هذا هو دستورهم الحقيقي
بابكر فيصل بابكر
11 June, 2021
11 June, 2021
يدور حاليا جدل كبير حول مفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان بعد أن تضمن إعلان المبادئ الموقع بين الجانبين مبدأ فصل الدين عن الدولة، وتقود جماعة الإخوان المسلمين حملة إعلامية شاملة تحاول تصوير الخطوة بأنها حرب على الله ورسوله والمؤمنين.
من المعلوم أن خطاب الجماعة يتسم بانفصام واضح بحيث أن مواقفها المعلنة تجاه العديد من القضايا والمفاهيم تتناقض مع المواقف الحقيقية المضمرة، وتعكس هذه الازدواجية أحد وجوه المأزق الفكري العميق للإخوان، وتتجلى تلك العقيدة بصورة واضحة في موقف الجماعة من قضية الدستور.
في اتفاقية نيفاشا قبلت الجماعة دستور سنة 2005 الذي أسس لدولة مدنية تستمد فيها الحقوق والواجبات من المواطنة وليس الدين، ويبدو أن ذلك القبول لم يكن يعكس الموقف المبدئي المضمر للإخوان, حيث مورست على حكومتهم ضغوطا كبيرة من المجتمع الدولي وكان وضعهم الداخلي مأزوما جدا جراء استمرار الحرب لذا انحنوا للعاصفة وأبدوا موافقة على ما تضمنه ذلك الدستور.
أما الدستور الحقيقي الذي يعكس أفكارهم ومنطلقاتهم المبدئية فقد تقدمت به جهة تسمى "جبهة الدستور الإسلامي" وهي جبهة تشارك في عضويتها الإخوان والسلفيين وكان نائب رئيسها مرشد جماعة الإخوان التي تتبع للتنظيم الدولي، صادق عبد الله عبد الماجد، كما كان من عضويتها عدد آخر من قيادات الجماعة من بينهم الأستاذ عبد الله حسن أحمد أحد كبار مساعدي الدكتور حسن الترابي.
قامت الجبهة بنشر ما أسمته "مشروع دستور دولة السودان"، وقالت إنه "مجهود مبارك بإذن الله وثمرة يانعة طيبة دانية للشاكرين من أهل الأبصار والبصائر وأهل التقى والورع من أهل السودان عكفت على إعدادها مجموعة من حملة الهم ومن أهل العلم. طوال أشهر ثمانية أو تزيد تبوِّب أبوابها وتضع فصولها وتحكم صياغتها وتجود اعدادها."
لم تبيِّن الجبهة إن كان من بين "أهل العلم" الذين ساهموا في كتابة هذا الدستور فقهاء في "القانون الدستوري" أم لا، لأنَّ المشروع يخالف أحوال الزمان الذي نعيشه وروح المفاهيم الحديثة، والأبجديات التي تقوم عليها الدساتير المعاصرة. ولأن كتابة الدستور تحتاج لخبراء متخصصين وليس "لأهل العلم" من حفظة نصوص كتب القرون الوسطى وفقه السلف الذي لا يعرف حتى معنى كلمة دستور.
يحتوي المشروع على العديد من المصطلحات والمفاهيم التي لا تمت للعصر الذي نعيشه بصلة، فضلاً عن الغموض والالتباس الذي يعتري الكثير منها. ومن ذلك ما قال به حول "دار الإسلام"، و"الأمة الإسلامية"، و"الحاكمية"، و"الولاء والبراء". كما أنه ناقض الكثير من المفاهيم المرتبطة بالدولة الوطنية الحديثة وعلى رأسها مفهوم المواطنة، ودين الدولة، وغيرها.
يقول مشروع الدستور في "الدولة والمبادئ الموجهة" عن طبيعة الدولة وهويتها: (السودان دولة إسلامية موحدة ذات سيادة على جميع الأقاليم الواقعة تحت حدودها، وتجري عليها أحكام دار الإسلام).
من المعلوم أن مصطلح "دار الإسلام"، ومقابله "دار الحرب" مصطلحان أفرزهما الفقه الإسلامي قبل عدة قرون في ظرف تاريخي كان يستدعي هذا التقسيم ولا وجود له في عالم اليوم، وفي ظل العلاقات الدولية المتشابكة وارتباط الشعوب ببعضها البعض وتبادل المنافع وانتقال المسلمين إلى بلاد الغرب ودخول كثير من الغربيين في الإسلام حتى أصبحت بلاد الغرب زاخرة بملايين المسلمين. ولا يخفى على القارئ أن أكثر خطاب التنظيمات المتطرفة يبني أفعاله على الفقه المتولد من هذا المصطلح ويقول مشروع الدستور عن دين الدولة: الإسلام دين الدولة عقيدة وشريعة ومنهاج حياة"
من المعلوم بداهة أنه لا يمكن أن يكون للدولة دين فهي كيان اعتباري ومؤسسة سياسية بالأساس ولا تمتلك أن تعتقد في أي دين أو تمارس شعائره ولن يبعثها الله يوم القيامة ليحاسبها على أعمالها وكل ما ينسب للدولة من مواقف وأفعال - كما يقول عبد الله النعيم - هو على سبيل المجاز لا الحقيقة لأن من يقرر ويفعل ويترك هم البشر القائمون على شؤون الدولة.
فيما يلي انتماء الدولة يشير مشروع الدستور إلى أن "دولة السودان جزء من الأمة الإسلامية وتتمتع بعضوية الكيانات الإقليمية والدولية" وهنا أيضا يستدعي المشروع مفهوماً مثيراً للجدل وهو مفهوم "الأمة الإسلامية" الذي يتعارض في كثير من جوانبه مع مفهوم الدولة الحديثة. فهو مفهوم "عقدي/سياسي" يثير العديد من الإشكالات المرتبطة بالدعوة الأممية والمواطنة ويتضمن أيضا عدم الاعتراف بحدود ثابتة فحدود الدولة متحركة تمتد مع تمدد المسلمين في أرجاء العالم، وهذا أحد الإشكالات التي تتفرع عن مفهوم الأمة وتضاد مفهوم الدولة الحديثة.
يقول المشروع في الحاكمية والسيادة: "الحاكمية لله الكبير المتعال، والسيادة للشرع الحنيف، والسلطان للأمة" إن مفهوم "حاكمية الله" يعتبر من أخطر المفاهيم، وأكثرها التباسا ،وتمويها وغموضا. هو خطير لأنه بتعميمه الشديد ومعياريته المطلقة يفتح الباب لاستخدام اسم الله وسلطانه بشكل تعسفي واعتباطي. وهو مفهوم لم يرد في القرآن ولا سند له في السنة. وكان أول ما ظهر في الفقه السياسي الإسلامي أبان خلاف الإمام على مع الخوارج في قضية التحكيم عندما قالوا: "لا حكم الا لله"، وأدرك الإمام خطورة هذه المقولة عندما رد عليهم بالقول: " كلمة حق يراد بها باطل". وقد ذاع المفهوم حديثا على يد الداعية الهندي أبو الأعلى المودودي ثم التقطه سيد قطب وبنى عليه نظريته حول جاهلية المجتمعات الإسلامية والتي تطورت عنها أفكار التكفير والعنف والقتل وإراقة الدماء التي تبنتها الحركات الجهادية.
أما فيما يختص بمبادئ السياسة الخارجية فإن المشروع يقول: "تضبُط عقيدة الولاء والبراء الدولة في علاقاتها الخارجية"
الولاء بحسب فهم كتبة مشروع الدستور – يعني حب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين ونصرتهم، والبراء هو بغض من خالف الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين، من الكافرين والمشركين والمنافقين والمبتدعين والفساق، وأصحاب المذاهب الهدامة (والعلمانيين عند البعض)
من الواضح أن كتبة المشروع نقلوا المصطلح من حيز التعامل بين البشر إلى حيز التعامل في العلاقات الدولية وهذه كارثة حقيقية لأن ما يترتب على هذا الفهم سيجعل الدولة تعيش في عزلة مؤكدة خصوصا وأن مجتمع الدول يتكون من دول أغلبها من "المشركين و الكفار"، وهؤلاء تترتب عليهم الكثير من أحكام البراء ومنها عدم الإقامة في بلادهم، وعدم السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، وعدم اتخاذهم - أي الكفار والمشركين – بطانة ومستشارين، وعدم التأريخ بتاريخهم خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي. بخصوص الحقوق والواجبات في الدولة فإن مشروع الدستور يقول بوضوح لا لبس فيه: "ترعى الدولة الحقوق والواجبات وتضبط بأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتمد مبدأ العدالة لا مطلق المساواة" هذا النص يوضح بجلاء أن المواطنين غير متساوون في الحقوق والواجبات وأن الإسلام هو شرط المواطنة الكاملة، وهو فضلاً عن مخالفته لكل مواثيق وعهود حقوق الإنسان الدولية والدساتير الحديثة، فإنه يخالف العديد من الاجتهادات الإسلامية المعاصرة التي قال بها مفكرون إسلاميون مثل الإمام الصادق المهدي والدكتور محمد سليم العوا وغيرهم.
يتجاهل النص حقيقة موجودة على الأرض وهي أن سكان السودان - حتى بعد انفصال الجنوب - ليسوا جميعا مسلمين، فهناك مسيحيين أقباط وهناك مسيحيين وإحيائيين في جبال النوبة والنيل الأزرق. ولا تكفي الحجة التي يسوقها أصحاب مشروع الدستور عن أن هؤلاء أقلية لأن موضوع الأكثرية والأقلية لا ينطبق على فكرة الحقوق في الدولة الحديثة والتي تقتضي المساواة بين جميع المواطنين مهما كان عددهم، وكذلك فإنه يترتب على فكرة المواطنة المنقوصة نقصاً في الحقوق وهو ما أورده مشروع الدستور في شروط أهلية الترشح لرئاسة الجمهورية والولاية العامة
يقول المشروع عن أهلية الرئيس: "يكون أهلاً لرئاسة الدولة كل سوداني توفرت فيه الشروط الآتية: العدالة الجامعة والضابطة لأحكامها وهى أن يكون: مسلما، ذكرا، عاقلا، بالغا من العمر أربعين سنة، مستقيما في دينه وسلوكه" ويعكس النص أعلاه اغترابا كبيرا تجاه مفهوم الدولة الوطنية الحديثة رغم أنه مفهوم ثابت ومستقر في الفكر والخبرة الإنسانية منذ أكثر من ثلاثة قرون، وهو بجعله الإسلام والذكورة شرطان لأهلية الترشح لرئاسة الدولة إنما يحرم المرأة وغير المسلم من هذا الحق وينسف من الأساس مفهوم المواطنة الذي يعني المساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق
ولا يكتفي مشروع الدستور بحرمان المرأة وغير المسلم من الترشح لرئاسة الجمهورية، بل يحرمهما كذلك من الترشح لمنصب حكام الأقاليم (الولاة) حيث ينص على أنه: " يشترط فيمن يرشح لمنصب الوالي ذات شروط أهلية المرشح لرئاسة الدولة" كذلك لا يسمح مشروع الدستور للمرأة بتولي سلطة القضاء حيث ينص في بند شروط خدمة القضاة على أن: "تختار الدولة للقضاء أصلح المؤهلين له من الرجال".
لا شك أن نصوص مشروع الدستور الإخواني مفارقة لأحوال العصر الذي نعيشه ولا تفي بمتطلبات دولة العدالة والمساواة التي ينشدها أهل السودان، كما أنها تعكس موقف الجماعة الأصيل الذي يتوارى خلف الكثير من الشعارات البراقة والادعاءات الجوفاء.
من المعلوم أن خطاب الجماعة يتسم بانفصام واضح بحيث أن مواقفها المعلنة تجاه العديد من القضايا والمفاهيم تتناقض مع المواقف الحقيقية المضمرة، وتعكس هذه الازدواجية أحد وجوه المأزق الفكري العميق للإخوان، وتتجلى تلك العقيدة بصورة واضحة في موقف الجماعة من قضية الدستور.
في اتفاقية نيفاشا قبلت الجماعة دستور سنة 2005 الذي أسس لدولة مدنية تستمد فيها الحقوق والواجبات من المواطنة وليس الدين، ويبدو أن ذلك القبول لم يكن يعكس الموقف المبدئي المضمر للإخوان, حيث مورست على حكومتهم ضغوطا كبيرة من المجتمع الدولي وكان وضعهم الداخلي مأزوما جدا جراء استمرار الحرب لذا انحنوا للعاصفة وأبدوا موافقة على ما تضمنه ذلك الدستور.
أما الدستور الحقيقي الذي يعكس أفكارهم ومنطلقاتهم المبدئية فقد تقدمت به جهة تسمى "جبهة الدستور الإسلامي" وهي جبهة تشارك في عضويتها الإخوان والسلفيين وكان نائب رئيسها مرشد جماعة الإخوان التي تتبع للتنظيم الدولي، صادق عبد الله عبد الماجد، كما كان من عضويتها عدد آخر من قيادات الجماعة من بينهم الأستاذ عبد الله حسن أحمد أحد كبار مساعدي الدكتور حسن الترابي.
قامت الجبهة بنشر ما أسمته "مشروع دستور دولة السودان"، وقالت إنه "مجهود مبارك بإذن الله وثمرة يانعة طيبة دانية للشاكرين من أهل الأبصار والبصائر وأهل التقى والورع من أهل السودان عكفت على إعدادها مجموعة من حملة الهم ومن أهل العلم. طوال أشهر ثمانية أو تزيد تبوِّب أبوابها وتضع فصولها وتحكم صياغتها وتجود اعدادها."
لم تبيِّن الجبهة إن كان من بين "أهل العلم" الذين ساهموا في كتابة هذا الدستور فقهاء في "القانون الدستوري" أم لا، لأنَّ المشروع يخالف أحوال الزمان الذي نعيشه وروح المفاهيم الحديثة، والأبجديات التي تقوم عليها الدساتير المعاصرة. ولأن كتابة الدستور تحتاج لخبراء متخصصين وليس "لأهل العلم" من حفظة نصوص كتب القرون الوسطى وفقه السلف الذي لا يعرف حتى معنى كلمة دستور.
يحتوي المشروع على العديد من المصطلحات والمفاهيم التي لا تمت للعصر الذي نعيشه بصلة، فضلاً عن الغموض والالتباس الذي يعتري الكثير منها. ومن ذلك ما قال به حول "دار الإسلام"، و"الأمة الإسلامية"، و"الحاكمية"، و"الولاء والبراء". كما أنه ناقض الكثير من المفاهيم المرتبطة بالدولة الوطنية الحديثة وعلى رأسها مفهوم المواطنة، ودين الدولة، وغيرها.
يقول مشروع الدستور في "الدولة والمبادئ الموجهة" عن طبيعة الدولة وهويتها: (السودان دولة إسلامية موحدة ذات سيادة على جميع الأقاليم الواقعة تحت حدودها، وتجري عليها أحكام دار الإسلام).
من المعلوم أن مصطلح "دار الإسلام"، ومقابله "دار الحرب" مصطلحان أفرزهما الفقه الإسلامي قبل عدة قرون في ظرف تاريخي كان يستدعي هذا التقسيم ولا وجود له في عالم اليوم، وفي ظل العلاقات الدولية المتشابكة وارتباط الشعوب ببعضها البعض وتبادل المنافع وانتقال المسلمين إلى بلاد الغرب ودخول كثير من الغربيين في الإسلام حتى أصبحت بلاد الغرب زاخرة بملايين المسلمين. ولا يخفى على القارئ أن أكثر خطاب التنظيمات المتطرفة يبني أفعاله على الفقه المتولد من هذا المصطلح ويقول مشروع الدستور عن دين الدولة: الإسلام دين الدولة عقيدة وشريعة ومنهاج حياة"
من المعلوم بداهة أنه لا يمكن أن يكون للدولة دين فهي كيان اعتباري ومؤسسة سياسية بالأساس ولا تمتلك أن تعتقد في أي دين أو تمارس شعائره ولن يبعثها الله يوم القيامة ليحاسبها على أعمالها وكل ما ينسب للدولة من مواقف وأفعال - كما يقول عبد الله النعيم - هو على سبيل المجاز لا الحقيقة لأن من يقرر ويفعل ويترك هم البشر القائمون على شؤون الدولة.
فيما يلي انتماء الدولة يشير مشروع الدستور إلى أن "دولة السودان جزء من الأمة الإسلامية وتتمتع بعضوية الكيانات الإقليمية والدولية" وهنا أيضا يستدعي المشروع مفهوماً مثيراً للجدل وهو مفهوم "الأمة الإسلامية" الذي يتعارض في كثير من جوانبه مع مفهوم الدولة الحديثة. فهو مفهوم "عقدي/سياسي" يثير العديد من الإشكالات المرتبطة بالدعوة الأممية والمواطنة ويتضمن أيضا عدم الاعتراف بحدود ثابتة فحدود الدولة متحركة تمتد مع تمدد المسلمين في أرجاء العالم، وهذا أحد الإشكالات التي تتفرع عن مفهوم الأمة وتضاد مفهوم الدولة الحديثة.
يقول المشروع في الحاكمية والسيادة: "الحاكمية لله الكبير المتعال، والسيادة للشرع الحنيف، والسلطان للأمة" إن مفهوم "حاكمية الله" يعتبر من أخطر المفاهيم، وأكثرها التباسا ،وتمويها وغموضا. هو خطير لأنه بتعميمه الشديد ومعياريته المطلقة يفتح الباب لاستخدام اسم الله وسلطانه بشكل تعسفي واعتباطي. وهو مفهوم لم يرد في القرآن ولا سند له في السنة. وكان أول ما ظهر في الفقه السياسي الإسلامي أبان خلاف الإمام على مع الخوارج في قضية التحكيم عندما قالوا: "لا حكم الا لله"، وأدرك الإمام خطورة هذه المقولة عندما رد عليهم بالقول: " كلمة حق يراد بها باطل". وقد ذاع المفهوم حديثا على يد الداعية الهندي أبو الأعلى المودودي ثم التقطه سيد قطب وبنى عليه نظريته حول جاهلية المجتمعات الإسلامية والتي تطورت عنها أفكار التكفير والعنف والقتل وإراقة الدماء التي تبنتها الحركات الجهادية.
أما فيما يختص بمبادئ السياسة الخارجية فإن المشروع يقول: "تضبُط عقيدة الولاء والبراء الدولة في علاقاتها الخارجية"
الولاء بحسب فهم كتبة مشروع الدستور – يعني حب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين ونصرتهم، والبراء هو بغض من خالف الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين، من الكافرين والمشركين والمنافقين والمبتدعين والفساق، وأصحاب المذاهب الهدامة (والعلمانيين عند البعض)
من الواضح أن كتبة المشروع نقلوا المصطلح من حيز التعامل بين البشر إلى حيز التعامل في العلاقات الدولية وهذه كارثة حقيقية لأن ما يترتب على هذا الفهم سيجعل الدولة تعيش في عزلة مؤكدة خصوصا وأن مجتمع الدول يتكون من دول أغلبها من "المشركين و الكفار"، وهؤلاء تترتب عليهم الكثير من أحكام البراء ومنها عدم الإقامة في بلادهم، وعدم السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، وعدم اتخاذهم - أي الكفار والمشركين – بطانة ومستشارين، وعدم التأريخ بتاريخهم خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي. بخصوص الحقوق والواجبات في الدولة فإن مشروع الدستور يقول بوضوح لا لبس فيه: "ترعى الدولة الحقوق والواجبات وتضبط بأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتمد مبدأ العدالة لا مطلق المساواة" هذا النص يوضح بجلاء أن المواطنين غير متساوون في الحقوق والواجبات وأن الإسلام هو شرط المواطنة الكاملة، وهو فضلاً عن مخالفته لكل مواثيق وعهود حقوق الإنسان الدولية والدساتير الحديثة، فإنه يخالف العديد من الاجتهادات الإسلامية المعاصرة التي قال بها مفكرون إسلاميون مثل الإمام الصادق المهدي والدكتور محمد سليم العوا وغيرهم.
يتجاهل النص حقيقة موجودة على الأرض وهي أن سكان السودان - حتى بعد انفصال الجنوب - ليسوا جميعا مسلمين، فهناك مسيحيين أقباط وهناك مسيحيين وإحيائيين في جبال النوبة والنيل الأزرق. ولا تكفي الحجة التي يسوقها أصحاب مشروع الدستور عن أن هؤلاء أقلية لأن موضوع الأكثرية والأقلية لا ينطبق على فكرة الحقوق في الدولة الحديثة والتي تقتضي المساواة بين جميع المواطنين مهما كان عددهم، وكذلك فإنه يترتب على فكرة المواطنة المنقوصة نقصاً في الحقوق وهو ما أورده مشروع الدستور في شروط أهلية الترشح لرئاسة الجمهورية والولاية العامة
يقول المشروع عن أهلية الرئيس: "يكون أهلاً لرئاسة الدولة كل سوداني توفرت فيه الشروط الآتية: العدالة الجامعة والضابطة لأحكامها وهى أن يكون: مسلما، ذكرا، عاقلا، بالغا من العمر أربعين سنة، مستقيما في دينه وسلوكه" ويعكس النص أعلاه اغترابا كبيرا تجاه مفهوم الدولة الوطنية الحديثة رغم أنه مفهوم ثابت ومستقر في الفكر والخبرة الإنسانية منذ أكثر من ثلاثة قرون، وهو بجعله الإسلام والذكورة شرطان لأهلية الترشح لرئاسة الدولة إنما يحرم المرأة وغير المسلم من هذا الحق وينسف من الأساس مفهوم المواطنة الذي يعني المساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق
ولا يكتفي مشروع الدستور بحرمان المرأة وغير المسلم من الترشح لرئاسة الجمهورية، بل يحرمهما كذلك من الترشح لمنصب حكام الأقاليم (الولاة) حيث ينص على أنه: " يشترط فيمن يرشح لمنصب الوالي ذات شروط أهلية المرشح لرئاسة الدولة" كذلك لا يسمح مشروع الدستور للمرأة بتولي سلطة القضاء حيث ينص في بند شروط خدمة القضاة على أن: "تختار الدولة للقضاء أصلح المؤهلين له من الرجال".
لا شك أن نصوص مشروع الدستور الإخواني مفارقة لأحوال العصر الذي نعيشه ولا تفي بمتطلبات دولة العدالة والمساواة التي ينشدها أهل السودان، كما أنها تعكس موقف الجماعة الأصيل الذي يتوارى خلف الكثير من الشعارات البراقة والادعاءات الجوفاء.