هل أضاعتها نخب المساومات مثلما أضاعت سابقاتها ؟! (6/7): انتصار قوى الهبوط الناعم والمأزق الراهن

 


 

 

 

 

(51)
في الجزء الخامس من هذا المقال؛ ناقشنا انعكاس أزمة النخبة السودانية؛ السالب على تكوين وسياسات وقرارات سلطة الانتقال الحالية؛ ورأينا جميعا كيف اتخذت حزمة من القرارات المصيرية؛ في غياب المجلس التشريعي؛ وكيف مكنت المكون العسكري من اختطاف إرادة الشعب في قضايا بالغة الحساسية؛ كقضية الحرب والسلام مع الجارة اثيوبيا؛ وقضية التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني؛ والعديد من القضايا الاقتصادية الهامة الأخرى؛ كتعويم سعر الجنيه؛ ورفع أسعار السلع الاستراتيجية؛ قبولا وانصياعا لشروط وروشتة صندوق النقد والبنك الدولي؛ فإن لم يكن كل هذا التهريج؛ خيانة للثورة ولأهدافها؛ ولدماء شهدائها فما هي الخيانة إذا يا صاح؟؟. أن الذين يتصدرون مجالس السلطة اليوم؛ ويحاولون فرض قناعاتهم الفكرية المرفوضة من الشعب؛ بسياسة الأمر الواقع؛ لا يدرون بأن القوى الثورية بعد مضي عامان على الثورة؛ قد اكتسبت فكر وسلوك ثوري أفضل؛ سيقودها في المستقبل القريب؛ لوضع أسس نهج ثوري سوداني جديد؛ بعيدا كل البعد؛ عن نهج التآمر والخيانة وطموحات النخبة الانتهازية الخائبة.
(52)
أن ثورة 19 ديسمبر المجيدة بتداعياتها التي تلاحقت عقب انهيار النظام البائد تمضي في طريق اثبات صحة مقولة القائد الشيوعي فلاديمير لينين (بأن لا ثورة دون نظرية ثورية) والمقصود بالنظرية هنا وعي الواقع، أي وعي تكوينه (طبقاته وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية)، ووعي التناقضات المتعددة فيه، وبالتالي الدور الذي يلعبه التنظيم الثوري؛ في تحقيق التراكم في وعي ونشاط الطبقات؛ ذات المصلحة في التغيير الحقيقي؛ الذي هو جزء منها لكي تخوض هي الصراع الطبقي. وأيضاً الوعي بالصيرورة التي تحكمه، والقيام بتحديد التكتيكات؛ والسياسات الضرورية في جميع مراحله؛ التي تفضي إلى التقدم في الصراع إلى الأمام على طريق حسمه. ومن الضروري الوعي بالعالم المحيط، ومدى الترابط الذي يحكم الواقع المحلي به، ووعي التناقضات الدولية، وطبيعة صراع المحاور العالمية. هذا هو الواقع بكل تعقيداته الذي يجب أن نعيه لكي تنشأ إمكانية تغييره، مع أهمية الوعي أيضا بالآليات الملائمة للوصول لهذا الهدف.
(53)
المأزق الراهن الذي يضع ثورة 19 ديسمبر في مهب الريح؛ هو أن سلطة الانتقال التي افرزتها الثورة؛ قد أعتلى صهوتها نخب إصلاحية غير ثورية؛ استطاعت مرحليا اقصاء النخبة الثورية؛ وتخدير الجماهير بأطروحات ودعاوي ناعمة؛ سرعان ما بدأت تتهاوى ولم تصمد امام معول الواقع؛ الذي يحتاج التعامل معه إلى الوعي والالمام بما اوردنا في الفقرة السابقة؛ أي ضرورة وجود نظرية ثورية تضبط مسار الحراك الثوري؛ وتمضي به قدما نحو انجاز المهام الثورية العاجلة. هذا المأزق الوجودي يستدعي استعادة كافة القوى الحية؛ ذات المصلحة في التغيير وعلى رأسها الحزب الشيوعي؛ ولجأن المقاومة؛ بأسرع ما يمكن لنشاطها والعودة للشارع وسط الجماهير؛ لتحجيم دور قوى الإصلاح واجهاض مخططاتها الرامية لإفراغ الثورة من مضمونها؛ وربط مستقبل الدولة السودانية؛ بمحاور إقليمية ودولية لا تؤمن بالتعاون البناء؛ ولا تحترم استقلالية وسيادة الدول.
(54)
لقد انتصرت قوى الهبوط الناعم الإصلاحية؛ وتصدرت المشهد مرحليا؛ لكن لا يزال الشارع السوداني يؤمن بأن شرارة الثورة مازالت حية؛ وهو على استعداد لحمايتها والتضحية من جديد لاستكمال مهامها؛ وتحقيق أهدافها وشعاراتها؛ وهذا ما يؤرق منام قوى الهبوط الناعم المتسلطة اليوم؛ ويدفعها لتقديم التنازلات المهينة للمكون العسكري؛ على أمل دعمها في وجه أي موجة ثورية قادمة. إن شعب السودان بذكائه الثوري المعهود؛ يعلم أن النقطة الحاسمة في استقرار الأوضاع المشوشة والمرتبكة حاليا في البلاد، هي في تولي السلطة قوى سياسية ثورية؛ قادرة على فرض سيطرتها على المكون العسكري؛ بإسناد ودعم من الشارع الذي بات على قناعة؛ من أن رجالات السلطة الحالية أقصر قامة؛ من مواجهة العسكر وإخراج السودان من المستنقع الاستخباراتي الإقليمي، الذي وقع فيه نتيجة تسرع ورعونة وجشع بعض قوى الهبوط الناعم.
(55)
الأزمة المعيشية المتفاقمة المطبقة على انفاس المواطن دون آفاق حل؛ رغم دخول الثورة عامها الثالث؛ قد كشفت أن لا فرق بين السياسات الاقتصادية للنظام البائد وسياسات سلطة حمدوك الحالية؛ فكلاهما يكرع من مستنقع اقتصاد السوق، الذي افقر الشعب السوداني حد العوز؛ وهو صاحب الموارد البشرية والطبيعية المهولة؛ لقد قاد اقتصاد السوق النظام البائد للارتزاق بدماء أبنائه؛ ولرهن إرادة الوطن وسيادته؛ بيد دويلات تأسست بعد عقود من نيل السودان لاستقلاله؛ وأدت هذه السياسة المتوحشة لسحق المزيد من الشرائح والطبقات الفقيرة؛ وتفتيت الطبقة الوسطى عماد تماسك المجتمعات؛ فتشرد افرادها في اصقاع الدنيا طلبا للرزق والأمان؛ ثم أنها قد كانت سبب رئيسي ضمن أسباب أخرى؛ في ثورة الشعب وتمرده في 19 ديسمبر 2018م؛ فباي منطق تصر سلطة حمدوك التي اوجدتها الثورة؛ على الاستمرار في تنفيذها ؟
(56)
دون إزاحة السلطة الحالية التي ثبت أنها؛ تعبر عن مصالح الرأسمالية الطفيلية وتعمل على تحقيق المصالح الاجنبية، وتحول دون التغيير الجذري، سيسرع الوطن الخطى نحو التفتيت والفوضى، فإضافة للازمة الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة دون أفق حل؛ فهناك العديد من الأسباب التي يمكن ان تقود البلاد الى هذا المصير المجهول؛ فالخرطوم العاصمة القومية قد أصبحت تعج بوجود ثمان "جيوش" افرادها يعانون الجهل؛ والامية وضعف التأهيل؛ وليس لهم عقيدة قتالية؛ فهي مليشيات متنافرة وعصب تكوينها قبلي عنصري؛ فيها مجموعات لا علاقة لها بالسودان كوطن ولا بجنسيته؛ قد تم استجلابهم من صحارى دول الجوار في تشاد والنيجر وليبيا ومالي وموريتانيا؛ كل هذه الفوضى والمؤسسة العسكرية الوطنية؛ في أسوء واضعف حالاتها؛ والقوى الأمنية والشرطية هجرت مهامها الوظيفية؛ وتفرغت لمساندة مؤامرات فلول النظام البائد الحالمة بالعودة من جديد للسلطة.
(57)
انصياع السلطة الانتقالية لإملاءات النظام الدولي ممثلا في صندوق النقد والبنك الدولي؛ والإصرار المريب على المضي في هذا الطريق المجرب؛ رغم العلم بعواقبه الوخيمة على الوطن والمواطن؛ يطرح علامتي استفهام وتعجب كبيرتين ؛ فقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص المطروح للنقاش؛ أمام مجلس وزراء السلطة الانتقالية؛ يبدو حلقة في مسلسل هذا الانصياع المخجل للمخططات الدولية؛ الهادفة لتصفية الثورة السودانية؛ ونسف شعاراتها الداعية لإعادة الاعتبار للقطاع العام؛ فلمصلحة من يريد رجالات السلطة الانتقالية العودة لسياسة خصخصة القطاع العام عبر قانون الشراكة بين القطاعين؟. أنه لعمري هو ذر الرماد في العيون تمهيدا لعودة النشاط الطفيلي من جديد؛ عبر هذا القانون وغيره من قوانين يتم صكها بليل؛ وهو ما يقطع لسان كل من يحاول أن يدافع عن مكونات سلطة الانتقال الحالية؛ التي في انتهاجها لهذا المنهاج تنسف كل مكتسبات ثورة 19 ديسمبر المجيدة وتعطي الفرصة لعودة فلول النظام الطفيلي من جديد.

(58)
لا أعتقد أن ثمة مخرج من المأزق الحالي؛ إلا بتصحيح مسار ثورة 19 ديسمبر المجيدة؛ والرجوع لمنصة التأسيس الأولى وإعطاء الخبز لخبازه؛ إن عودة قوى الثورة الحية لصدارة المشهد وهزيمة مشروع الهبوط الناعم؛ هو الخطوة الأولى المطلوبة لبداية التصحيح. فقوى الهبوط الناعم التي اختطفت السلطة؛ لم تقدم لهذا الوطن سوى مجموعة من المتسلقين؛ ضعاف القدرات؛ وفاقدي الإحساس بهموم الشعب واوجاعه. إن عملية تصحيح المسار الثوري عملية معقدة؛ بحاجة لكوادر ثورية قوية وعنيدة؛ تتحلى بالصبر والجلد والقدرة؛ على مواجهة مؤامرات فلول النظام البائد ومخططات قوى الشر الدولية والإقليمية؛ كما تحتاج لنخبة لا تعوزها الموهبة على استنهاض الجماهير من جديد؛ وانتشالها من هوة اليأس الذي قادتها إليه قوى الهبوط الناعم؛ بمشروعها السياسي وبسياساتها الاقتصادية الرعناء.
(59)
خطوات استنهاض الإرادة الشعبية تبدأ؛ برفض اي محاولات لتكريس سياسة الامر الواقع؛ والوقوف بحزم في وجه تغول المكون العسكري على عمل مؤسسات الدولة المدنية؛ – السيادية والتنفيذية والتشريعية -؛ وعدم الاعتراف باي قرارات يتخذها؛ أو اتفاقيات يعقدها منفردا؛ بمعزل عن تلك المؤسسات -الحاضر منها والمغيب -؛ كما أن كافة القوى الوطنية مطالبة اليوم؛ بالضغط بقوة في اتجاه قيام المجلس التشريعي والوقوف بحسم ضد اجراء اي تسوية سياسية محتملة مع بقايا وفلول النظام البائد.
(60)
الطريق لتنفيذ هذه الإجراءات التي ستقود للمخرج المطلوب؛ تبدو عصية في ظل وجود مكون مدني ضعيف؛ ومرتهن بيد المكون العسكري؛ الذي يتجاهل حقيقة ان هذه السلطة انتقالية وغير منتخبة؛ ولم يفوضها أحد على اتخاذ أي قرارات مصيرية تمس مصالح الشعب وسيادته الوطنية. ضبط تصرفات المكون العسكري أولوية قصوى؛ لان في مواصلته الوقوف ضد إرادة الشعب ؛ إهانة بالغة لثورة ولشهدائها الاماجد؛ فبلامس القريب تداولات الصحف والقنوات الفضائية خبر الاتصالات التي تتم، لترتيب زيارة بعثة أمنية سودانية إلى إسرائيل؛ بعد أن صادقت "السلطة الانتقالية"–كما تناقلت الاخبار- على إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل لعام 1958م، ولا أظن ان هناك استفزاز للشعب وخيانة لثورته ابلغ من أن وإن حدث هذا بالفعل؛ تكون السلطة بمكوناتها المدنية والعسكرية؛ قد ارتكبت خيانة وطنية؛ وذلك بإلغائها لقانون سنته حكومة منتخبة؛ وأجازه برلمان منتخب.
يتبع

tai2008idris@gmail.com

 

آراء