نيويورك.. مفاوضات اللحظة الأخيرة … بقلم: عادل الباز
من واشنطون لقاعة الصداقة بالخرطوم تعالى هتاف الانفصاليين. في جوبا يجري وضع اللمسات الأخيرة للنشيد القومي الجنوبي. الصحافة الجنوبية تواصل نداءاتها المستمرة لأجل الاستقلال. كل الدراسات والاستطلاعات ليس لها همّ سوى تأكيد ميلاد دولة جديدة. المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا قد شمّر ساعد الجد لاستقبال المولود الجديد. دول الجوار بدت أكثر وضوحا وهرولة نحو انفصال الجنوب أكثر من الجنوبيين أنفسهم.
لا أحد في الجنوب مستعد لسماع لحن الوحدة، بل إن الجريمة التي يعاقَب عليها بشكل قاطع في الجنوب الآن هي جريمة الوحدة!! إذا كنت وحدويا فأنت خائن للوطن!!. يمّم الرأي الجنوبي وجهه شطر الانفصال، أو الاستقلال كما يسمّونه.
في وسط هذه الأجواء المسمومة والمحمومة، يغادر شريكا نيفاشا لنيويورك. وفي تقديري إنها رحلة حاسمة، فإما أن يعود منها الشريكان ليعملا من أجل الوحدة سويا؛ وتبدو هذه الفرصة ضئيلة للغاية، أو أن يعودا بخارطة واضحة للسودان الجديد، وخاصة بعد ندوة سلفاكير بالأمس التي أعلن فيها أن الوحدة لم تعد خيارا للجنوبيين!!.
في وسط هذه الأجواء العاصفة يبقى المؤتمر الوطني وحده رافعا راية الوحدة، مقاتلا حتى النهاية لأجل وحدة تبدو مستحيلة. لابد من تحية خاصة للذين لم يعرفوا اليأس لإنجاز حلم الوحدة التي أصحبت عند الكثيرين وهما في الخيال. ولكن في الأيام الأخيرة التقيتُ بكثيرين من آل المؤتمر الوطني، ولاحظت أن نوعا من اليأس بدأ يدب في نفوسهم، بل أصابتهم حالة من «الزهج» جراء الجو المسموم الذي يلف البلاد، ففترت همتهم شيئا ما، والذين حضروا ندوة الأمس بقاعة الصداقة أحسّوا بذلك، فقد وقف المؤتمر الوطني بعيدا ولم يحشد عضويته لمؤازرة الوحدويين، فتعالت أصوات الانفصاليين.
رحلة أمريكا ستضع الحد الفاصل بين الأوهام والحقائق. المؤتمر الوطني سيذهب بعقل مفتوح، وبيده حزمة من الفرص التي يسعى لاستثمارها. على الطاولة سيضع المؤتمر الوطني أولا التزامه بإجراء الاستفتاء في ميعاده، وسيردّد هذه النغمة المحبوبة في واشنطون، ولابد له من إعادة عزفها بشكل جليٍّ يطمئن الإدارة الأمريكية.
ثانياً: سيضع المؤتمر الوطني بجانب هذا الالتزام القاطع على ذات الطاولة، ثلاث حزم: أولها العقوبات المفروضة على السودان منذ ميلاد الإنقاذ إلى يوم الناس هذا. بجانبها مسألة الجنائية، وهذه حزمة تأخذ أولوية قصوى في هذه الآونة التي تتحرك فيها المحكمة الدولية بشكل محموم، بحيث أصبح السيد أوكامبو سفيرا سياسيا متجوّلا (يعني ماخده مقاولة وطالع ليها مداعي) منذ زمن وحتى أمس في ندوة واشنطون التي عقدها مع النائب الأول لرئيس الجمهورية!!.
الحزمة الأخيرة تتعلق بدارفور والدعم الأمريكي المطلوب لطي ملفها نهائيا، وهذا ما يفسّر وجود الأستاذ أمين حسن عمر ضمن الوفد المغادر لنيويورك. هذه الملفات ستوضع أمام أوباما دون أن تبدو كشروط لإجراء الاستفتاء، فليس من الحكمة أن تبدو هكذا. واشنطون تفهم أو قل تتفهم أنه ليس سهلا أن يترك المؤتمر الوطني الجنوب يمضي هكذا في حال سبيله دون أن يحصد شيئا في المقابل. قبل أيام قالت وزيرة الخارجية كلينتون إن على الجنوب أن يسعى لتسوية مع الشمال؛ إذ ليس سهلا أن تجد فجأة أن ثمانين في المائة من مواردك قد ذهبت دون تعويض!!. واشنطون براغماتية تفهم أصول السياسة، ولهذا ستتفهم وجود هذه الحزم غير المترابطة جنبا إلى جنب!!. واشنطون تبدو مستعدة للتفاهم، فآخر ما ترغب فيه هو أن تنشأ الدولة الجديدة وسط عواصف وحروب تؤدي بها إلى الفشل الذي ستدفع ثمنه في النهاية أمريكا سواء أكان ذلك بالمعونات والأسلحة، أو جر تلك الدولة الفاشلة لأرجل الإرهابيين الي الإقليم المضطرب. باركت واشنطون استراتيجية الحكومة الجديدة الخاصة بدارفور، ثم دفعت بمقترح حول ديون السودان، يقضي بأن تترك جلّها في رقبة الدولة الجديدة التي ستحظى بتعاطف عالمي، مما يتيح فرصة واسعة لإلغاء هذه الديون كلية. على العموم بعد هذه الزيارة لنيويورك ستشهد البلاد حراكا من نوع مختلف، فإما سارت الأمور في اتجاه التهدئة وأصبح الجو صحيا لإجراء استفتاء حر ونزيه، أو عصفت بها الأنواء كما لم تعصف بها من قبل. ربنا يجيب عواقب هذه الرحلة سليمة.