boulkea@gmail.com
يدَّعي بعض الغلاة أنَّ العنف صفة جوهرية مصاحبة للدين الإسلامي, بعكس الأديان الأخرى, ويستندون في زعمهم هذا إلى عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآراء والفتاوى الفقهية التي تحثُّ المسلمين على القتال, وبالتالي فإنهم يخلصون إلى أن التنظيمات الإرهابية من شاكلة القاعدة وداعش تمثلُ الوجه الحقيقي للإسلام.
في مواجهة هذا الإدِّعاء, كنتُ أقولُ على الدوام أنه يتوجب إبتداءاً على الناظر في هذا الأمر التفريق بين الإسلام الدين, وبين فهم بعض الأفراد والجماعات لهذا الدين, ذلك لأنَّ تفسير النصوص يعكسُ في المحصلة النهائية "فهم" البشر ولا يُمثل بالضرورة "مقصد" الرَّب جل وعلا.
من هذا المُنطلق فإنه يُمكننا التفريق بين العديد من "الأفهام" للنصوص, وهى الأفهام التي تبلورت في شكل تيارات ومدارس فقهية و فكرية مختلفة تبنَّت أدوات تفسير متباينة لمعاني وغايات ومقاصد تلك النصوص ( على سبيل المثال المتصوفة والسلفية).
إنَّ التفسير الحرفي للنصوص الدينية ومحاولة توظيفها آيديولوجياً يؤدي – في مجال حديثنا – إلى نتائج كارثية, تتحوَّل معها التعاليم الدينية إلى آلة تدمير متوحشة, تتنافى مع الرسالة الأصلية للدين الهادفة أساساً لخدمة الإنسان, وهذا الأمر لا يقتصرُ على الديانة الإسلامية فحسب, ولكنه يمتدُ ليشمل مختلف الأديان.
ومن ناحيةٍ أخرى, يتوجب علينا دراسة التجربة الإسلامية التاريخية في "سياقها" الذي وجدت فيه, وعدم محاكمتها بمعايير اليوم, وهذا من دواعي العلمية والموضوعية.
لتوضيح هذه النقطة أضرب مثلاً بتوظيف التنظيمات الإسلامية المتطرفة للآية الخامسة من سورة التوبة المعروفة بإسم "آية السيف", قوله تعالي ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم إنَّ الله غفور رحيم ).
لا يكترث أصحاب القراءة الحرفية للنصوص "للسياق التاريخي" الذي نزلت فيه الآية أو "أسباب النزول", ويقولون أنها نسخت جميع "آيات السلم" الواردة في القرآن, ويعتبرون أنّ عدم الأيمان بالله والاسلام له يعتبر بحد ذاته مبرراً لإباحة قتل الانسان حتي اذا لم يكن هذا الإنسان عدواً محارباً.
ولكن الآيات التي تدعو للقتال ليست محصورة على القرآن, "فالكتاب المقدَّس" – على سبيل المثال - مليء بالآيات التي تنادي بالقتال وإستعباد الشعوب (كلمة "سيف" وردت في الكتاب المقدس أكثر من أربعمائة مرَّة), ومع ذلك لا يكلف غلاة الناقدين للنصوص الإسلامية أنفسهم عناء النظر في ذلك, ولا يجرؤون على وصف اليهودية بالديانة العنيفة.
جاء في الآيات من 10 إلى 18 من سفر التثنية : ( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها وإذا دفعها الرَّب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما. بل تحرمها تحريماً : الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك. لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهك ). إنتهى
لا شك أنَّ الفهم الحرفي لنص سفر التثنية سيقود صاحبه إلى أفعال مشابهة لتلك التي إقترفتها "داعش" في ظل حكم دولتها المزعومة, حيث تم سبي النساء "اليزيديات" وتعاملوا معهن كغنائم لمقاتلي التنظيم المتطرف, وفرضت الجزية على "المسيحيين" في سوريا, وكل تلك الممارسات قد تم إستنباطها من نصوص قرآنية مشابهة لنص العهد القديم أعلاه.
تقول الدكتورة "لين دافيس" الأستاذة بجامعة برمنجهام ببريطانيا في كتابها المهم "التعليم ضد التطرف", أنَّ ( التفسير الحرفي للنص، ولا سيما النصوص المقدسة، وترجمة ذلك التفسير إلى أفعال يمكن أن يؤدي إلى نتائج مدمرة. إنَّ الله يوصي بني إسرائيل في الكتاب المقدس بقتل العماليق، القبيلة الكنعانية الأصلية، جنباً إلى جنب مع نساءهم وأطفالهم ومواشيهم. ويمكن للمرء أن يفترض أن هذا سوف ينظر إليه الآن في سياقه التاريخي. ولكن بالنسبة للمسلحين الأصوليين مثل الحاخام "يسرائيل هيس"، الحاخام السابق لجامعة بار إيلان في تل أبيب، فإنَّ العماليق التاريخيين المذكورين في الكتاب المقدس يتم إسقاطهم على العرب الفلسطينيين المعاصرين. في مقالة له بعنوان "وصية الإبادة الجماعية في التوراة" تنتهي بالكلمات : " سيأتي اليوم الذي سنُدعى فيه جميعاً للوفاء بوصية الحرب الإلهية لتدمير العماليق ). إنتهى
القضية إذن ليست مرتبطة بدين محدد, ولكنها متعلقة بكيفية قراءة النص الديني, وفي هذا الإطار تقول دافيس أن المعضلة تكمن في ( ترجمة الأوامر في النصوص المقدسة أو غيرها إلى عمل، لأن الكثير يعتمد على اللغة ) وتضرب مثالاً لذلك بأنها عندما كانت تدرس في المرحلة الإبتدائية أنشدت مع غيرها : " سيروا أيها الجنود المسيحيون إلى الحرب", ومع ذلك فهى تقول ( لا أعتقد أننا في الواقع فهمناها حرفياً, كما أنها لم توجه حياتي أو تجعلني محاربة - ليس باسم المسيح على أي حال. الافتراض هو أنه في أعماقنا كنا نعرف أنه كان قياساً بقدر أي "معركة" - ضد الأوساخ، أو الانكماش، أو قمل الرأس ).
قد يقول البعض أنَّ المسيحية ليست كاليهودية والإسلام, فهى ديانة تدعو في الأساس للسلام والمحبة, وأن المسيح عليه السلام هو القائل ( إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وإذا أخذ أحدهم رداءك فأعطه إزارك ), ولكن هؤلاء يتناسون أنه قد ورد على لسان المسيح نفسه في "إنجيل متى" القول ( لا تظنوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقي سلاماً على الأَرض. ما جئتُ لأُلْقي سلاماً بل سيفاً. فإِنِّي جئتُ لأُفرِّق الإِنسَان ضدَّ أَبيه والإِبنة ضد أُمِّها والكنَّة ضد حماتها ).
وجاء على لسان المسيح كذلك في "إنجيل لوقا" ( فقال لَهم "يسوع": لَكن الآن مَنْ له كيسٌ فليأْخذهُ ومِزْوَدٌ كَذلك ومَنْ لَيس لَه فليَبِع ثوبهُ ويشترِ سَيْفاً ).
ولكن قد يباغتنا أحدهم بالسؤال : هل رأيت مسيحياً يُفجِّر نفسه ؟ وإجابتنا عليه تتمثل في أنَّ التجربة التاريخية للديانة المسيحية إشتملت على ممارسات عنيفة فظيعة ليس أقلها بالطبع "الحروب الصليبية" التي تمت بإسم المسيح عليه السلام, ولكن تحولاً عميقاً في المسيحية, خصوصاً بعد عصر الأنوار, جعلها تتجاوز ذلك النوع من القراءة والتفسير لنصوص الإنجيل, ومع ذلك مازالت بعض الجماعات مثل "الكو كلوكس كلان" في أمريكا تمارس العنف تحت شعار الصليب حتى اليوم.
ليس العنف قاصراً على أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث, بل هو يتعداها إلى الديانات الأخرى, ومنها تلك التي يُنظر إليها بإعتبارها أكثر الأديان تسامحاً ودعوة للسلم على وجه الأرض, وأعني الديانة "البوذية".
هذا الجانب من ممارسة العنف في ديانة مثل البوذية قد لا يعكس القراءة الخاطئة للنص المقدَّس, ولكنه بالقطع يُشير إلى "التوظيف الآيديولوجي للدين" لخدمة المصالح السياسية والقومية والإقتصادية وإستمرار الهيمنة, وليس أدل على ذلك مما يدور اليوم من عنف ممنهج "يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية " كما قالت الأمم المتحدة ضد أقلية "الروهينغيا" المسلمة في جمهورية "ميانمار".
مشهد العنف في ميانمار تصَّدرهُ "الرهبان" البوذيون وفي مقدمتهم الراهب "أشين ويراثو" الملقب ب"بن لادن البوذي", وفي سابقة إعلامية لم تتكرر حتى اليوم في الصحافة الغربية, قامت مجلة "تايم" الأمريكية في يوليو 2013 بنشر تقرير عن ذلك الراهب تحت عنوان "وجه الإرهاب البوذي" أوضحت فيه الكيفية التي يُحرِّض بها المئات من أتباعه البوذيون في معبده بمدينة "ماندلاي" ثاني أكبر المدن بعد "رانغون" العاصمة.
يقول الراهب في خطبته : "لا يوجد وقتٌ للهدوء الآن, بل هو وقت إنتفاضتكم, وجعل دماءكم تغلي", "المسلمون يتكاثرون ويريدون أن يحتلوا بلادكم, ولكنني لن أسمح لهم بذلك, يجب علينا أن نحتفظ بميانمار بوذية".
هذا الخطاب الديني المتشدِّد و المثير للكراهية أدى إلى مقتل المئات وتشريد الآلاف من المسلمين الروهينغيا, ومع ذلك لا تسمع أو ترى في أجهزة الإعلام الغربية إدانة له مثل تلك التي توجه لممارسات داعش والقاعدة.
يقول تقرير مجلة تايم أن الديانة البوذية ( بالنسبة للكثيرين في العالم، تعتبرُ مرادفاً للاعنف والمحبة و اللطف، وهى المفاهيم التي نشرها سيدهارتا غوتاما "بوذا" منذ 2500 سنة. ولكن مثل أتباع أي دين آخر، البوذيون ورهبانهم ليسوا بمنأى عن السياسة، وفي بعض الأحيان، إغراء الشوفينية الطائفية ).
غير أنَّ العبارة الأكثر أهمية الواردة في ذلك التقرير والتي تلخص فكرة مقالنا هذا, تمثلت في القول أنَّ ( كل ديانة يمكن أن يتم تحويلها إلى قوة مدمرة مُسمَّمة بالأفكار التي تتناقض مع أسسها, والآن جاء دور البوذية ).
أمَّا الإجابة على السؤال حول القتل و تفجير النفس, فإنني أُحيل السائل إلى حوادث إغتيال الرئيس الهندي الأسبق "راجيف غاندي" ووالدته "أنديرا غاندي", حيث مات الأول "بحزام ناسف" كانت ترتديه إمرأة من "الهندوس", بينما قتلت أمه برصاص إثنين من حراسها ينتمون للديانة "السيخية" إنتقاماً لتدمير معبدهم وقتل رئيسه.