام ؟ من ينقذنا من مستنقع (راجل المرة حلو حلاة ) و(دق الباب وجانا .. وأنا جريت له حفيانة .كنت فاكرو حبيبي ) و(ركبنيه عربيتو ..عرفني بي بته .. دا متزوج وأنا قبلتو
الحاج فوق الخمسين .. لكن يدفع الملايين
الحاج نزل المعاش .. ومتكي في كرسي الهزاز
لكن يدفع الكااااااااااش ). ؟ العياذ بالله .

oabuzinap@gmail.com

 

آراء