هذه دولة النهر…أين دولة الغرب؟

 


 

 

تتعدد المسميات والمشروع واحد والدولة واحدة – النهر، مثلث حمدي، ست وخمسين – ومشروع هذه الدولة هو إبادة السكان الذين لا يشبهون سكانها، فالدولة النهرية مذ قامت اقترنت حياتها بموت وافناء الآخر المختلف، كما عاشت على إبادة الجنوبيين لخمسة عقود، والغرّابة لثلاثة عقود، فالحرب الأخيرة شنتها نفس الدولة النهرية على جميع مكونات السودان الاجتماعية، وبالأخص الغربية، لرعبها من عودة عجلة التاريخ وتولي هؤلاء (الشتات) المغضوب عليهم زمام الأمر، فمثلما كانت تستغل المغفلين من المهمشين في اطراف البلاد البعيدة، ضد المقهورين من مكونات نفس الجهات، عادت لتمارس ذات الهواية، واليوم كما أعاد التاريخ نفسه، كذلك أعاد مؤسسوها دور سلفهم غير الصالح، الذي قدم على متن الباخرة التي قادها الغزاة، وروّاد مدرستها من المنظرين لم يخفوا اجندتهم الصريحة لمشروعهم الانفصالي، ومن باب المشروعية فإنّ لكل مجموعة سكانية الحق في تقرير مصيرها، بناء على الأعراف الدولية لاستحقاق هذا الحق، ولكن المدهش في الأمر أن الجهات الأخرى من السودان، التي مارست عليها السلطة المختطفة لقرار الدولة والموالية لمشروع النهر، كل أنواع القهر المادي والمعنوي، ضرباً بالطيران وحرماناً من الحقوق المدنية، نرى هذه الكيانات الغربية لا تبدي أي خطوة عملية للوصول لجغرافيا الدولة النهرية المزعومة، للفت انتباهها لحتمية تكبدها الخسائر المماثلة للخسائر التي دفعت ثمنها المجتمعات الغربية، فطالما أن مشروع النهر يستهدف حيوات سكان الغرب، لا مناص من أن يكون التعامل بالمثل، ولو لم يقم القائمون على أمر المجتمعات المحررة من قبضة النظام البائد الداعم للدولة النهرية، بالدور الفعّال المخرس لأصوات القنابل الساقطة من الطائرات المحملة بأسباب الموت، سيظل الغرب محرقة للإبادة المستمرة.
إنّ الجرائم المرتكبة بحق سكان الغرب يجب أن تكون دافعاً لإنشاء دولة، مشروعها لا يستجدي حلاب بقرة الوحدة المقدسة، فلا مقدس غير روح الإنسان، تذهب الوحدة الزائفة ويبقى رفاه الشعوب، لو كان جنوب السودان يعلم ما يذخر به من انسان وأرض، لما قضى نصف قرن في مقارعة أقلية دولة النهر، وواحدة من الابتزازات التي تمارسها النخبة النهرية، استغلال الرغبة الجارفة لسكان الغرب للالتصاق والالتحاق بدولتهم، التي لا تقر بحق الغرّابة في الحياة، فلو استدرك سكان الغرب هذه الحقيقة المجردة، دونما طوباوية زائفة أو دنيا زائلة، لاختصروا الطريق المؤدية لخلاصهم من الاستعمار الداخلي الممتد لسبعين عاما، فالتمسك بالوحدة من طرف واحد يشبه الى حد بعيد الحب من طرف واحد، ولنا تجربة حديثة لم يجف حبرها أثبتت جدوى العيش المتجاور في محبة ووئام، من دون التواجد تحت سقف حجرة واحدة مملوءة بالكراهية والتباغض، وهي تجربة اتفاقية السلام الشامل التي أفرزت انفصال جنوب (الوطن الحبيب)، فهب أن الجنوبيين ما زالوا يقاتلون من أجل وحدة هم الوحيدون الذين يؤمنون بها، من المؤكد أن نسلهم سيفنى في سبيل الركض خلف الوهم والزيف الكبيرين، وذات المنطق يتماشى مع حالة الحرب العنصرية القائمة الآن، المندلعة لذات الأسباب التي دفعت قرنق وبولاد وكوة لأن ينتفضوا ويعلنوا عن حقهم في الدولة والحياة الكريمة والمواطنة، ولا جدوى من التماهي مع أداء دور النبل والطهر الذي يفتقر إليه دعاة تأسيس الدولة النهرية، فعمر الحروب البينية التي شهدها السودان منذ ما قبل (الاستغلال)، تساوي المدد الزمنية التي نهضت فيها الصين وماليزيا، فعلى السودانيين أن يفيقوا من الحلم الرومانسي الجميل الذي رسمه روّاد مدرسة الغابة والصحراء.
كما حدّد منظرو دولة النهر حدودها، على الراغبين في تأسيس دولة الغرب أن يجعلوا عاصمتها أم درمان، وحدودها الشمالية تخوم شندي، والشرقية حدود كسلا، على أن تضم القضارف والبطانة وشرق النيل، والجزيرة والنيلين الأزرق والأبيض، وكردفان ودارفور، وأي رأي مخالف لهذا الطرح سيكون مكانه طاولة التفاوض، هذا مع قناعتي التامة ببداية تخلق دولة بشرق السودان قد تسبق تأسيس الدولتين، وهي ليست جزءًا من دولة النهر، لأسباب معلومة ظهرت قمة جبل جليدها في تجاذبات بورتسودان، وطالما أن النهريين قد ابتدعوا مشروع النهر، فإنّ للبحر حيتان تأبى ان تسبح مع تيار (تماسيح النهر)، وهكذا يكون حقن الدماء السائلة منذ صبح يوم الاستنزاف (الاستغلال)، ولا بواكي على عبادة البقرة المقدسة، إنّ مشروع دولة الغرب قائم على تجانس كل المكونات السودانية، ما عدا النهريين، الذين كانوا وما يزالون يمثلون خميرة فوران براكين الغضب لدى الكيانات الاجتماعية السودانية، فالفرز لا يولد إلّا فرز آخر مضاد يأتي من الجماعات التي مورس بحقها الاقصاء والتمييز، فيأتي التمييز المناوئ، الذي لن تقوى المضادات الأرضية على اسقاطه، فالحالة السودانية فريدة في نوعها، ولن تجد تماثل لها في التجارب الإنسانية، مهما حاولنا صناعة توليفة لمقارنة قضيتنا الوطنية بقضايا بلدان مثل جنوب افريقيا ورواندا والهند، وهذا التفرد يفرض وجود تنظير حداثي مختلف عن كل الرؤى التقليدية، المطروحة على موائد جميع المؤتمرات التي انعقدت في الماضي بهذا الخصوص.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء