واحد من أسماء الله الحسنى التى ندعوه بها هى الستّار ، وهذا الإسم على وزن فعّال وهو من صيغ المبالغة وذلك لأن الله يستر ويستر ويستر ويستر ولا يمل ولا يفتر من الستر. هذا الإسم العظيم تنعكس بركاته فيضا على مجتمع المسلمين فيميلوا للستر ميلا متخلقين بأخلاق الله الذى هو على خلق أعظم. ولكن لعنة الله على الأهواء والعادات العمياء فقد أفسدت علينا ديننا و أدخلت فى هذا الدين ما ليس منه. فقد كنا وما زلنا نمارس جريمة الختان الفرعونى تحت مسمى مصطلح إسلامى وباب من أكبر أبواب الفقه هو باب " الطهارة ". نعم سميناها طهارة ولم يسمها الله تعالى كذلك ! وكيف يسمى الله تعالى الجريمة طهارة وهو الذى يريد أن يطهر مجتمع المسلمين من الجريمة عامة ومن جرائم فرعون خاصة ؟! وعلى كونها "طهارة" صدقنا أنها من الدين وهى ليست من الدين فى شئ لا من قريب ولا من بعيد. وكذلك قلبنا "تربص" التى مات عنها زوجها لمراقبة رحمها حفظا للأنساب والحقوق قلبناه "حبسا"!! والذى يتذوق اللغة يشعر بخفة كلمة "تربص" وثقل كلمة "حبس" والفرق بين الإثنين شاسع ففى الأولى تستمر الحياة عادية مع شئ من المراقبة لموضع الحمل وفى الثانية تتوقف الحياة كليا لمراقبة الموضع نفسه ! وأضفنا إلى هذا الحبس الذى ما أنزل الله به من سلطان ثوما وليمونا وكثير من البهارات ففرضنا عليها لباس معين وطريقة جلوس معينة وأن تستقبل الحائط ...إلى آخر الخرافات !!. وهكذا تستمر رمال الجهل والخرافات تزحف نحو الدين رويدا رويدا لتدفن الدين حيا وأهله ينظرون.
ومن نفس المدخل دخل علينا مفهوم التشهير فى تنفيذ الحدود ، ودخلت معه كثير من الخرافات والسخافات لمجتمع المسلمين. ومن المسؤول يا جماعة ؟ نحن المسؤولين عن هذا. نعم ، نحن –ذكورا وإناثا- الذين فتحنا بابا لريح الجهل لتعصف بنا وبعقولنا وتهوى بنا فى مكان سحيق ، لأننا لا نقرأ ولا نسأل ولا نكتب ولا نفهم ولا نتعمق إذا حدث أن قرأنا.
هل أمرت الشريعة بالتشهير؟؟؟ سؤال يحتاج لإجابة قاطعة.
والإجابة حسب فهم العامة للإسلام تأتى بنعم. أما الفهم العلمى الدقيق للإسلام فيجيب بلا وألف لا ومليون لا.! وهل أمرنا الله تعالى أن نأخذ ديننا من العامة أم أمرنا أن نأخذه من أهل العلم؟ ألم يأمرنا الله تعالى بتدبر القرآن جماعات وفرادى؟ ألم يأمرنا الله تعالى بتعلم القرآن وتعليمه؟ ألم يقل رسول الله (ص): "من أراد الله به خيرا يفقه فى الدين" ؟. إذن فاليذهب فهم العامة إلى المزبلة العامة ويبقى ما ينفع الناس! وما ينفع الناس لا يتم ولا يبقى إلا بالتدبر والتأمل فى كلام الله تعالى تأملا عميقا ليس للعامة له من سبيل . يقول الشيخ متولى الشعراوى وهو من أهل العلم : " بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم." ووفقا لهذا المنهج سنقوم بفحص الكلمات والتدقيق فى معانيها وقراءة السياق فى إطار مقاصد الشريعة وروحها السمحة.
والتشّهير (السيئ) فى اللغة كما يقول صاحب لسان العرب: هو ظهور الشئ فى شنعة للناس. ورجل شَهِير ومشهور: معروف المكان مذكور إما بخير أو بشر. وقال الجوهري: والشّهرة وُضُوح الأَمر (خيرا كان أو شرا) ، وقال ابن الأَعرابي: والشهرة الفضيحة ويقصد الشهرة السيئة. وفى الحقيقة تكون الشهرة بالخير والشر معا، فقد شهّر الله تعالى بأخلاق رسوله الكريم قائلا : " وإنّك على خلق عظيم" ومنّ عليه بقوله : " ورفعنا لك ذكرك" وهذا تشهيّر بخير. وفى المقابل شّهر بأبى لهب قائلا : "تبت يدا أبى لهب وتب ....الخ" وهذا تشّهير وفضيحة لأبى لهب.
وإذا رجعنا للقرآن الكريم نتتبع فيه ورود كلمة " تشّهير" فلن نجد لها أثرا فى القرآن الكريم مطلقا. ولقد ذكر القرآن كلمة "الشّهر" ويريد بها خروج الهلال فى أول أيامه ، وسمى الشّهر شّهرا لإشتهاره بين الناس كما يقول أهل اللغة. أما غير هذه فلا وجود لمادة (شّهر يشهر تشّهيرا) فى هذا الكتاب النبيل. وكذلك لا وجود لهذه المادة فى سنة رسول الله (ص) إلا فى إشهار الزواج الذى هو من شهرة بالخير. فلم يرد حديثا واحدا أمر فيه رسول الله (ص) الناس بأن يشهّروا بأحد من الناس بمعنى أن يفضحوه ، بل ورد عنه عكس ذلك تماما فى الحديث المشهور : " من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة". والحق يقال أن كلمة "تشّهير" وردت فى قليل من كتب التفسير –وليس كلها- فى معرض تفسير الآية. والذين ذكروها أراد بها بعضهم الإخجال وأراد البعض الآخر الفضيحة فى نطاق محدود. فمن الذين أرادوا بها الفضيحة فى نطاق محدود الإمامالشوكانى. فقد قال فى تفسير قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: "أي: ليحضره زيادة في التنكيل بهما، وشيوع العار عليهما، وإشهار فضيحتهما...ألخ" . ومن الذين أرادوا بها الإخجال الإمام الزمخشرى وذلك فى قوله : ". وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل." فهو إستخدم كلمة التشهير والإفضاح وأراد بهما الإخجال وذلك لأنّ التشهيّر يكون على أوسع نطاق ولكل الناس مؤمنهم وكافرهم ومحسنهم وفاجرهم ، والقصد منه فى الأصل التشنيع وإشانة السمعة. أما الإخجال فيمكن أن يتم فى أضيق نطاق وهو مقصود للتربية وهو واضح من كلامه : "والفاسق بين صلحاء قومه أخجل." وقال الإمام السلمى فى حقائق التفسير : " قوله تعالى وتقدس: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال أبو بكر بن طاهر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع." ونقول: ومن لا يستحق التأديب يكون أزهد الناس فى التشهير وأكثر الناس نفورا منه ، وأمام هؤلاء الصلحاء تعاد صياغة النفوس الماردة . وعلى كل ، فالذين إستخدموا كلمة تشهير فى تفسير الآية هم قلة من المفسرين وقطعا لم يقصدوا بها التشّهير أمام حشد كبير من الناس لا تنطبق عليه كلمة طائفة ولا المواصفات الشرعية للطائفة فيما سنرى . وكذلك لا يقصد هؤلاء المفسرون من التشّهير التشنيّع والتشفى كما بدر لذهن العامة ورسخ فى مفهومهم. وفوق كل ذلك ، لا يمكن أن يقبل هؤلاء المفسرون وهم أهل علم وصلاح وغيرة أن يفضح المسلم أمام جميع المؤمنين فضلا أن يفضح أمام كل العالم لذنب جناه على جهل وضعف وهو مؤمن. فهذا لم يعد تشّهيرا وإنّما هو قتل عمد والقتل العمد أرحم وأخف !.
وهكذا نعلم أن التشهير بمعنى العمل والسعى لفضيحة الجانى على أوسع نطاق ليس له أصل فى الإسلام لأنّه لا وجود له فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله الكريم ولا فى إجماع علماء المسلمين، وهو ببساطة عمل من الشيطان ليصد به عن دين الله . أما الذى له أصل فى الكتاب والسنة والإجماع هو الإشهاد. والإشهاد ليس هو التشّهير ولا يلتقى مع التشّهير لا فى أصل الكلمة ولا فى المعنى ولا فى الهدف. والإشهاد جاء كنوع من المراقبة الشعبية على الأفعال الحكومية للتأكد من قيام العقاب وفقا للشريعة وليس لمعرفة من المعاقب ولأى أسرة ينتمى وفى أى حىّ يسكن ! بمعنى أن الإشهاد فرض كرقابة على المعاقب (بكسر القاف) وعلى المعاقب (بفتح القاف) على السواء. وفى هذا المعنى يقول سيّد قطب فى الظلال : " أمر (الله) أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقاً لإقامة الحد وحذراً من التساهل فيه ، فإنّ الإخفاء ذريعة للإنساء، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود." وطالما أن الهدف الأول من الإشهاد هو المراقبة الشعبية عن طريق التمثيل الشعبى (وهم طائفة من المؤمنين) لتنفيذ الأمر الإلهى فيجوز للقاضى أن يسمح للرجل بأن يغطى وجهه وللمرأة بأن تغطى وجهها إذا أعلانا توبتهما أمامه وتعهدا بعدم الرجوع للمعصية مرة أخرى. فالتوبة عند القاضى لا تسقط العقوبة ولكنها خطوة إلى الأمام تجعل القاضى يجتهد فى التخفيف على الجانى فى فرعيات العقاب لا فى أساسياته مثل عدد الجلدات الحدية. فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى القاضى ، فقد وجب العقاب ، ولا رأفة في تنفيذ القانون. فالذى يحكم عليه بالسجن يجب أن يسجن ، والذى يحكم عليه بالجلد يجب أن يجلد ، والذى يحكم عليه بالغرامة يجب أن تأخذ منه ، وهكذا يجب أن تنفذ كل الأحكام بلا رأفة وإلا ستكون فتنة لأنّ ما يأمر به الله هو الحقُّ فالواجب مقابلته بالسمع والطاعة وذلك من تمام الإيمان. فالذى يجب أن يشيع بين الناس ويشتهر هو خبر العقاب وتنفيذ الحدود وليس صورة و إسم المعاقب وإسم أسرته ومكان سكنه وعمله!!. وكما قال صاحب لسان العرب : "الأَمْرُ بالشهادة أَمْرُ تأْديب وإِرْشادٍ " وليس أمر فضيحة وتشفى .
وحتى يترسخ الفرق بين مفهوم الإشهاد والتشّهير نرجع لمعاجم اللغة نستشيرها فى مادة (شهد ، يشهد إشهادا وهو شاهد وشهيد وشهود). يقول صاحب مقاييس اللغة فى مادة "شهد" : "الشين والهاء والدال" أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الذي ذكرناه" وعند التفصيل نجد أنّ كلمة "شهد" تعنى أربعة أشياء:
1- العلم : (فقولك أشهد ألا إله إلا الله) أى أعلم ألا إله إلا الله. ومن أَسماء الله عز وجل: الشهيد وهو الذي لا يَغيب عن عِلْمه شيء من العلوم الظاهرة أما العلوم الخفية فهو الخبير. وظلال الكلمة تعطيك إحساس بالقرب والإحاطة. وقوله عز وجل: شهد الله أَنه لا إِله إِلا هو؛ قال أَبو عبيدة: معنى شهد الله قضى الله أَنه لا إِله إِلا هو، وحقيقته عَلِمَ اللهُ وبَيَّنَ اللهُ لأَن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه، فالله قد دل على ألوهيته وربوبيته بجميع ما خَلَق، فبيَّن أَنه لا يقدر أَحد أَن يُنْشِئَ شيئاً واحداً مما أَنشأ فهو الإله والرب.
2- التبيان والإعلام :وشهد الشاهِدُ عند القاضى أَي بيّن ما يعلمه للقاضى وأعلمه وأظهر ما عنده من حقائق.
3- المعاينة : هل شهدت الشهر فجر هذا اليوم؟
4- الحضور : شهد فلان عقد زواج فلان . أى كان حاضرا لحظة العقد.
وفى الحقيقة إنّ كلمة "يشهد" التى وردت فى الآية تجمع كل هذه المعانى التى ذكرها أهل اللغة. فهى تعنى أن تحضر الطائفة المؤمنة الصالحة فى مكان العقاب لتعاين عقاب الجانى وتعلم جنايته التى جناها وهذا هو عقابها بالفعل كما قررته الشريعة وأن الضوابط المطلوبة قد أخذ بها ، ومن ثمّ تبين وتعلمعامة الناس بتنفيذ العقوبة فتشيع بين الناس هيبة القانون. وبتحليل هذه الكلمة البسيطة نعلم أنّ الأمر يدور حول العقوبة وليس حول المعاقب ، وذلك لأنّ الله أمر بستر الناس فى نفس الوقت الذى أمر فيه بعدم التهاون والرأفة فى إنزال العقوبة على الجناة. وفى الحقيقة الذى يخيف الناس عقوبة وصرامة الدولة فى تنفيذ القانون وليس معرفة إسم الجانى وقد يعرفه الناس وقد لا يعرفونه. والفتاة المجلودة لا يعرفها معظم الناس وحتى لو قابلوها فى الشارع الآن لن ينتبه لها معظم الناس إلا القليل ممن لهم نصيب وافر فى الملاحظة ومعرفة الوجوه وتذكرها ، ولكن الذى عرف الآن هو أنّ الدولة تعاقب كل من إرتكب جريمة الزنا أو أخلّ بالأدب علنا. فالعقوبة رسخت فى عقول الناس أكثر من صورة الفتاة وإسمها ، وهذا الرسوخ بهيبة القانون يؤيد ما ذهبنا إليه من أنّ الإشهاد فرض ليساعد فى فرض هيبة القانون ومنع الدولة من التجاوز وليس من أجل التشهير بالجانى.
وهكذا نرى أن الأمر بالشهادة فى كل الأحوال التى طلبت فيها كما قال صاحب لسان العرب هو " أَمْرُ تأْديب وإِرْشادٍ ". وقال الإمام إبن عجيبة : "وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة." أما التشهير هو إفتضاح على نطاق واسع وهو تنفير و بالتالى عكس عملية التأديب والإرشاد. والمفضوح قد يتمادى فى المعصية بسبب اليأس لأنّه لم يعد خائفا من شيء. ولا يمكن أن يعقل أن يكون هدف الشريعة هو الوصول بالجناة لمرحلة اليأس ودفعهم للمجاهرة والعناد ومزيد من المعصية والجريمة ضد المجتمع، فهذا ليس من الحكمة فى شئ والله عليم حكيم. فالفرق شاسع أيها الإعزاء بين الإشهاد والتشهير. الإشهاد يقود للإخجال على نطاق ضيق من أجل تليين النفس لقبول النصيحة من صلحاء القوم ، أما التشهير يعنى قفل باب التوبة أمام نفس سكنت فيها كلمة التوحيد ولكن الشهوات تسلطت عليها فغلبتها فأصبحت أحوج للرحمة من الفظاظة والغلظة ، قال رسول الله فى حق سكران شتم : "لا تعينوا الشيطان على أخيكم". وفى هذا المعنى روى ابن أبي حاتم قائلا : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بقية قال: سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال: ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعو الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة ". وقال الإمام السلمى : " قال أبو عثمان: فى هذه الآية أولئك طائفة يصلحون لمشاهدة ذلك المشهد بصحة إيمانهم، وتمام شفقتهم ورأفتهم، ورحمتهم ورؤية نعم الله حيث عافاهم مما ابتلى غيرهم، ولا يعيرون المبتلى لعلمهم بجريان المقدور، ولا يشهد ذلك المشهد سفهاء من الناسومن لا يعرف موضع النعمة فى الدفع." ويقول الشيخ محمد متولى الشعراوى:" وما وُضِعَتْ الحدود حباً في تعذيب الناس، إنما وُضِعت وشُدِّد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد،". ويقول الإمام القشيرى :" ثم من حقِّ الذين يشهدون ذلك الموضعَ أن يتذكروا عظيمَ نعمةِ الله عليهم أنهم لم يفعلوا مِثْله، وكيف عَصَمَهم من ذلك. وإن جرى منهم شيءٌ من ذلك يذكروا عظيمَ نعَمةِ الله عليهم؛ كيف سَتَرَ عليهم ولم يفضحهم، ولم يُقِمْهم في الموضع الذي أقام فيه هذا المُبْتَلَى به وسبيلُ من يشهد ذلك الموضعَ ألا يُعَيِّرَ صاحبَه بذلك،وألا ينسى حُكْمَ الله تعالى في إقدامه على جُرْمِه."
يا له من فهم راق متقدم!!
من منا كان يظن أن يسمع مثل هذا القول فى هذا الموضع؟! من منا كان يعلم أنّ الإشهاد من أجل الدعاء للجناة وليس من أجل الإغلاظ عليهم ؟! ومن منا كان يعلم أنّ العقاب هو من أجل الكفارة لا حبا فى التعذيب ؟! ومن منا كان يعلم أنّ شهود العقاب هو لأهل الصلاح والرحمة فقط وليس لسواهم من سفهاء القوم وعامتهم ؟! وهذا الفهم المتقدك الراقى هو حجة قاطعة فى منع الجلد فى الميادين العامة لأنّها تلم بالضرورة الغث والسمين ، والصالح والطالح ، والمؤمن والمشرك ، وقد أمر الله بالسمين دون الغث وأمر بالمؤمنين دون المشركين ، وأمر بالصالحين دون الطالحين. فإذن يجب أن يتم إختيار الشهود بعناية من طرف القضاء أو مدير مركز الشرطة كما أمر بذلك الله تعالى عندما قيد حال الشهود بكلمة "المؤمنين" ، فليس كل شخص مسموح له بأن يشهد العقاب كما هو واضح بيّن من نص الآية وكلام الفقهاء والمفسرين وهذا إجماع نقل وعقل.
هل الأمر بالشهود واجب أم مندوب؟
يقول الشيخ طنطاوى فى تفسيره المسمى بالوسيط فى تفسير القرآن الكريم :" وقوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بيان لما يجب على الحكّام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهماللاستحباب لا للوجوب." وقال سيّد قطب فى الظلال : "وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد. وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية، ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي. ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزىء من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك. وأيَّاً مَّا كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به (أى يجبر عليه) من له بالمحدود (الجانى) مزيد صلة ( أسرية أو صداقة ) يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه." وقال الشيخ إسماعيل حقى فى تفسيره روح البيان : " وظاهر الامر الوجوب لكن الفقهاء قالوا بالاستحباب." وقال الشيخ محمد بن يوسف إطفيش : " { وليشهد } يحضر وجوبا، وهو الصحيح لظاهر الأمر، وهو الواقع من الصحابة، ولأنه أشد على من زنى وأردع ، وليشهر الحكم، وقيل ندبا " . ولقد ذكر هذه الحقيقة كثير من العلماء غير هؤلاء وليس من الحكمة التطويل بذكر كل أقوالهم . والمهم فى هذه الأقوال أنها تفتح مجالا للإجتهاد لجعل الإشهاد مندوبا عندما يستقيم المجتمع وواجبا عندما يتفلت . وإذا كان الإشهاد مندوبا فى حد منصوص عليه فى القرآن الكريم كيف جعل واجبا فى حدود لم يشترط فيها الإشهاد أصلا؟؟؟؟؟ أرأيتم كيف نقلب الأمور ونشقلبها ؟!! من الذى قال إن المحدود فى الخمر يجب أن يشهد عقابه طائفة من المؤمنين؟ ومن الذى قال إن المحدود فى القتل العمد يجب أن يحضر إعدامه طائفة من المؤمنين؟ ومن الذى قال إن المحدود فى الردة (إذا كان للردة حد) أن يحضر قتله طائفة من المؤمنين؟ من أين جئنا يا إخوة وأخوات بهذه التشريعات؟؟
ما معنى قوله تعالى: "طائفة من المؤمنين" ؟
قال الشيخ الصابونى فى تفسير آيات الأحكام : " الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف، وهو الدَّوران والإحاطة وقد تطلق في اللغة ويراد بها الواحد أو الجماعة" ولقد اختلف أهل التفسير وأهل اللغة فـي مبلغ عدد الطائفة التي أمرها الله بشهود العقاب فقال بعضهم:
- أقله واحدوبذلك قال مجاهد وحماد وإبراهيم النخعى والطبرى وإبن كثير وحجتهم أنّ الله تعالى قال: { وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِـحُوا بَـيْنَهُما } وقد أنزلها فى رجلـين إقتتلا وكل رجل طائفة.
- ومنع الزجاج أن تكون الطائفة واحداً، لأن معناها معنى الجماعة، ولا تكون الجماعة لأقل من اثنين ، وبذلك قال عكرمة وقد نظر إليها موضع شهادة عادية.
- وقال آخرون منهم الإمام الزهرى: أقلّ ذلك ثلاثةفصاعداً لأنّ الثلاثة هى أقلّ الجمع. ولقد ذكر الشيخ الطوسى فى تفسيره المسمى بالتبيان الجامع لعلوم القرآن أنّ الجبائي قال : " من زعم ان الطائفة اقل من ثلاثة فقد غلط من جهة اللغة، ومن جهة المراد بالآية، من احتياطه بالشهادة."
- وقال آخرون منهم ابن أبى زيد: بل أقلّ ذلك أربعةلأنها هى الطائفة التـي يجب بها الـحدّ. فالأربعة إذا قياساً على الشهادة على الزنى وهو قول مالك والليث والشافعيّ.
- وقيل هم نفرمن المؤمنين يختارهم القاضى، وهذا قول قتادة . وقال الجنابذى وهو من أئمة الشيعة فى تفسيره المسمى ببيان السعادة فى مقامات العبادة : "{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } اى جماعة اقلّها الثّلاثة وقيل: اقلّها الواحد، وقيل: اقلّها ههنا اربعة لانّ اقلّ ما يثبت به الزّنا شهادة الاربعة، وقيل: منوط عددهم برأى الامام (أى بإختياره)." وقال الشيخ الطبرسى : " وقيل: ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأي الإمام والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم إذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار." وقال سيّد قطب فى تفسير كلمة طائفة هى الجماعة من الناس " اختلف في ضبط عددها هنا. والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة."
مادة "طافَ" فى قواميس اللغة:
يقول أهل اللغة : " الطاء والواو والفاء أصلٌ واحدٌ صحيحٌ يدلُّ على دَوَران الشيء على الشيء وأن يُحفَّ به". والطائف هو الحائِطُ المُطيفُ بالشئ ، والطائفة من الشيءِ: القطْعَةُ منه، أو الواحِدُ فَصاعِداً. وأطافَ به: ألَمَّ به وقارَبَهُ. فأمَّا الطائفة من النّاس فكأنَّها جماعةٌ تُطِيفُ وتحيط بالواحد أو بالشيء ، ولا تكاد العرب تحدُّها بعدَدٍ معلومٍ، إلاَّ أن الفقهاء والمفسِّرين جعلوا لها حدا يقولون فيه مرّة: إنَّها أربعةٌ فما فوقها ، ومرَّة إنَّ الواحد طائفة ، وأنّ الثَّلاثة طائفة، ولهم في ذلك كلامٌ كثير، وكلَّ جماعةٍ يمكن أن تحُفَّ بشيء فهي عند العرب طائفة ، ولا يكاد هذا يكون إلاَّ في اليسير لأنّ الشئ يمكن أن يحيط به عدد قليل إلا إذا كان هذا الشئ ضخم كالجبل مثلا أما الإنسان فيمكن أن يحيط به ثلاثة أو أربعة أو خمسة على الأكثر. وقال الإمام الزمخشرى يؤكد نفس المعنى : " الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة؛ وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء." وقال الشيخ طنطاوى فى تفسيره : "والطائفة فى الأصل: اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة. وتطلق الطائفة عند كثير من اللغويين على الواحد فما فوقه." ويقول الإمام الطبرى : "والعرب تسمي الواحد فما زاد. طائفة. { مِنَ الـمُؤُمِنـينَ } يقول: من أهل الإيـمان بـالله ورسوله." وقال إسماعيل حقى : " والطائفة فرقة يمكن ان تكون حافة حول الشىء وحلقة من الطوف" وقال إبن عجيبة " الطائفة ": فرقة، يمكن أن تكون حافة حول الشيء، من الطوْف، وهو الإدارة، وأقلها: ثلاثة، وقيل: أربعة إلى أربعين.
وأولـى الأقوال لغويا فـي ذلك قول من قال: أقلّ ما ينبغي به شهود العقاب واحدا فصاعداً وذلك لأن الله لم يحدد عدد الطائفة وهو يعلم أنّ العرب تطلق هذا اللفظ علـى الواحد فصاعدا. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلوماً أن حضور ما وقع علـيه أدنى اسم الطائفة وهو الواحد كاف لشهود الـحدّ ، هذا من باب اللغة. أما من باب الفقه فالأحوط فقهياقول من قال : يجب حضور أربعة أنفس مؤمنة عدد من تقبل شهادته علـى الزنا لأن ذلك يرفع الخلاف تماما ويجمع كل الأقوال المختلفة. وعليه نوصى مراكز الشرطة بأن لا يحضر الحد أكثر من أربعة أشخاص من أهل الدين والصلاح ، وليس فى العقوبات التعزيرية شهود عدا ممثل المحكمة والشرطى الذى ينفذ العقوبة التعزيرية.
أولا نحب أنشير إلى أن المحتمل أن يكون الغرض من قوله تعالى: "بهما" لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الفاعل والمرأة مفعول بها فلا يجب عليها حدّ؛ فذكرهما جنبا لجنب رفعاً لهذا الإشكال. يقول الشيخ الصابونى فى تفسير آيات الأحكام معلقا على هذه الآية : "والمراد: النهي عن التخفيف في الجلد ، أو إسقاط الحد بالكلية كما نبّه عليه الألوسي." و قال الشيخ إسماعيل حقى فى تفسير روح البيان : "انه لم يرد الرأفة الجبلّية والرحمة الغريزية فانها لا تدخل تحت التكليفوانّما اراد بذلك الرأفة التى تمنع عن اقامة حدود الله وتفضى الى تعطيل احكام الشرع فهى منهى عنها ". وقال أبو بكر الجزائرى : " أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حَدَّ الله تعالى وتحرموهما من التطهيربهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها". وقال الإمام القشيرى فى تفسيرها : " والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطَّبعُ والعادة والسوء فمذمومٌ غيرُ محمود. ونهى عن الرحمة على من خَرَقَ الشرعَ، وتَرَكَ الأمرَ...". وقال الإمام القرطبى فى تفسيرها : " أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقةً على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع " . وقال أيضا: "وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعةكأنه قيل: أقيموا عليهما الحد ولا بد وروي معنى ذلك عن ابن عمر وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الشفاعة في إسقاط الحد،". من هذه الأقوال نفهم أنّ الرأفة المنهى عنها هى الرأفة التى تمنع تنفيذ العقوبة بالكلية أو التى تجلب الشفاعة من أهل الجاه والنفوذ أو التى تجعل العقوبة مسألة صورية لا تردع أصحاب المخالفات . والنهى عن الرأفة ليس من أجل القسوة فالقسوة فى القرآن منبوذة فى كثير من المواضع يعلمها العامة والخاصة ، وإنّما جاء النهى من أجل أمن المجتمع. فالمجتمع الذى يتهاون فى العقوبات كافرا كان أم مسلما ستحاصره الجرائم من كل جانب حتى تقتله ، والله يريد حياة المجتمع المسلم لا موته ولذا قال يخاطبهم جميعا : "وفى القصاص حياة لكم يا أولى الألباب".
وخلاصة الأمر أن الشريعة لم تأمر بالتشهير قطوقد جاء تشددها فى تنفيذ القانون لا فى فضيحة الجناة. وأن الإشهاد فى الحدود فى جريمة الزنا التى شهد عليها أربعة شهداء عدول وليس فى غيرها إشهاد. وعليه يمكن أن تنفذ كل هذه الحدود الشرعية والتعزيرات الإجتهادية فى هدؤ تام وبطريقة تحترم فيها إنسانية الإنسان ويقبلها المجتمع المسلم المعاصر وتكف بها ألسنة أعداء الإسلام!